· ربما لم يعد كثيرون منا يذكرون أن الجيش الإسرائيلي بقي مرابطاً في منطقة "الحزام الأمني" [في جنوب لبنان] بعد أن وضعت الحرب على لبنان في سنة 1982 أوزارها، وحتى الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من هناك في أيار/ مايو 2000، وأنه خاض خلال تلك الفترة حرباً كانت بمثابة الحرب المنسية.
· ولعل هذا النسيان ينطبق أيضاً على نهاية تلك الحرب، ذلك بأن عملية التحقيق في ذلك الانسحاب، والقرارات المتعلقة به، وطريقة تنفيذه، جرت على عجل، وتم تجاهل استنتاجاتها بسرعة. فضلاً عن ذلك، فإن مجموعة القادة العسكريين الإسرائيليين الذين عايشوا هذه التجربة، آخذة في الاختفاء.
· وفي واقع الأمر، فإن الحرب الإسرائيلية على لبنان، والتي شُنّت في حزيران/ يونيو 1982، كانت آخر حرب يحقق الجيش الإسرائيلي انتصاراً عسكرياً وسياسياً فيها. فقد انتهت تلك الحرب التي سُمّيت "عملية سلامة الجليل"، بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، في أيلول/ سبتمبر 1982، كما أنها كانت آخر حرب يتم فيها تفعيل قوات عسكرية برية كبيرة من أجل احتلال أراض وإحراز هدف سياسي. ومع ذلك، فإن تلك الحرب كانت موضع خلاف سياسي كبير في إسرائيل.
· غير أن دوافع استمرار سيطرة الجيش الإسرائيلي على "الحزام الأمني" في جنوب لبنان لم تكن، في حينه، منطوية على أي قيمة استراتيجية محددة، أو على أي دلالة تكتيكية. وقد قيل إن أهمية "الحزام" كامنة في منع قوات معادية من التسلل إلى إسرائيل، في حين أن مثل هذه القوات لم تكن موجودة في ذلك الوقت. أمّا فيما يتعلق بصواريخ الكاتيوشا، فإن وجود "الحزام الأمني" لم يسفر عن وقفها قطّ، بل إن أي محاولات من أجل وقفها لم تُبذل أصلاً.
· وعلى الرغم من ذلك، فقد مرّت أعوام كثيرة إلى أن بدأ الجيش الإسرائيلي يدرك أن الحرب في "الحزام الأمني" لا لزوم لها، وأن الجبهة العسكرية الشرقية، التي اعتبرت التهديد الأكبر لإسرائيل، قد تفككت، ولا سيما في إثر توقيع اتفاق السلام مع الأردن، والتأكد من كون اتفاق السلام مع مصر قوياً ومستقراً. لكن الجيش الإسرائيلي استمر في الاستعداد للحروب المقبلة، وبقي لبنان محط اهتمام وتفكير مجموعة ضئيلة ومعزولة من القادة العسكريين في إسرائيل.
· إن أحد هؤلاء القادة العسكريين هو عميرام ليفين [قائد المنطقة العسكرية الشمالية الأسبق]، الذي أكد منذ سنة 1994 أن إسرائيل تواجه، في جنوب لبنان، عصابات أنصار لا مجموعات "إرهابية"، وأنه يمكن تحقيق الانتصار عليها. وقد تبنت مقاربته في هذا الشأن مفهوماً فحواه تكبيد العدو خسائر فادحة تجعل من الصعب عليه تجنيد مزيد من المقاتلين إلى صفوفه، وتتيح للجيش الإسرائيلي، في نهاية الأمر، إمكان الانسحاب إلى خطوط الحدود الدولية من دون أن يُعتبر ذلك هروباً.
· ومع أن هذه المقاربة تحتاج إلى مناقشة، إلا إن ما حدث في ذلك الوقت هو أنها لم تخضع للتجربة قط. وكان قرار [رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق] يتسحاق رابين أن الأمر الأهم هو عدم إطلاق صواريخ كاتيوشا على إسرائيل.
· وفي وقت لاحق، قام قادة الجيش الإسرائيلي المسؤولون عن جنوب لبنان، ومنهم [نائب رئيس هيئة الأركان العامة الأسبق] موشيه كابلينسكي مثلاً، بالتأكيد مجدداً أن الجيش الإسرائيلي لم يبذل، خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان [في أيار/ مايو 2000]، أي جهد حقيقي من أجل الانتصار على حزب الله. وبناء على ذلك، فإن الانسحاب الأحادي الجانب أصبح الخطوة المنطقية الوحيدة التي يجب الإقدام عليها، ولذا، جرى تنفيذه بسرعة واعتبر هروباً.