· إن اللغة التي استعملتها تركيا مع إسرائيل، هذا الأسبوع، هي لغة التهديد. فخلال الفترة القصيرة منذ الاثنين الفائت، الذي جرت فيه عملية السيطرة الإسرائيلية على قافلة السفن المتجهة إلى غزة، وحتى نهار الأربعاء، تلقت إسرائيل ثلاثة إنذارات متتالية من تركيا. وقد رفضت الإنذارين الأول والثاني، لكنها اضطرت إلى الخضوع بعد الإنذار الثالث. وعلى وجه الدقّة، فإن الذي اضطر إلى الخضوع هو قيادتها المؤلفة من الثلاثي [رئيس الحكومة] بنيامين نتنياهو و[وزير الدفاع] إيهود باراك و[وزير الخارجية] أفيغدور ليبرمان.
· وفي واقع الأمر، فإن هؤلاء الثلاثة حاولوا كسب الوقت والاحتفاظ أطول فترة ممكنة بركاب السفن، ولا سيما ركاب سفينة "مرمرة" التركية، من أجل إجراء تحقيق مع أعضاء الجماعة الإسلامية المتطرفة IHH، الذين تصدوا لقوات الكوماندوس البحرية الإسرائيلية على متن تلك السفينة، غير أن تركيا أصرّت على الإفراج عنهم حالاً.
· واتخذ ثلاثتهم القرار بالإفراج عن ركاب السفن مساء الثلاثاء الفائت، وذلك بعد بضع ساعات من عودة نتنياهو إلى إسرائيل عقب قطع زيارته لأميركا الشمالية، وصادق المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية عليه. وما يمكن قوله هو أن نتنياهو وباراك وليبرمان كانوا قلقين للغاية إزاء تهديدات تركيا، التي أضيفت إليها ضغوط أميركية وأوروبية شديدة، ولذا، فإنهم لم يعملوا بنصيحة المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، يهودا فاينشتاين، الذي أكد أن لإسرائيل الحق القانوني الكامل في استمرار احتجاز المعتقلين.
· وقد علّق أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية على هذا القرار بالقول: "كل الاحترام للكرامة التركية، لكن ماذا عن كرامتنا نحن؟ عندما نخضع لإملاء كهذا، فإنه لن يبقى لإسرائيل خطوط حمر بعد ذلك".
· غير أن نتنياهو وباراك وليبرمان اعتقدوا أنه لا بُد من الخضوع، وأن الأمر يتعلق بمصلحة إسرائيلية قومية شديدة الأهمية. وقال لنا أحدهم: "كنا مضطرين إلى تهدئة الوضع".
· ولا بُد من الإشارة إلى أن هذا القرار وقع كالصاعقة على قيادة الجيش الإسرائيلي، ذلك بأنها كانت قد كلفت طاقم محققين من إحدى الفرق العسكرية النخبوية بالتحقيق مع المعتقلين، وأعدّت كل ما يلزم من أجل إجبارهم على الاعتراف بحقيقة ما حدث.
· بسبب ذلك، فإن الصورة التي بقيت راسخة في أذهان العالم كله هي أن إسرائيل تصرفت مثل القراصنة، وأنها لم تتردد في قتل ناشطي سلام، فضلاً عن قيامها بتجويع السكان المدنيين في غزة. وكانت النتيجة إن إسرائيل التي تطلعت إلى عزل "حماس" سرعان ما اكتشفت أنها هي المعزولة أكثر فأكثر.
· ولا شك في أن أي إسرائيلي طرح على نفسه، هذا الأسبوع، واحداً من سؤالين هما: هل كان قرار السيطرة على قافلة السفن بالقوة صائباً؟ وهل تم تنفيذ العملية بالطريقة الصحيحة؟
· إن الأضرار التي لحقت بسمعة إسرائيل جراء هذه العملية في العالم كله، فضلاً عن الصور الصعبة التي التقطت للعملية نفسها، تعزز الانطباع بأن ما حدث كان عبارة عن تقصير عسكري خطر. ومع ذلك، فإن قيادة الجيش الإسرائيلي ترفض هذا الانطباع جملة وتفصيلاً، وقد قام ضابط كبير في الجيش بتلخيص العملية على مسامعنا على النحو التالي: "إن سياسة إسرائيل المعمول بها هي استمرار فرض الحصار على غزة وهذا ما فعلناه، وفحوى العملية التي قمنا بها تمثّل في جلب السفن [المتجهة إلى غزة] إلى ميناء أسدود، وهذا ما حدث في نهاية الأمر، من دون أن يسقط قتلى في صفوف قواتنا. صحيح أن الجيش الإسرائيلي لم يتوقع أن يواجه مقاومة كهذه، ولم يأخذ في الاعتبار أن يسقط تسعة قتلى، لكن العملية حققت نجاحاً من الصنف الذي نسميه نجاحاً مؤلماً".
· إزاء ذلك، فإن ما يجب قوله هو أن الثمن السياسي الذي يترتب على العملية كان أكبر بعشرات الأضعاف مما تم توقعه مسبقاً، وهذا يعني أن العملية نجحت لكن المريض مات.
· إن الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة أول من أمس هو خطاب الضحية الكلاسيكية، إلا إنه لا يعفينا من المسؤولية عن الواقع الذي نشأ في الآونة الأخيرة. إن المطلوب الآن هو التحلي بطول النفس والعقل السليم، ذلك بأن ردة الفعل العالمية القاسية لم تولد هذا الأسبوع فقط، بل إنها متأثرة أيضاً، وإلى حدّ كبير، بموقف العالم كله إزاء الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي ما زالت تنأى بنفسها عن العملية السياسية [مع الفلسطينيين].
· في موازاة ذلك، لا بُد من القول إن عملية السيطرة على قافلة السفن قد أزعجت الولايات المتحدة قليلاً، لكن ما يزعجها أكثر هو الحصار الإسرائيلي على غزة. فالإدارة الأميركية الحالية، برئاسة باراك أوباما، ترى أن هذا الحصار هو بمثابة عقوبة جماعية للسكان المدنيين، فضلاً عن كونه يمس جهودها المبذولة من أجل كسب ودّ العالم الإسلامي. ومع أن أوباما يرتكب خطأ في هذا الشأن، إلا إنه يبقى رئيس دولة عظمى. وعلى ما يبدو، فإن ذلك يسفر عن نتيجة فحواها تحوّل إسرائيل، في نظر الولايات المتحدة، من رصيد إلى عبء، كما صرّح رئيس الموساد، مئير دغان، هذا الأسبوع.
· وقد نما إلى علمنا أن التعليمات التي تلقاها السفير الأميركي في إسرائيل، في إثر العملية الإسرائيلية ضد قافلة السفن، كانت ما يلي: "إذا كان في إمكان إسرائيل إثبات أن الذين كانوا على متن السفينة التركية هم مخربون، فلتثبت ذلك على الفور، وإذا لم يكن في إمكانها إثبات ذلك فلتتحمل نتائج فعلتها".
· بشكل عام، يمكن القول إن أحداث هذا الأسبوع جعلت إسرائيليين كثيرين يشككون في قدرة نتنياهو وحكومته على اتخاذ قرارات صحيحة تتعلق بموضوعات حرجة أكثر من موضوع اعتراض طريق سفن متجهة إلى غزة، وفي مقدمها القرارات المتعلقة بإيران.