الجانب الاقتصادي في "الجرف الصامد": مهم لفهم النزاع ومن المهم حله*]
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
المؤلف

•نشبت الحرب بين إسرائيل و"حماس" في أعقاب سلسلة أحداث من بينها خطف الشبان اليهود الثلاثة وقتلهم، وعمليات الجيش الإسرائيلي ضمن إطار "عودة الأبناء" التي شملت اعتقال عدد من الفلسطينيين المحررين في صفقة شاليط، وجريمة الانتقام من فتى عربي، ومشاعر الغضب التي أثارها هذا كله. في هذه الأثناء تظهر "حماس" رغبة في مواصلة حربها ضد إسرائيل في ظل ظروف إقليمية متغيرة. هدف هذا المقال هو الإشارة إلى وجود بُعد اقتصادي جوهري في عملية "الجرف الصامد" تموز/يوليو 2014، وهو الوضع الاقتصادي في غزة الذي هو أيضاً عامل حاسم في أي حل قابل للحياة.

•الوضع الاقتصادي في غزة عشية الحرب

هناك 1,76 مليون نسمة يسكنون غزة مما يجعلها في المرتبة الثالثة بين الأماكن الأكثر كثافة سكانية في العالم، إذ يقطن 4,800 شخص في الكيلومتر المربع الواحد.

وتعتبر البنية التحتية في غزة في وضع سيئ للغاية، وحتى في الأوقات العادية تنقطع الكهرباء والمياه وتطرأ أعطال على الصرف الصحي. ويعاني سوق العمل بطالة مرتفعة بلغت في الربع الأول من سنة 2014 نحو 41% بالمقارنة مع 26% في الضفة. وبين الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً، هناك فقط 39% يشاركون في سوق العمل منهم 32% موظفون و10% يعملون جزئياً، إلى جانب 58% عاطلين عن العمل، بينما في الضفة هناك 42% يشاركون في سوق العمل من بينهم 63% موظفون، و9% يعملون جزئياً، و29% عاطلون عن العمل.

في ظل هذه الظروف لا مجال للإنتاج بحجم كبير، فاستناداً إلى أرقام البنك الدولي يتراوح الناتج الفردي في غزة بين 1500 و1600 دولار في السنة، مقابل 3100 إلى 3200 دولار في السنة في الضفة. وعلى الصعيد العالمي، تأتي غزة في الدرجة 174 بين 223 دولة. وللمقارنة، تحتل إسرائيل المرتبة 32 ويبلغ الناتج العام الفردي فيها 36000 ألف دولار سنوياً.

•الوضع الاقتصادي كدافع للحرب

أولاً: في أغلب الأحيان تدفع الأزمات الاقتصادية الشعوب إلى مواجهات عسكرية أو إلى أنواع أخرى من العدوان. ثانياً: الوضع الاقتصادي السيئ في غزة ازداد حدة في الفترة الأخيرة مع تبدل النظام في مصر وما قام به ضد الأنفاق والمعابر، وكذلك مع التشديدات التي فرضتها إسرائيل على الحدود. وفي الواقع يخضع قطاع غزة إلى نظام حاد من العقوبات الاقتصادية من جانب مصر وإسرائيل. ثالثاً: إلى جانب القيود المفروضة على الاقتصاد عامة، طرأ انخفاض على الدعم المالي الذي تحصل عليه "حماس" من إيران وسورية، وبرزت صعوبة في دفع رواتب موظفي القطاع العام فيه. من هنا مطالبة "حماس" في مفاوضات وقف إطلاق النار وقبلها في المحادثات مع "فتح" بشأن تشكيل حكومة مصالحة، برفع الحصار عن غزة. لقد كانت الأنفاق إلى سيناء هي الرد "الطبيعي" على العزلة الاقتصادية. ومن المحتمل جداً أن الأسباب التي أدت إلى مفاقمة هذا الوضع وإلى عدم وجود حلول مبتكرة له، تعود إلى أخطاء ارتكبتها السياسة الإسرائيلية.

•مقترحات حل قابل للحياة

إن البعد الأكثر أهمية للحل هو ذلك المتعلق بتحسين المستوى الاقتصادي بصورة كبيرة، فإذا صار للغزاويين ما يخسرونه، سيتراجع استعدادهم للمواجهة. وأي حل في المدى البعيد يجب أن يتضمن تغييراً جذرياً في الظروف الاقتصادية السائدة في غزة. ومما لا شك فيه أن الازدهار الاقتصادي من شأنه أن يؤدي إلى تراجع قوة "حماس" وسائر الحركات الإسلامية.

وتملك غزة إمكانات اقتصادية من بينها: تطوير السياحة على شاطئ البحر، وتطوير الخدمات (مثل الدخول إلى مجال التكنولوجيا المتطورة مثلما جرى لدى العرب في إسرائيل في الشمال)، واستخراج الغاز (بعد اكتشاف حقل غاز بحري كبير سنة 1999). ويمكن في المدى القصير والمتوسط تحويل مبالغ كبيرة وتشغيل عمال في مجالي تطوير البنية التحتية والخدمات العامة.

ومن المهم التشديد على أن "التغيير الجذري" معناه الارتقاء الحقيقي، وليس فقط "تخفيف الحصار" وفتح المعابر. ثمة حاجة إلى إنشاء آليات دولية جديدة من أجل تنفيذ هذا التغيير، مما يتطلب موافقة دول وجهات دولية على القيام بهذه المهمة. والغاية هي إقامة مؤسسات متخصصة مع يد عاملة ومعرفة متخصصة. ومن أجل تحقيق ذلك ثمة حاجة إلى العوامل الخمسة التالية: تدخل دولي، إعادة إعمار وبناء البنية التحتية، تمويل، رقابة على الأموال، وأمن.

•التدخل الدولي

لا يمكن أن تتقدم الأمور ما دامت الأطراف الفاعلة حتى الآن في المنطقة هي المسيطرة. وحده الغطاء الدولي الذي يؤمن الهدوء ويقدم الخبرة المطلوبة هو الذي سيسمح بالتغيير الجوهري المطلوب.

•إعادة إعمار وبناء البنية التحتية

في موازاة إعادة إعمار الدمار الناتج عن معارك تموز/يوليو 2014 يجب البدء في ترميم البنية التحتية وإنشاء ما تفتقر إليه. ويستطيع البنك الدولي تشكيل فريق عمل مهمته مسح الوضع وتحديد سلم أولويات زمني. ويمكننا أن نتوقع أنه خلال ثلاثة سنوات (من بدء العمل) يمكن أن تصبح غزة في وضع معقول على صعيد البنية التحتية الاقتصادية، ويمكن أن يصبح وضعها جيداً خلال 6 إلى 8 سنوات، من بين عوامل أخرى، جرّاء تشغيل العمال المحليين العاطلين عن العمل. ومن المهم جداً أن تكون هذه الآلية تحت سيطرة دولية، وأن تستخدم خبراء أجانب ينشرون بصورة واضحة وشاملة نتائج عملهم.

إلى جانب تكلفة إعادة إعمار المنازل والأبنية المدمرة، المطلوب استثمار نحو 800 مليون حتى مليار دولار سنوياً خلال السنوات الثلاث المقبلة، واستثمار نحو نصف مليار دولار خلال السنوات الثلاث - الخمس التي بعدها. ومن بين الخطوات الإيجابية بناء المنازل والأبنية التي دمرت بصورة أفضل بكثير مما كانت عليه قبل أن تدمر، وهذا يمكن أن ينعكس إيجاباً في تأييد السكان للنمو الاقتصادي.

•التمويل

يجب أن يأتي تمويل تطوير اقتصاد غزة من الدول العربية والدول الغربية الغنية. ومن المهم وجود مجموعة من الدول المانحة من أجل تفادي المخاطر. في البداية يمكن فعل ذلك بواسطة صندوق طوارئ بإدارة البنك الدولي. وفي المدى المتوسط والبعيد يمكن إنشاء صندوق خاص لتطوير غزة على غرار ما هو موجود في العالم، كالمؤسسات التي أنشئت في شرق أوروبا خلال التسعينيات بعد سقوط الكتلة السوفياتية.

•الرقابة على الأموال

ثمة مشكلة أساسية هي تخوف إسرائيل من استخدام الأموال المحولة إلى غزة لأغراض عسكرية. وقد تحقق هذا التخوف بصورة واضحة في استخدام مواد البناء في حفر أنفاق الإرهاب (تحت الحصار الإسرائيلي). لكن هذه المشكلة حُلت في حالات مشابهة عندما اكتشف البنك الدولي ومؤسسات أخرى أن المساعدة لا تصل إلى هدفها، فأنشأوا آليات لتحويل الأموال بصورة مباشرة إلى هدفها، واشترطوا الحصول عليها بتقدم المشاريع. يمكننا استخدام هذه الأساليب في غزة من خلال أطراف عربية معتدلة وأطراف دولية.

•الأمن

لا يمكن تحقيق الخطوات المذكورة أعلاه إذا حدثت جولة عنف جديدة. ومن هنا، فإن وجود قوة دولية لحفظ الأمن يمكن أن يساعد كثيراً في السنوات الأولى ولا سيما إذا تعاونت هذه القوة مع الآليات التي ذكرناها سابقاً، أي فريق عمل من البنك الدولي.

•في الخلاصة، من المهم الإشارة إلى أن ما قام به رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض في الضفة خلال السنوات 2007 إلى 2013 يثبت أن في الإمكان تحقيق تقدم اقتصادي مهم عندما تشرف أطراف مختصة عليه. إن الفكرة القائلة بأن التقدم الاقتصادي يمنع الحرب متجذرة في أوروبا وطبقت بنجاح خلال النصف الثاني من القرن العشرين، في حين أن الضائقة الاقتصادية تؤدي إلى النزاع وسفك الدماء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* للاطلاع على المقال باللغة الإنكليزية يمكن العودة إلى الرابط التالي:

      http://www.inss.org.il/index.aspx?id=4538&articleid=7459