المعضلة الإسرائيلية في غزة
المصدر
مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية

تأسس في سنة 1993 على يد الدكتور توماس هيكت، وهو من زعماء اليهود في كندا، وكان تابعاً لجامعة بار إيلان، وأُطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري الذي وقّعه مناحيم بيغن وأنور السادات. يعالج مسائل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والصراعات في المنطقة والعالم. يميل نحو وجهة نظر اليمين في إسرائيل. كما أصدر المركز مئات الدراسات والكتب باللغتين العبرية والإنكليزية.

– "وجهات نظر"،الورقة رقم 191

·       إن أهم هدف لعملية "عمود السحاب" هو إعادة الردع، الذي، وفقاً للعقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية، لا يتحقق إلاّ عبر إلحاق هزيمة ساحقة بالخصم. من هنا، فإن غياب النصر الذي لا لبس فيه [في العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة] يعكس المعضلة الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل بشأن مستقبل الترتيبات المطلوبة في القطاع.

·       تلقي تجربة الأعوام الماضية الضوء على ثلاثة احتمالات فيما يتعلق بمستقبل غزة: إمّا عودة الوضع هناك إلى ما كان عليه خلال الأعوام الأولى 1948-1967، وإمّا عودة الذي كان سائداً في الفترة 1967-2005، وإمّا استمرار الوضع الذي نشأ بعد سنة 2007.

·       خلال الفترة 1948 - 1967، كان قطاع غزة تحت السيطرة المصرية، ومنفصلاً تقريباً عن الضفة الغربية، وتحولت غزة في حينها إلى قاعدة للأعمال الإرهابية ضد إسرائيل. لكن في إثر العمليات العسكرية الإسرائيلية (وخصوصاً في أعقاب الحملة العسكرية على سيناء سنة 1956) أوقف المصريون النشاط الإرهابي من هناك.

·       بعد حرب 1967 احتلت إسرائيل غزة والضفة الغربية، وسمحت بعودة التواصل بين السكان الفلسطينيين في هاتين المنطقتين، على الرغم من الانفصال الجغرافي بينهما. ولقد ساهم هذا التواصل، إلى جانب التواجد الإسرائيلي في هذه المناطق، في بروز هوية فلسطينية موحدة تحولت إلى قوة لها وزنها على الساحة الدولية. ولقد توطد الارتباط بين غزة والضفة الغربية في إثر توقيع اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر سنة 1979، التي جعلت غزة تحت السيطرة الإسرائيلية. وكذلك ساهمت عملية أوسلو للسلام، التي أدت إلى نشوء السلطة الفلسطينية، في تعزيز الروابط بين غزة والضفة الغربية.

·       بيد أن هذه الروابط بدأت تضعف في إثر الانسحاب الإسرائيلي من غزة سنة 2005. فقد تمكنت حركة "حماس" بعد فوزها في الانتخابات في سنة 2006 من السيطرة بالقوة على غزة في حزيران/يونيو 2007، وذلك بواسطة انقلاب عسكري، وشكلت كياناً شبه مستقل عن السلطة الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية، الأمر الذي أضعف الحركة الوطنية الفلسطينية وطرح تساؤلات حيال الجدوى من تحقيق حل الدولتين.

·       ومنذ سيطرة "حماس" على قطاع غزة، قامت الحركة بتخزين كميات كبيرة من السلاح، وأطلقت مئات الصواريخ البعيدة المدى على جنوب إسرائيل وعلى المدن الإسرائيلية. وبعد قيام إسرائيل بسلسلة من الردود العسكرية المحدودة وغير المجدية، شنت عملية "الرصاص المسبوك" في كانون الأول/ديسمبر 2008. لكن بعد هدوء استمرعامين، تجدد القصف الصاروخي على جنوب إسرائيل وتكثف إلى حد دفع برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى إعطاء الأوامر بشن عملية "عمود السحاب" في تشرين الثاني/نوفمبر 2012.

·       قد تكون العملية  الأخيرة التي نفذها نتنياهو مستوحاة من العمليتين الإسرائيليتين السابقتين: عملية "الجدار الواقي" التي جرت في آذار/مارس 2002، وعملية "الرصاص المسبوك" في سنة 2008.

·       ففي سنة 2002 حقق الجيش الإسرائيلي انتصاراً عسكرياً ساحقاً واستطاع أن يسيطر موقتاً على عدد من مدن السلطة الفلسطينية التي كانت تعتبر معقلاً للإرهاب الفلسطيني.

·       وفي سنة 2008، امتنعت الحكومة الإسرائيلية من تطبيق هذه الاستراتيجيا، وقامت بدلاً من ذلك بعملية برية كان هدفها ضرب البنية التحتية الإرهابية لـ"حماس".

·       لكن في سنة 2012، فضلت الحكومة الإسرائيلية تنفيذ عملية عسكرية محدودة أكثر بحيث لا تشتمل على أي نوع من العمليات البرية. ولقد نجحت هذه العملية في تحقيق إنجازين سياسيين، هما: الحصول على دعم الإدارة الأميركية المنتخبة حديثاً، والتوصل إلى وقف إطلاق نار عبر الوساطة التي قام بها الرئيس المصري الجديد محمد مرسي. ولقد أظهر التدخل المصري مدى التزام النظام الجديد في مصر باتفاقية السلام مع إسرائيل.

·       إن السبب الأساسي وراء رفض نتنياهو القيام بعملية عسكرية مشابهة لعملية "الرصاص المسبوك" هو عدم رغبة إسرائيل في العودة إلى الوضع الذي كان سائداً في الفترة 1967 - 2005 [أي إعادة الربط بين الضفة الغربية والقطاع]. فإذا كانت إسرائيل قبل بضعة أعوام ترغب في تحقيق السلام مع جيرانها الفلسطينيين، فإنها باتت، في سنة 2012، تشك في رغبة السلطة الفلسطينية في العيش بسلام إلى جانبها.

·       إن رفض رئيس السلطة الفلسطينية [ياسر عرفات] سنة 2000 المقترحات التي طرحها رئيس الحكومة آنذاك إيهود باراك، وكذلك رفض [محمود عباس] المقترحات التي طرحها إيهود أولمرت سنة 2008، دليل على مطالب فلسطينية لا يمكن لأي حكومة إسرائيلية مسؤولة القبول بها. وعلى الرغم من موافقة بنيامين نتنياهو على تجميد البناء في المستوطنات لمدة عشرة أشهر في سنة 2010، فقد رفضت رام الله استئناف المفاوضات مع القدس. والراهن أن رئيس السلطة الفلسطينية الضعيف، محمود عباس، غير قادر على السير بالحركة الوطنية الفلسطينية نحو تسوية تاريخية مع إسرائيل، وبالتالي فليس هناك مصلحة استراتيجية في تسليمه غزة.

·       إن البديل المحتمل من عباس، في ظل ضعف زعامة السلطة الفلسطينية، هو نشوء دولة تتضمن منطقتين غير متواصلتين تسيطر عليها "حماس". لكن إسرائيل لا يمكن أن تقبل بسيطرة "حماس" على الضفة الغربية نتيجة قربها الاستراتيجي من المدن الإسرائيلية الكبرى. ولقد كانت هذه هي الاعتبارات التي حددت أفق العملية الإسرائيلية الأخيرة ضد غزة.

·       في ظل هذه الأوضاع ترى القدس أن المشاركة المصرية في غزة هي أهون الشرور، فمع تولي مصر مسؤوليات محدودة في إدارة شؤون غزة بات هناك عنوان يمكن التحاور معه، بدلاً من تنظيم إرهابي مثل "حماس" هدفه القضاء على إسرائيل. وتفضل إسرائيل التعامل مع حكومة يمكن التحاور معها، ناهيك عن أن الردع في مواجهة الدول أكثر فعالية من الردع في مواجهة تنظيمات لا ترقى إلى مستوى الدولة.

·       ويبدو أن الاستراتيجيا المفضلة بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية الحالية هي مزيج من الوضع الذي كان سائداً قبل سنة 1967 [عندما كان القطاع خاضعاً لسيطرة مصر]، والوضع الناشىء بعد سنة  2005 [عندما أصبح القطاع تحت سيطرة "حماس"]، أي شبه استقلال لقطاع غزة مع الإبقاء على الارتباط  بمصر.

·       وعلى افتراض أن هذا هو الخيار الأفضل، فإن المساهمة المصرية في غزة يجب أن تكون محدودة كي لا تؤدي إلى تقويض المنطقة المنزوعة من السلاح في سيناء المتاخمة للحدود الجنوبية لإسرائيل. ذلك بأن من شأن إعادة تسليح قطاع غزة، بالإضافة إلى القوة العسكرية المصرية، أن يقضيا على العمق الاستراتيجي الذي حققته إسرائيل في سنة 1967 [خلال حرب حزيران/يونيو]، والذي برر اتفاقية السلام مع مصر في سنة 1979.

·       ويبدو حالياً، أن التدخل المصري في غزة، والمضبوط جيداً، هو أفضل من خيار احتلال غزة من جديد وربطها بالضفة الغربية، لأن ذلك سيؤدي إلى نشوء جناحين لدولة فلسطينية راديكالية.

·       في العالم المثالي من المحتمل أن تتحول غزة إلى سنغافورة، لكن هذا ليس خياراً واقعياً اليوم، ولا سيما في هذا الوقت الذي بدأ يتحول فيه "الربيع العربي" إلى "شتاء إسلامي".

 

المزيد ضمن العدد 1555