"عمود السحاب" نموذج جديد للمواجهات العسكرية المحدودة وغير المتكافئة
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

·       شكلت المواجهة الأخيرة بين "حماس" و إسرائيل نموذجاً جديداً من المواجهات المسلحة، فعملية "عمود السحاب" كانت عبارة عن مواجهة عسكرية غير متكافئة استمرت أسبوعاً بين آلة حرب متقنة قادت معركة موجهة بدقة ضد أهداف عسكرية تابعة لـ "حماس"، وبين ميليشيات غير منضبطة وغير خاضعة لسيطرة طرف سياسي ركزت هجماتها على "أهداف مهمة" وعلى السكان المدنيين.

·       ولقد أظهرت الاستراتيجيا التي اعتمدها الطرفان، أنهما استوعبا دروس المواجهات السابقة، وبصورة خاصة دروس عملية "الرصاص المسبوك"، ذلك بأنهما بدآ المواجهة الأخيرة وهما في أتم الاستعداد لها، وقام كل طرف بتطبيق عقيدته العسكرية المفضلة بنجاح، فنفذت "حماس" هجماتها الصاروخية المكثفة، في حين قام الجيش الإسرائيلي بهجمات جراحية وبعمليات دفاع في منتهى الدقة.

·       وعلى الرغم من الفارق الكبير في قدرات الطرفين، والتعارض بين الاستراتيجيات التي استخدمت، فإن الضرر الذي لحق بكل منهما كان محدوداً. وقد خرج الطرفان من المواجهة بشعور المنتصر وبأنهما استطاعا تحقيق أهدافهما. من هنا يمكن القول إن المواجهة الأخيرة هي نموذج جديد ستكون له انعكاسات واسعة. ومن أجل فهم أكثر عمقاً للأمور تجدر الإشارة إلى بعض سمات المواجهة الأخيرة:

1.     عدم حدوث تماس بري: فقد اختار كل من "حماس" والجيش الإسرائيلي حصر المواجهة فيما بينهما بتبادل إطلاق النار عن بعد، وذلك من خلال استخدام الجيش الإسرائيلي للطائرات، واستخدام "حماس" لمختلف أنواع الصواريخ ولنيران المدفعية.

2.     اعتمدت "حماس" في المواجهة الأخيرة على ترسانة السلاح الصاروخي التي تملكها، في حين استخدم الجيش الإسرائيلي في هجماته، ولأول مرة بهذا الحجم الكبير، السلاح الموجه (الذي يستند إلى البنية التحتية الاستخباراتية)، كما استخدم السلاح نفسه في دفاعه. كذلك حقق الجيش الإسرائيلي إنجازات غير مسبوقة في المزج بين القدرة على إصابة الأهداف بدقة، وبين القدرة على الاعتراض المتطور للصواريخ.

3.      كثافة قتالية في مقابل ضرر محدود: لقد كان القتال ناجحاً، بمعنى أن المواجهات المكثفة التي دارت لمدة ثمانية أيام بين الطرفين انتهت بعدد محدود من الضحايا، إذ قتل نحو150 فلسطينياً (أغلبيتهم من المقاتلين)، في مقابل خسائر متفرقة تكبدها الجانب الإسرائيلي (أغلبيتها من المدنيين). وتجدر الإشارة إلى أن الضرر الذي لحق بالمدنيين كان محدوداً، على الرغم من كثافة القتال.

4.     مواجهة ناجحة على الصعيد الأخلاقي: مقارنة بالماضي، وإذا ما أُخذت بعين الاعتبار قوة الوسائل القتالية التي استخدمها الطرفان وحجمها، وحقيقة أن عقيدة "حماس" تتركز على إلحاق الضرر وإيقاع الخسائر وسط المدنيين، فان عدد الضحايا بين السكان المدنيين كان محدودا للغاية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأضرار المادية.

5.      مخاطرة أخلاقية: مهما يكن النجاح في المحافظة على البعد الأخلاقي للصراع مطلوباً، فإن لذلك انعكاسات سلبية. إذ من دون التقليل من أهمية المعاناة والألم اللذين تسببت بهما المواجهة الأخيرة، وذلك في سياق سلسلة المواجهات التي تتأرجح بين الحرب الشاملة وبين المواجهة الرمزية، تبقى المواجهة الأخيرة أقرب الى المواجهة الرمزية وعلى نحو شبيه  بمحاكاة مدروسة.

·       من الناحية الاستراتيجية، يمكن أن تكون هذه الدينامية [الخسائر البشرية المحدودة] هي التي سمحت لإسرائيل بمواصلة القتال، نظراً إلى عدم وقوع إصابات تقريباً في جانبها، وهي التي سمحت أيضاً لحركة "حماس" بالمماطلة فيما يتعلق بموعد وقف إطلاق النار والشروط المطلوبة لذلك. وفي الوقت عينه، فإن هذا منح إسرائيل حيزاً من الوقت لاتخاذ القرارات المتعلقة بموعد إنهاء هذه الجولة، وهذه نقطة شديدة الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل التي لم تكن في يوم من الأيام قادرة على أن تحدد بوضوح ودقة وبشكل مسبق موعد انتهاء جولة القتال.

·       لقد انتهت عملية "عمود السحاب" من دون حسم عسكري واضح، بيد أن الطرفين حققا أرباحاً سياسية واستراتيجية. فقد أثبتت الحكومة الإسرائيلية على الصعيد الداخلي التزامها بالدفاع عن أمن مواطنيها، كما أثبتت قدرة الجيش الإسرائيلي على ضمان هذا الأمن. كما أظهرت هذه العملية لـ "حماس" الثمن الذي تصر إسرائيل على تدفيعها إياه بسبب إزعاجها المتواصل لمواطنيها.

·       أمّا على الصعيد الدولي، فقد نجحت إسرائيل (إلى حد بعيد، وبفضل أخلاقية المعركة ونجاعتها العسكرية) في خوض القتال من دون التعرض للانتقادات التي تترافق عادة مع هذا النوع من العمليات، وكذلك من دون التعرض للضغط الدولي وللمطالبة بوقف الحرب قبل موعدها.

·       لكن، من جهة أخرى، نجحت "حماس" أيضاً في تحقيق مصالحها، إذ أثبتت التزامها بالانتقام لزعاماتها، والصمود بكرامة في المواجهة العسكرية مع الجيش الإسرائيلي. وبهذه الطريقة تمكنت الحركة من تعزيز مكانتها السياسية وسط الفلسطينيين، وكذلك على الساحة الدولية، حيث بات ينظر إليها اليوم بصفتها شريكاً ضرورياً وشرعياً.

·       وفي حال اتضح أن وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه بعد العملية ثابت ومستقر أكثر من سابقيه، فإن هذا الأمر مردّه، على الأرجح، إلى الطابع المحدود للمواجهة، بالإضافة إلى النجاحات الاستراتيجية التي حققها الطرفان. ذلك بأن طابع المواجهة ونتائجها أعفيا الطرفين من الإحساس بالحاجة إلى الانتقام التي تترافق عادة مع الهزيمة ومع الإحساس بالمهانة. وغالباً ما تكون هذه الحاجة هي التي تدفع الطرفين إلى مواجهة جديدة عاجلاً أم آجلاً.     

 

المزيد ضمن العدد 1562