•من الصعب أن نصدق، لكن الكلام الذي قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما هذا الأسبوع بشأن فرص التوصل إلى تسوية فلسطينية – إسرائيلية بدا مطابقاً لكلام وزير الدفاع موشيه يعلون بهذا الشأن قبل بضعة أيام في جلسة مغلقة. وبدا لوهلة أن تقديراتهما مستقاة من التقرير عينه، ذلك بأن الاثنين قالا إن التسوية السلمية للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني التي سيجري التوصل إليها من خلال المفاوضات ستخدم المصالح الحيوية للطرفين، لكنهما في الوقت عينه أعربا عن تقديرهما أنه في الفترة المقبلة وفي ظل الوضع الفوضوي والمتفجر الذي يسود الشرق الأوسط لا يمكن التوصل إلى اتفاق دائم يستند إلى تنازلات متبادلة.
•ويبدو واضحاً أن الرجلين يعتقدان بضرورة إدارة النزاع بحكمة في الوقت الحالي، وبعدم محاولة حله بصورة نهائية إلى أن يستقر الوضع في الشرق الأوسط وتضعف الموجة الإسلامية المتطرفة. إذ يرى يعلون أن التاريخ يبين لنا أن محاولات فرض حل دائم بالإكراه تنتهي بالعنف والدموع. ويتفق الاثنان على أن ما يحتاجه طرفا النزاع اليوم، وما يحتاجه الاستقرار الإقليمي، هو أعمال على الأرض من شأنها أن تحسن بصورة واضحة وجذرية الوضع الاقتصادي ونوعية حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
•كذلك يثق يعلون بأن تقديم تسهيلات كبيرة لسكان يهودا والسامرة [الضفة الغربية]، بالإضافة إلى مساعدة دولية بقيادة إسرائيل من أجل إعادة إعمار قطاع غزة سيحولان، أو على الأقل سيؤجلان، إلى وقت طويل انتفاضة في الضفة وجولة عنف جديدة في القطاع. أمّا أوباما فيشدد على أن من شأن مثل هذه الخطوات أن تخلق مناخاً سياسياً سيسمح للإسرائيليين والفلسطينيين، عندما يحين الوقت، بالعودة إلى طاولة المفاوضات، وبتقديم التنازلات المتبادلة المطلوبة من أجل التوصل إلى اتفاق دائم.
•لكن ثمة فرق بين كلام الرئيس الأميركي وكلام وزير الدفاع في التفاصيل. إذ بينما يتحدث أوباما عن خطوات لـ"بناء الثقة" مطلوب تنفيذها في وقت قريب من أجل تحضير النفوس وتقريب المواقف السياسية في سبيل التوصل إلى اتفاق دائم في المفاوضات، يتحدث يعلون عن تعزيز "Modus Vivandi" تعايش يحيا في ظله الإسرائيليون والفلسطينيون جنباً إلى جنب بهدوء نسبي، والمقصود هو استمرار الوضع القائم حيث يحظى الفلسطينيون بسلطة سياسية مستقلة، إلى جانب تقديم تسهيلات مهمة تهدف إلى تحسين اقتصادهم وزيادة حرية حركتهم والحؤول دون شعورهم بأن هناك من يحاول سلبهم أرضهم. وبذلك يكون أوباما، مثل يعلون، يدرك أن الترتيب الأنجع والأفضل بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وأيضاً بالنسبة إلى الزعامة الفلسطينية، هو اتفاق أمر واقع(De Facto) يُستخدم كأساس لتسوية دائمة مستقبلية يجري بناؤها "من تحت إلى فوق".
•وقد اتضح، في الأسبوع الأخير، أن الولايات المتحدة ليست الوحيدة التي تبحث عن تسوية موقتة، بل يبدي أبو مازن تدريجياً أيضاً مرونة في موافقه، إذ قال قبل أسبوعين فقط إنه يطالب أن توقف إسرائيل غاراتها في النهار والليل لاعتقال مطلوبين فلسطينيين من "حماس" والجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي في مناطق (أ) و(ب)، وذلك كشرط لأية مفاوضات مستقبلية.
•ويدرك أبو مازن أيضاً أن "عملية جز العشب" [الاسم الذي يطلقه الإسرائيليون على هذه العمليات] ضرورية من أجل بقائه الجسدي والسياسي، ذلك بأن "حماس" والجهاد الإسلامي يشكلان خطراً عليه وعلى السلطة لا أقل - ربما أكثر - من خطرهما على إسرائيل. لكنه يطالب "باحترام السيادة الفلسطينية" لأن هذا يساعده في جعل المجتمع الدولي يفرض على إسرائيل الانسحاب إلى حدود 1967. كما يدرك الرئيس الفلسطيني ضرورة عدم المبالغة، إذ أنه يريد الاستمرار في الحصول على أموال المساعدات الأميركية والأوروبية، ومن أجل هذا الهدف يطرح ثلاثة شروط لمفاوضات مباشرة مع إسرائيل، هي: تقديم بادرتين فوريتين للفلسطينيين هما: وقف البناء في المستوطنات وإطلاق قدامى الأسرى، وموافقة على تأجيل التسوية الدائمة سنتين، أي إلى نهاية سنة 2017. ومعنى هذا أن أبو مازن يبحث أيضاً عن سلم للنزول عن الشجرة العالية التي صعد إليها من خلال رفضه الشديد لاتفاق موقت مع إسرائيل.
•ما الذي دفع واشطن إلى أن تغير موقفها إزاء فلسطين؟ وهل موقفها الحالي هو نتيجة "إعادة النظر" المستقلة التي أعلنها الرئيس في آذار/مارس 2014، وفشل المفاوضات التي أجراها وزير الخارجية كيري؟ وهل التوافق في الخط بين الأميركيين ووزارة الدفاع الإسرائيلية هو ثمرة تفاهمات سرية جرت في الأشهر الأخيرة؟ من الممكن أن يكون أوباما قد أصابه اليأس منا ومن الفلسطينيين، وأنه يدرك أن المفاوضات المباشرة لن تثمر عن تسوية موقتة في الأوضاع الإقليمية الراهنة، ويدرك أنه إذا فشلت مفاوضات يجريها أبو مازن ونتنياهو بعد أشهر أو سنة فإن ذلك سيؤدي بالتأكيد إلى ازدياد وتيرة العنف في الضفة أو في غزة أو في كليهما.
•في تقديري، واستناداً إلى معلومات جزئية، فإن جميع هذه الإجابات صحيحة، ذلك بأن الحوار الجاري في واشنطن بين إسرائيل والولايات المتحدة في الأوساط الاستخباراتية، وبين كبار أعضاء مجلسي الأمن القومي في القدس وواشنطن، أدى إلى تقديرات استخباراتية متشابهة فيما يتعلق باحتمال حدوث اختراق في الموضوع الفلسطيني. كما أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة عززت شعور واشنطن بلا جدوى المفاوضات. ويرى الأميركيون أن ممارسة الضغط على نتنياهو وأبو مازن ستكون له نتائج عكسية، وستؤدي إلى تراجع الطرفين وإلى اتهام الوسيط الأميركي بفشل المفاوضات.
•بيد أن السبب الأكثر أهمية هو إصرار أوباما على توقيع الاتفاق النووي مع إيران الذي يعتبره أحد أهم إنجازين لسياسته الخارجية (الإنجاز الآخر هو تحويل شرق آسيا إلى هدف أساسي في السياسة الخارجية والتجارة الأميركية). وفي هذا السياق، فإن كل ضغط أميركي على نتنياهو في الوقت الراهن ليس فقط أنه لن يسفر عن أية نتيجة، بل قد تكون له نتائج مدمرة على المساعي الرامية إلى الحصول على موافقة الكونغرس الأميركي على الاتفاق النووي مع نظام آيات الله.
•في المقابل فإن التنسيق العلني بين واشنطن والقدس في الموضوع الفلسطيني قد يؤدي إلى تحسين الأجواء وإلى تخفيف حدة ردات الفعل التي سيعبر من خلالها نتنياهو ويعلون عن انتقادهما للاتفاق النووي مع طهران.
•لكن بعد توقيع الاتفاق مع آيات الله وموافقة الكونغرس الأميركي على رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران، فإن القصة ستصبح مختلفة جداً، ومن الممكن جداً في تموز/يوليو- آب/أغسطس، أو ربما خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر من هذه السنة أن نسمع من الأميركيين كلاماً في الموضوع الفلسطيني أقل لطفاً بكثير من الذي سمعناه في نهاية الأسبوع الماضي. ومن المتوقع حينها أن تزداد حملة نزع الشرعية التي يخوضها أبو مازن ضدنا وأن تحقق نجاحاً لا بأس به.
•ومن أجل معالجة هذا الخطر أنشأ الجيش الإسرائيلي في الفترة الأخيرة جهازاً خاصاً في شعبة التخطيط مهمته الاهتمام أيضاً بالدبلوماسية العسكرية. وسوف يُستخدم هذا الجهاز، كما في الماضي، كقناة اتصال بالجيوش الأجنبية التي يتواجد جنودها على حدودنا في إطار قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، كما سيتصل بالجيشين المصري والأردني وبجهات أُخرى في المنطقة. وقد أُضيفت له اليوم مهمة جديدة هي محاربة حملة نزع الشرعية التي سيخوضها الفلسطينيون والمحور الراديكالي ضد دولة إسرائيل وجيشها في أثناء المعارك، والتي تهدف إلى تقييد يد الجيش ومنعه من استخدام كامل قوته عندما ستعرض إسرائيل لهجوم عشرات آلاف الصواريخ التي تهددها من لبنان ومن غزة.
•في جميع الأحوال، علينا الاعتراف بأنه خلال الأشهر الثلاثة المقبلة وحتى توقيع الاتفاق النووي مع إيران وإقراره في الكونغرس الأميركي، ثمة فرصة سياسية وأمنية أمام إسرائيل، من الخطأ عدم استغلالها، لتحسين العلاقات بإدارة أوباما التي تمد يدها إلينا، ولتعزيز التعاون الأمني معها.