تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.
•خلافاً لما جرى في الماضي، ليست الجولة الأخيرة من العنف بين حركة حماس وإسرائيل مجرد جولة تكتيكية محدودة، بل هي جزء من توجّه استراتيجي جديد لحركة حماس الساعية إلى استغلال الظروف الناشئة غداة مقتل الطفل الفلسطيني في القدس بتاريخ 2 تموز/يوليو [2014]، على أيدي متطرفين يهود على ما يبدو. وتسعى حركة "حماس"، من خلال ذلك، إلى إحداث تغيير ملموس في وضعها الجيوسياسي، والاقتصادي، والفلسطيني الداخلي، الصعب. ومن هنا، يبدو أن العرض الإسرائيلي – "التهدئة في مقابل التهدئة" -يعكس سوءَ فهمٍ [إسرائيلي] لغايات حماس، وللتغيير الجاري في قواعد اللعبة التي ميّزت الجولات السابقة من النزاع بين إسرائيل وحركة حماس. إذ إن الحركة لا تبتغي التهدئة في الوقت الحالي، لأنها، وفي غياب أي خيار آخر، تنظر إلى التصعيد الإسرائيلي – سواء الحالي، من خلال عملية "الجرف الصامد" أو ما قد يتجاوزها- على أنه فرصة لكسر عزلتها الدبلوماسية والاقتصادية.
•شكلت عملية "عمود سحاب" في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 نقطة ذروة عالية بالنسبة للحركة. فعلى الرغم من الهجمات الإسرائيلية، نجحت "حماس" في المحافظة على سيطرتها على قطاع غزة، وفي الوقت نفسه أظهرت قدراتها العملانية؛ وأفضى ذلك إلى تعزيز شعبيتها في الضفة الغربية أيضاً. منح أمير قطر حركة حماس آنذاك مساعدة بقيمة 400 مليون دولار، واستفادت من وجود صديق على رأس الدولة المصرية، ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، الحركة الأم التي تتفرع منها حركة "حماس". وعلى خلفية الحرب الأهلية السورية، مكّن الدعم الدبلوماسي والمالي المقدم لها حركة "حماس" من التخلي عن "محور المقاومة" (الذي يضم كلاً من إيران، وسورية، وحزب الله، والجهاد الإسلامي)، وعن الدعم الاقتصادي والعسكري الذي كانت تتلقاه من إيران حتى ذاك الحين. لكن، بعد مضي ستة أشهر على عملية "عمود سحاب"، وجدت حركة "حماس" نفسها في أكبر مأزق في تاريخها. أُقصي الرئيس المصري محمد مرسي عن الحكم، وأُعتبرت "حماس" في مصر حركةً إرهابيةً، ودمّر الجيش المصري معظم أنفاق التهريب التي كانت بمثابة شريان الحياة الاقتصادية لقطاع غزة، وخصوصاً مصدر تحصيل إيرادات ضريبية للحركة. وفي حزيران/يونيو [2013]، غداة اتفاقية المصالحة الفلسطينية، نضب المال القطري، وفقدت حركة "حماس" القدرة على تمويل مرافقها الحيوية، كالطاقة الكهربائية، وأصبحت عاجزة عن دفع رواتب موظفيها البالغ عددهم 40,000. فهذه الظروف بالذات كانت هي الدافع الرئيسي الذي حفّز الحركة إلى السعي للتوصل إلى اتفاقية مصالحة مع السلطة الفلسطينية، وقعتها في نيسان/أبريل [2014] من موقع ضعف شديد. وبالفعل، قبلت "حماس" بجميع مطالب السلطة الفلسطينية. وفي المقابل، توقعت أن تريحها السلطة الفلسطينية من الأعباء المالية وأن تدفع رواتب موظفي الحركة.
•على هذه الخلفية، يبدو أن خطف وقتل الشبان الإسرائيليين الثلاثة، تلامذة المدرسة الدينية (يشيفا) في الضفة الغربية، في 12 حزيران/يونيو، كان حدثاً غير مرغوب به من جانب قيادة حماس. إن تاريخ الحركة مليء بأمثلة مشابهة حيث قامت تنظيمات محلية، مثل مجموعة حيّ سلوان التي قتلت شرطياً إسرائيلياً في عام 1992، بتنفيذ عمليات باسم حركة "حماس"، من دون تنسيق مسبق مع الحركة. وفي معظم هذه الحالات، تبنّت حركة "حماس" هذه العمليات التي تنسجم مع مفهومها للنضال، وطبيعة مقاومتها السرية التي لا تتطلب مراعاة اعتبارات سياسية كثيرة. أما اليوم، فإن حركة "حماس" هي السلطة المسيطرة على قطاع غزة؛ وبالتالي، فهي تجري حساب تكاليفها وفوائدها بشكل مغاير، ولا تستطيع التصرف كما كانت تفعل في الماضي. ومع ذلك، ورغم عدم تبني "حماس" لمسؤولية اختطاف الشبان الثلاثة، وجدت نفسها فجأة تدفع ثمن هذه العملية. أما رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، فقد اعتبر بدوره أن عملية الاختطاف تهدد بتدمير المكاسب السياسية التي جناها في الحلبة الدولية. وأولى هذه المكاسب كان الإجماع الناشئ في الرأي العام الدولي حول أن اللوم عن إخفاق مفاوضات السلام برعاية أميركية يقع على إسرائيل. وقد أدت إدانته العلنية، الصريحة وغير المشروطة، لعملية الاختطاف إلى إنهاء (عملي de facto) فوري لاتفاقية الوحدة. وبقيت الرواتب الموعودة لموظفي حركة "حماس" في صندوق خزنة السلطة الفلسطينية، واستأنفت أجهزة السلطة الأمنية عملياتها ضد حركة "حماس" في الضفة الغربية.
•تركت هذه التطورات حركة حماس من دون استراتيجيا واضحة في أعقاب عملية الاختطاف. ونتيجة ذلك، كانت تصريحات قادتها متناقضة. فمن جهة، تنصّل الناطق بلسان حماس سامي أبو زهري من مسؤولية اختطاف الشبان الثلاثة. ومن جهة ثانية، امتدح قادة "حماس"، مثل خالد مشعل، واسماعيل هنية، وفوزي برهوم، ومشير المصري، مبادرة الخاطفين، وشوّهوا حقائق مزعجة تتعلق بكون الشبان يافعين (قال مشعل إنهم "جنود"؛ وقال هنية إنهم "مستوطنون")، وأطلقوا تهديدات ضد إسرائيل محذّرين إياها من تنفيذ عمليات انتقامية ضد حركة "حماس". وكجزء من "الكلام المراوغ"، أشار مشعل إلى أن الجناح العسكري لحركة "حماس" لا يخضع للجناح السياسي، فترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية تحميل "حماس" مسؤولية هذه العملية.
•إلى ذلك، عندما بدا واضحاً أن السلطة الفلسطينية تنوي جدياً إلغاء اتفاقية الوحدة، أخذت ترتسم معالم استراتيجيا تحالف الصقور داخل حركة "حماس"، في مواجهة كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ففي اليوم الحادي عشر على اختطاف الشبان الثلاثة، أعلن رئيس حكومة "حماس"، اسماعيل هنية، أن "الانتفاضة الثالثة" بدأت فعلاً في الضفة الغربية. ويعكس هذا التصريح حالة الاستقطاب الحادة وعمق الأزمة في الساحة السياسية الفلسطينية، لأنه النقيض التام لموقف السلطة الفلسطينية الحازم حيال انتفاضة جديدة، ولأنه يؤكد شكوكها حول أن "حماس" تسعى لزعزعة الاستقرار وتقويض الأمن في الضفة الغربية. وقد كانت السلطة الفلسطينية يقظة إزاء هكذا محاولات منذ بعض الوقت، فلم تكتف في غضون نحو سبعة أشهر بتعزيز أجهزتها الأمنية، بل وأيضاً شدّدت قبضتها على الشارع. ولهذه الغاية، استدعت السلطة الفلسطينية للخدمة، جهازها غير الرسمي، ولا سيما أعضاء "التنظيم" التابعين لحركة فتح. وأكدت تصريحات الناطقين بلسان "حماس" حالة الاستقطاب هذه: فزعم عضو المكتب السياسي لحركة "حماس"، موسى أبو مرزوق، بتاريخ الثاني من تموز/يوليو أن [رئيس السلطة محمود] عباس لا يريد المصالحة، ولا حاجة له بغزة، "ولو أُعطيت له غزة فلن يأخذها". وأفادت تقارير في 7 تموز/يوليو أن رجال "حماس" أطلقوا النار على أنصار حركة فتح في قطاع غزة.
•بينما تعمق الاستقطاب الفلسطيني الداخلي، بدت المواجهات التي اندلعت في حي شعفاط في القدس الشرقية وفي مدن وقرى عربية عدة داخل إسرائيل، في أعقاب مقتل الطفل الفلسطيني، كفرصة سانحة في نظر حركة حماس. وقد أَمِلَت الحركة أن تستخدم هذه المواجهات كوسيلة لتحقيق تطلعاتها لإطلاق مقاومة شعبية نشطة في الضفة الغربية، انطلاقاً من الاعتقاد بأن "شارعاً" فلسطينياً نشطاً أكثر في الضفة الغربية وداخل إسرائيل سيوجه الكراهية الفلسطينية نحو إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وبعيداً عن التحديات المالية التي تواجهها حركة "حماس"، وعن عزلتها السياسية. بل أكثر، حاولت حركة "حماس" "صبّ الزيت على النار" من خلال إطلاق الصواريخ على المدنيين الإسرائيليين.
•ويبدو أن هذا هو السبب الرئيسي لعدم نجاح المحاولات الإسرائيلية والمصرية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. ويعزو المحللون الإسرائيليون هذا الفشل أحياناً إلى الاستقلالية المزعومة للجناح العسكري لحركة "حماس"، "الذي يفعل ما يشاء"، من دون أي اعتبار لسلطة الجناح السياسي. لكن يبدو أن هذه التقديرات مبالغ فيها. فقد تلقت استقلالية الجناح العسكري ضربةً قويةً، عقب اغتيال قائدها الميداني أحمد الجعبري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012. إن صلات الجعبري المباشرة بخالد مشعل، بالإضافة إلى تحكمه بتدفق الدعم المالي الإيراني، هي التي أوجدت هذه الاستقلالية. لكن، من جراء جمود العلاقات مع إيران خلال العامين الماضيين، فضلاً عن مقتل الجعبري، ليس مؤكداً أن هذا هو الوضع اليوم. علاوة على ذلك، لا تعكس تصريحات القيادة السياسية للحركة أي انقسامات داخلية، بل على العكس من ذلك- فهي متطرفة جداً، وهي على هذا النحو منذ بدا واضحاً أن الوحدة مع السلطة الفلسطينية قد انهارت. إن حركة "حماس"، رغم جميع صعوباتها، تبرهن عن تحكم كبير بما يجري في قطاع غزة، كما تجلى ذلك في التصعيد التدريجي والمتحكم فيه لعملياتها العسكرية وصولاً إلى اندلاع عملية "الجرف الصامد".
•كان هذا الواقع، حتى بدء العملية العسكرية الإسرائيلية، يعكس رغبة حركة "حماس" في أن تستغل حالة الغليان المتواصلة. وظهر الدليل على ذلك في يومي 4 و5 تموز/يوليو عندما طالب الناطقون بلسان "حماس"، في مقابل وقف إطلاق النار، بأن توقف إسرائيل عمليات الاغتيال الهادف، وأن ترفع الحصار عن قطاع غزة. وفي 7 تموز/يوليو طرحت "حماس" مطلباً إضافياً: أن تطلق إسرائيل سراح الأسرى المحررين بموجب صفقة شاليط في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، والذين أعادت اعتقالهم خلال الشهر الأخير، وأن تفتح مصر معبر رفح. بيد أن حركة "حماس" تعي جيداً أن فرص قبول إسرائيل أو مصر بهكذا مطلب هي متدنية للغاية. ومن هنا، عرّضت حركة "حماس" نفسها لمواجهة عسكرية محتملة وأعينها مفتوحة. وأحد الأدلة البارزة على ما سبقت الإشارة إليه كشفت عنه العملية الإسرائيلية التي دمرت في 7 تموز/يوليو شبكة أنفاق يقال إن الغاية منها تنفيذ اعتداء استراتيجي ضد إسرائيل. إذا كان هذا الأمر صحيحاً، فهذا يعكس تبدلاً في توجه حماس الاستراتيجي.
•تعتقد حركة "حماس" أن عملية "الجرف الصامد" وسواها من العمليات المشابهة ليس بمقدورها أن تهدّد سيطرة الحركة على القطاع. والسبب هو أن "حماس" تظن أن الإسرائيليين يخشون إمكانية تعرضهم لخسائر بشرية في العمليات العسكرية البرية، وأن إسرائيل تفتقر إلى بديل مفضّل عن حركة "حماس بالنظر إلى التهديد الذي تمثله المجموعات المسلحة الإسلامية المتشددة الأخرى التي تنشط في قطاع غزة. وتشكل أي عملية عسكرية إسرائيلية، ولا سيما إذا كانت نتيجتها غير حاسمة، فرصةً بالنسبة لحركة حماس من أجل تحسين وضعها. وإنها لمفارقة، بالتالي، أن تبدو العملية العسكرية الإسرائيلية أقل تهديداً لحماس من خطر الانهيار الداخلي. فحتى لو لم تؤدِ جولة العنف الحالية إلى تنفيس الاحتقان الداخلي، فمن المرجح أن تعمد حركة "حماس" مستقبلاً إلى توتير الأوضاع اجتناباً لهكذا انهيار. ينبغي على إسرائيل، من خلال إطلاق عملية "الجرف الصامد"، أن تكون مدركة للفخ المنصوب لها من قبل "حماس": فهذه ليست مجرد جولة أخرى من التصعيد التي تخدم غايات تكتيكية بحتة. بل إنها خطوة استراتيجية ومخطط لها، الغاية منها جرّ إسرائيل إلى وضع قد لا تستطيع انتشال نفسها منه.
•لذا، سوف تستفيد إسرائيل إذا ما نجحت أولاً في كبح الاضطرابات في شوارع المناطق الخاضعة لسيطرتها، والحؤول دون انتشارها في أنحاء الضفة الغربية. وما عدا ذلك، تقتضي التطورات الحالية أن تفكر إسرائيل بطريقة استراتيجية. ولا يتوقف التفكير الاستراتيجي عند استعادة ما يسمى ب "الردع". فعلى إسرائيل أن تتجاوز هذا الحاجز الإدراكي وأن تنتقل إلى وضع سياسة شاملة لقطاع غزة وحركة "حماس". وسواءً تم الإبقاء على الحركة بوصفها "الشيطان الذي نعرف"، أم لا، من الواضح أن الأمر سيتطلب من إسرائيل أن تنسق بشكل واسع مع لاعبين إقليميين، مثل السلطة الفلسطينية والدولة المصرية، اللتين ستسعيان بالتأكيد للحصول على مقابل سياسي.