•تعمل شخصيات رفيعة حالياً من وراء الكواليس في مسعى لمنع أي مفاجآت غير سارة وتأجيل حدوث مواجهة بين إسرائيل وحماس لأطول مدة ممكنة. ومن بين المنخرطين في هذه الجهود السفير القطري محمد العمادي، رئيس لجنة إعمار قطاع غزة الذي يعمل باسم أمير قطر الشيخ [تميم بن] حمد بن خليفة آل ثاني وبتكليف منه؛ ونيكولاي ملادينوف، وزير الخارجية البلغاري السابق الذي عيّنه في العام 2013 الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون منسقاً لعملية السلام في الشرق الأوسط؛ وموسى أبو مرزوق نائب خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"؛ والجنرال يوءاف مردخاي، منسق عمليات الحكومة الإسرائيلية في الأراضي [المحتلة].
•وخلال زيارتي للدوحة الشهر الماضي، أطلعني مسؤول كبير في وزارة الخارجية القطرية على لقاءات سرية جارية بين مردخاي والعمادي. وبحسب هذا المسؤول، "التقى العمادي مردخاي مرتين أو ثلاث مرات في إسرائيل، ومرة واحدة في إحدى الدول العربية". وتابع قائلا: "وأفضت هذه اللقاءات إلى تفاهمات حول الحاجة الملحة لإعادة إعمار قطاع غزة، ومعالجة الشؤون الإنسانية، واجتناب الجولة العسكرية القادمة. وكان مهماً بالنسبة لنا أن نوضح للجنرال [الإسرائيلي] بأن نياتنا تقتصر على المساهمة في إعمار قطاع غزة وليس تمويل الإرهاب. لا أحد يريد إطلاق صواريخ على إسرائيل. وحركة حماس ضعيفة ومتعبة".
•يتضح الآن أن قيادة حركة "حماس" (السياسية وليس العسكرية)، كانت تبعث، منذ بعض الوقت، برسائل حول رغبتها في تهدئة طويلة الأمد مع إسرائيل، مع ظهور إشارات عن ذلك لأول مرة بعد شهرين من عملية "الجرف الصامد".
•في المرحلة الأولى، اختير رجال أعمال من قطاع غزة لديهم تصاريح خروج من القطاع ودخول إلى إسرائيل، من أجل نقل رسائل غامضة، لكنهم اصطدموا بجدار من الرفض في الجانب الإسرائيلي.
•لكن، بعد مرور شهر، سلم ناقلو الرسائل "خطة من عشر نقاط" لوقف الهجمات الصاروخية، فضلاً عن وثيقة تقترح "تهدئة متدحرجة" لمدة عام، قابلة للتمديد خمسة أعوام إذا وافقت إسرائيل على مطالب حركة "حماس".
•ويقول مسؤول إسرائيلي: "حركة حماس أدت واجبها على أتم وجه. فقد وضعوا خطة لإعادة إعمار الأحياء المدمرة؛ وتحدثوا عن ضائقة ويأس السكان الذين دمرت منازلهم والمحتمل أن يتفجر غضبهم؛ ووضعوا قائمة مثيرة للإعجاب بمصادر التمويل. وكان هذا مصحوباً بمطلب متعنت لإقامة مطار وميناء، وفتح المعابر إلى إسرائيل ومصر من دون قيود".
•رُفضت رحلة الاستكشاف الثانية أيضاً من قبل مكتب رئيس الحكومة ووزارة الدفاع. لكن بحسب المسؤول الإسرائيلي، لم تتراجع حركة "حماس". "بدأت جدياً بإحاطة كل دبلوماسي غربي، أو كل مبعوث أجنبي يزور القطاع. كما توجهت إلى الاتحاد الأوروبي ومبعوث الأمم المتحدة الخاص، وعمدت إلى تعديل خطة النقاط العشر، وطلبت من الوسطاء إفهام إسرائيل بالنيابة عن قيادة "حماس"، أنه إذا فشلت إسرائيل بالاستجابة، فسيكون من المستحيل اجتناب الجولة القادمة من القتال".
•والآن أيضاً، بعد أن بدأت إسرائيل برفع الحصار بالتدريج (سمح في الأسابيع الأخيرة بخروج نحو ألف شخص في اليوم من قطاع غزة). وبعد أن حصلت قطر على الموافقة على إرسال مواد غذائية وتجهيزات أخرى إلى القطاع، وبعد حصول 92 ألف شخص من قطاع غزة على مواد بناء (تم تسجيلها على اسمهم لضمان عدم استخدامها في بناء أنفاق)، لا يزال المسؤولون الإسرائيليون مصممين على نفي إجراء أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، وعلى القول إنه لا يجب انتظار اتفاق.
•في غضون ذلك، يبدو الوضع الميداني أكثر هدوءاً: "حماس تمنع تنظيمات إرهابية أخرى من استفزاز إسرائيل"، بحسب ما يقوله المسؤول الإسرائيلي الكبير. "وإسرائيل تكافئهم بربط قطاع غزة بشبكة الغاز الطبيعي الإسرائيلية وبمشروع تحلية المياه. جرى مد خط أنابيب إضافي للمياه، وخط كهربائي إضافي من إسرائيل".
•وفي نهاية الأسبوع الماضي، خرج أبو مرزوق من قطاع غزة إلى قطر لإطلاع خالد مشعل على المستجدات وعرض الوثيقة التي صاغها الوسيط البلغاري ملادينوف. وهذه الوثيقة التي تتضمن آخر مقترحات التهدئة لا تحمل أي بصمة إسرائيلية. وحتى عنوانها غير محدد. ونص الوثيقة لا يلحظ تهدئة لمدة خمسة أعوام أو عشرة أعوام كما نشر في مكان آخر. وبدلاً من ذلك، تطرح الوثيقة معادلة جذابة: أعطونا وقفا كاملا لإطلاق النار من قطاع غزة وسوف تحصلون على رفع تدريجي للحصار من إسرائيل ومصر، فضلا عن امتيازات اقتصادية لقطاع غزة، مثل: أولا وقبل كل شيء، السماح لسكان غزة بتصدير الفواكه والخضار إلى إسرائيل خلال العام الذي يحظر فيه على المزارعين الإسرائيليين حراثة حقولهم [كل سبعة أعوام في التقويم اليهودي].
•ويقول المسؤول الإسرائيلي: "كلما صمد هذا الاتفاق، سيكون من الأسهل تمديده ومكافأة سكان قطاع غزة على "حسن السلوك"".
•إحدى أهم العقبات على طريق اتفاق التهدئة تتعلق بإقامة ميناء بحري في قطاع غزة. وفي هذا السياق ينبغي التمييز بين القيادة السياسية لحركة "حماس" التي تبحث عن قنوات تؤدي إلى القصر الملكي في السعودية وإلى مكتب الرئيس في القاهرة، والذراع العسكري المصمم على البقاء وفياً لإيران.
•وأوضح الذراع العسكري لحركة "حماس" أنه لن تكون هناك تفاهمات، أو اتفاقات، إلى حين موافقة إسرائيل على إقامة ميناء بحري في قطاع غزة، وعلى إطلاق سراح أسرى "حماس". ويقولون إنه من دون ميناء، "ليس هناك ما نتحدث عنه". وفي المقابل، يقول ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي ما يلي: "ميناء؟ نحن لم نصب بالجنون حتى الآن. هذا لن يحدث أبدا".
•لكن حتى لو توصل الجانبان إلى اتفاق مبدئي حول إقامة ميناء، فمن المتوقع أن يبقى السؤال حول من يشرف على سير العمل فيه، حتى لا يتحول إلى بوابة لحركة "حماس"، لتهريب السلاح والذخيرة إلى قطاع غزة.
•اقترحت حركة "حماس" إشراف حلف الناتو من خلال قوات تركية؛ لكن إسرائيل لن توافق ابداً على تدخل تركيا، وهي ستصر على رقابة إلكترونية إسرائيلية على كل ما يخرج من ميناء غزة ويدخل إليه، مثلما يحدث على المعابر الحدودية بين قطاع غزة وإسرائيل.
•"صحيح أن الطرفين - إسرائيل وحركة حماس - يريدان منع الجولة القادمة من القتال"، حسبما يقول مراقب أجنبي يتابع منذ مدة تبادل الرسائل بين كل من قطاع غزة ووزارة الدفاع في تل أبيب، القاهرة، الدوحة، أنقرة، ومقر الأمم المتحدة في نيويورك. "لكن برغم التقارير والإشاعات، فنجاح هذا الأمر ليس مضمونا".
•وحسب تقدير هذا المراقب، حتى إذا توصل الجانبان إلى تفاهمات، فلن تؤدي هذه العملية إلى اتفاق.... ستستمر إسرائيل في اعتبار حركة "حماس" تنظيما إرهابيا، وحركة حماس لا تنوي الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود".
•تحدثت مع مسؤول إسرائيلي فوجدته أكثر تفاؤلا. قال: "حالياً، تبذل حركة حماس جهودا هائلة لمنع الفصائل المارقة من إطلاق صواريخ ضد إسرائيل، وإسرائيل تسمح بدخول مزيد من مواد البناء إلى قطاع غزة، وتزيد عدد تصاريح العبور من قطاع غزة إلى الضفة الغربية تحت عنوان "لفتات إنسانية"، و"تحسين مستوى الحياة"، في أعقاب الدمار الفظيع الذي تسببت به عملية "الجرف الصامد".
•وبحسب المسؤول الإسرائيلي، "أصيبت حركة حماس بحالة من الهلع بسبب احتمال تلقي تنظيم "داعش" الدعم والتأييد في قطاع غزة. كما وصلت العلاقة بين حركة حماس والرئيس المصري السيسي إلى الدرك الأسفل. وفي الأيام الأخيرة فقط قررت القاهرة تخفيف بعض الضغط من خلال شطب اسم الذراع السياسي لحركة حماس عن قائمة التنظيمات الإرهابية.
•ومع حلول شهر رمضان، هم يفتحون معبر رفح. ومصر تريد إفهام قادة حركة "حماس" أن القاهرة هي التي تضع قواعد اللعبة: فإذا لاحظت أن هناك استئنافاً لعمليات التهريب من وإلى شبه جزيرة سيناء، وعمليات تسلل لخلايا إرهابية، فهي سوف تغلق كل شيء من جديد".
•وفي الوقت الذي يجلس فيه خالد مشعل وموسى أبو مرزوق في الدوحة، تطير التقارير فوق رؤوسهم وتشير إلى اتجاهات مختلفة. يقول أسامة حمدان، المسؤول عن العلاقات الخارجية في حركة حماس: "استلمنا وثيقة". وفي الوقت نفسه، يقسم أنه "لن يكون هناك اتفاق مع إسرائيل قبل إطلاع سائر الفصائل الفلسطينية على مضمونه".
•ويحاول نبيل أبو ردينة، الناطق باسم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إقناع الجميع بأن حركة فتح لا تعارض التهدئة، لكنه يتهم حركة "حماس" بالعمل من وراء ظهر عباس.
•ويتلقى أبو ردينة صفعة من أحمد يوسف القيادي في حركة حماس، الذي يزعم أن "عباس يشوش عن قصد على عملية إعمار قطاع غزة". ويقترح عليه "أن يستقيل ليحل مكانه من هو أصغر سناً وأكثر كفاءة لإدارة شؤون فلسطين".
وبحسب المسؤول في وزارة الخارجية القطرية، اقترح الجنرال مردخاي على المبعوث القطري، العمادي، زيارة رام الله لوضع عباس في الصورة، وتبديد أي شبهات حول سعي أي كان لتخطيه وتجاهل السلطة الفلسطينية. وقام بالفعل العمادي بزيارة للمقاطعة، مرة أو مرتين.
•لكن زعيم السلطة الفلسطينية لم يقتنع. وقال المسؤول القطري: "عباس يشك في أن نتنياهو يساعد على إقامة كيان مستقل في قطاع غزة ضده، كي يعلن قطاع غزة كيانا متمردا، ويعلن انشقاقه - مثلما فعل الملك (الأردني) الراحل حسين حين الانفصال عن الضفة الغربية".
•وأفيد ليل يوم الثلاثاء عن قرار أبو مازن حل حكومة الوحدة الفلسطينية. وفي حين لم تعمل هذه الحكومة فعليا، جاء حلها أساسا للتعبير عن خيبة أمل وغضب رئيس السلطة الفلسطينية.
•وفي هذه الأثناء، ألغى عباس خططه لزيارة قطاع غزة، وأعلنت حركة "حماس" أنها لن توافق على تمركز أجهزة السلطة الأمنية على معابر قطاع غزة. وبقدر ما يقف قطاع غزة بسرعة على أقدامه من جديد بتمويل قطري ودفع من إسرائيل، فإن المقاطعة في رام الله تضعف. "سوف يشكل عباس الآن حكومة من الموالين له، ويطرد كل من هو مقرب من حركة حماس"، حسب ما يقوله أحد المقربين من الرئيس الفلسطيني.
•"نحن نعيش في قطاع غزة في ظل بواعث قلق خطيرة"، بحسب قول الدكتور مخيمر أبو سعدة، استاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر في غزة. "نحن قلقون من إغلاق مصر لمعبر رفح لأنه لا مصلحة فعلية لها في أن تكون خط الخروج الدائم لمليوني شخص من قطاع غزة."
•"ونحن قلقون من احتمال أن يعرقل عباس تحويل رواتب 30 ألف موظف حكومي في قطاع غزة. كما أننا قلقون من عدم بذل نتنياهو جهدا كافيا لتحقيق اتفاق التهدئة، تماما كما أنه لا يبذل جهدا لإحراز تقدم نحو السلام مع عباس في رام الله".
•وتبقى هناك علامات استفهام كبيرة معلقة فوق كل ذلك: كيف ستتمكن حركة "حماس" من فرض التهدئة على المجموعات العسكرية والميليشيات في قطاع غزة؟ ما الذي سوف يبقي كتائب عز الدين القسام هادئة؟ وماذا تستطيع إسرائيل تقديمه من دون إطلاق أسرى حركة حماس؟
•لكن حتى من دون اتفاق، تحقق حتى الآن تفاهم واحد بين قطاع غزة وإسرائيل: إعادة القاهرة إلى الصورة. فإسرائيل تثق بالسيسي وبقدرته على التعامل مع حركة "حماس". وهي تفضل استبعاد العنصر القطري، وإخراج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الإطار - بأسرع ما يمكن.