•نحيي هذا الأسبوع ذكرى مرور 21 سنة على وفاة أهارون ياريف الذي كان وزيراً في الحكومة الإسرائيلية ولواء في الجيش، وتولى منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ["أمان"] على مدار ثماني سنوات، هي الولاية الأطول لمن خدم في هذا المنصب.
•ولعل إحدى المزايا التي جعلت ياريف شخصية أسطورية، أنه أولى الشك قدسية في أي بحث أجراه وقبيل أي قرار حاسم اتخذه. ويجدر بوزراء حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة أن يتبنوا هذا النهج عند سماعهم تقديرات أجهزة الاستخبارات ولدى بلورة استراتيجية الدولة للسنوات المقبلة.
•في الماضي كان هناك مفهومان أساسيان ميّزا نهج الجيش الإسرائيلي إزاء الحروب وأهدافها: أولاً، ضرورة نقل القتال إلى أرض العدو؛ ثانياً، السعي إلى تحقيق الحسم. وفي السنوات الأخيرة تسبب الواقع المستجد بتوجيه صفعة مدويّة إلى هذين المفهومين، فالسلاح الصاروخي الذي في حيازة العدو أفرغ المفهوم الأول من مضمونه، في حين أن موازين القوى في ساحات المواجهة باتت لا تسمح بتحقيق الحسم. في الشمال (لبنان) وفي الجنوب (غزة) على حد سواء، قام الجيش الإسرائيلي بسحب قواته من مناطق سيطر عليها فترة زمنية طويلة، والخصوم غير الدولتيين لإسرائيل - ولا سيما حزب الله و"حماس" - بقوا على حالهم.
•في السنوات الأخيرة أولى قادة الدولة وزناً متزايداً لمفهوم استراتيجي ثالث هو ردع العدو. وبناء على ذلك في حالات كثيرة تحدّدت غايات هذه الحملة العسكرية أو تلك بهدف "إعادة الردع". ولا بد من القول إن هذا النهج الذي لا يزال يسيطر على الخطابين العام والسياسي، يتعامل مع الخصم باعتباره طرفاً ندًّا في المعادلة، وبذلك يضفي عليه شرعية. ولا شك في أن هذا التعريف إشكالي بالنسبة لقيادة دولة سيادية تقف أمام خصمين كهذين. لكن في الوقت عينه، من الواضح أنه خلال العقود الأخيرة أصبحت هناك صعوبة في أن تحدّد للجيش وللجمهور أهدافاً واسعة النطاق لأي حرب أو عملية عسكرية.
•في أكثر من مرة جرى استخدام مقولات مثل "هدف العملية إزالة التهديد عن سكان الجنوب" أو "تغيير قواعد اللعب حيال حزب الله في الشمال". وجرى تفسير الهدوء الذي ساد لفترة زمنية محدودة في نهاية الحملة بأنه إنجاز. غير أن معادلة "الهدوء في مقابل الهدوء" كانت في نظر الخصوم تعظّم الإحساس بأن هناك تعادلاً بين الجانبين.
•ثمة تعبير آخر يحتاج إلى استيضاح هو "المهمة: الحفاظ على حدود الدولة"، وكذلك تعبير "حدود آمنة وقابلة للدفاع عنها". ولكن حين يكون لدى أعدائنا صواريخ وقذائف صاروخية، فإن الحفاظ على الحدود لن يحمي أي بلدة داخل إسرائيل، فضلاً عن أن الحفاظ على الحدود لا ينطوي على أي بعد عسكري - استراتيجي. إن الحدود مطلوبة وحيوية لتحديد المجال السيادي لكل دولة، لكن ليس كساحة تدور فيها رحى معارك على مجرّد وجود إسرائيل.
•إن الشك لا يعني أن كل مفاهيمنا الأساسية انهارت، إنما يأتي ليشير إلى أن الحكومة الجديدة مطالبة في مداولاتها السرية لا بأن تستمع إلى استعراض حول قدرات العدو وقدرات إسرائيل في ما يتعلق بالتصدي للأعداء فقط، بل أيضاً القيام بمراجعة جذرية لكل المفاهيم التي عملت إسرائيل بموجبها في العقود الأخيرة ومراجعة الأهداف التي وضعتها لنفسها.
•لن أُفاجأ إذا ما تبيّن [من خلال هذه المراجعة] أننا في العقود الأخيرة لم نحقق أياً من أهدافنا الاستراتيجية على طول خطوط المواجهة، باستثناء 40 سنة هدوء على طول خط الفصل بين إسرائيل وسورية، هذا الإنجاز المعرّض هو أيضاً للخطر الآن في ضوء تفكك نظام الأسد (خلافاً لسورية توجد لدينا مع مصر والأردن خطوط سلام). هل مثلاً قدرنا بأن حركة "حماس" ستصمد 50 يوماً وتنهي الحرب الأخيرة [عملية "الجرف الصامد"] مثلما أنهتها؟ هل أخطأنا في تقدير النتيجة وفهمها؟ إذا كنا لم نحقق شيئاً من خلال الطريق الذي سرنا فيه، أفليس هذا هو الوقت الملائم لدرس بدائل أخرى؟
•ثمة ضلع حيوي آخر للنهج الأمني هو الجانب السياسي. إن حقيقة أن إسرائيل تحرص منذ سنوات عديدة على تحقيق ردع متبادل مع كيانات غير دولتية ليست مسألة فلسفية فقط، فالحكومة مطالبة بأن تحدّد لنفسها بوضوح ما هو موقف إسرائيل من عدويها [حزب الله و"حماس"] وكذلك من السلطة الفلسطينية، إذ إنه ليس لدى إسرائيل قول واضح وصريح بشأن هذه المسألة. ولا يجوز أن ننسى قاعدة أخرى هي في صلب سلوكنا: المبادرة والسعي إلى الاشتباك العسكري والسياسي مع الخصم، فإن الذي لا يبادر يترك الملعب للخصوم.