حزب الله، حركة "حماس"، و"الربيع العربي": الصمود في وجه العاصفة الإقليمية
المصدر
Israel Journal of Foreign Affairs

د. بينيديتا بيرتي*

 

خلال الأشهر الثمانية عشر الأخيرة، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تغيرات اجتماعية وسياسية تميزت بسرعة وتيرتها وسعة انتشارها. فقد سددت الاحتجاجات الشعبية، التي سميت [ثورات] "الربيع العربي"، ضربة قاسية إلى الوضع الراهن، وأثرت في الدول وفي المجموعات السياسية والعسكرية والاجتماعية، على حد سواء.

ومن هنا، فإن دراسة تأثير الربيع العربي في آفاق واستراتيجيات حزب الله وحركة "حماس"، هي مسألة جديرة بالاهتمام بالنسبة إلى مستقبل هذه المنطقة. ولذا، من المفيد دراسة كيفية تأقلم هذين التنظيمين مع البيئتين الجديدتين، السياسية والأمنية، لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

هناك اعتقاد شائع نسبياً بأن التحولات في موازين القوى الإقليمية، والصعود الثابت للإسلام السياسي، يصبان في مصلحة مجموعات مثل "حماس" وحزب الله. لكن، وعلى الرغم من وجود شيء من الحقيقة في هذا الاعتقاد، فإنه يبقى تبسيطياً للغاية، ويغفل عن التباينات الجوهرية القائمة بين التطورات السياسية المحلية من جهة، وبين الجهات الإسلامية المتعددة من جهة أخرى. وفي الواقع، فإنه في المحصلة جمع الربيع العربي  سمات متعددة، فقد أتاح فرصاً عديدة بقدر ما طرح تحديات جدية بالنسبة إلى كل من حزب الله وحركة "حماس".

فضلاً عن ذلك، فقد تعامل كل من حزب الله وحركة "حماس"، بصفتهما منظمتين متشعبتين، بطريقة مختلفة إزاء "اليقظة" الإقليمية. ويظهر حتى الآن أن "حماس" نجحت بقدر أكبر في التكيف مع مسار التغيير الجاري، في حين أن حزب الله واجه تحديات أكثر جوهرية وعمقاً.



 الأرض تهتز تحت أقدام حزب الله

إن مراجعة موجزة للمسار السياسي الذي مر به حزب الله  منذ بداية "الربيع العربي" قد تقود إلى الاعتقاد بأن هذا التنظيم لم يتأثر سلباً بمجريات التغيير الإقليمي الدائر.

فعلى صعيد لبنان، نجح حزب الله في إعادة تموضعه في صدارة الحلبة السياسية في مطلع سنة 2011بفضل تأليف حكومة قريبة منه برئاسة نجيب ميقاتي. ومنذ ذلك الحين، حافظ الحزب الذي يتزعمه [السيد] حسن نصر الله على موقعه في الحكومة، ونجح في تهميش خصومه السياسيين في تحالف 14 آذار/مارس. أمّا على الصعيد الإقليمي، فإن صعود الأحزاب الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، وسقوط أعداء الحزب - من أمثال حسني مبارك وحاشيته-  بدا وكأنهما قد عززا مكانة حزب الله عما كانت عليه في السابق.

بيد أن التمعن عن كثب في الشرعية السياسية، المحلية والإقليمية، لحزب الله، وفي بيئتيه الأمنية والسياسية الحاليتين، يكشف أن مفهوم خروج الحزب محصّناً - لا بل أقوى - من الربيع العربي، ليس أمراً مفروغاً منه. ويكمن التحدي الرئيسي الأول لشعبية حزب الله وشرعيته - سواء في لبنان أو على الصعيد الإقليمي - في ازدواجية معايير هذا الحزب إزاء مواقفه من أحداث العالم العربي.

في البدء، عندما اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية في كل من تونس، ومصر، والبحرين، وقف حزب الله بثبات في صف "الشارع العربي"، فهو رحب بحماسة كبيرة بسقوط النظام المصري، ذلك بأن مبارك، الذي لطالما اعتبره الحزب دمية إسرائيلية وأميركية، كان قد انتقد هذا الفصيل اللبناني الشيعي في إبان حرب لبنان سنة 2006، الأمر الذي أحدث صدعاً دائماً بين الفريقين. وتدهورت العلاقات أكثر بين الطرفين في أعقاب الحرب على قطاع غزة في سنة 2009، عندما اتهم حزب الله [حسني] مبارك بمشاركة إسرائيل في حصار القطاع، معرباً عن معارضته المتكررة لهذا النظام.[1]

وفي المراحل الأولى للربيع العربي، انحاز حزب الله انحيازاً لا لبس فيه إلى جانب المحتجين، محاولاً ربط الحراك الاجتماعي الصاعد بأجندة "المقاومة" الخاصة بالحزب. وعلى سبيل المثال، اعتبر [الأمين العام للحزب السيد] حسن نصر الله في مطلع شباط/فبراير 2011، أن الاحتجاجات الدائرة في مصر هي "ثورة الفقراء، وثورة الأحرار، وثورة طلاب الحرية، وثورة رافضي المهانة والذل الذي أُركز به هذا البلد بفعل الاستسلام لإرادة أميركا وإرادة إسرائيل (...) وهي ثورة على سياسات النظام في الصراع العربي - الإسرائيلي."[2]  وأضاف الأمين العام في الكلمة نفسها أن [ما يقوم به المحتجون في ميدان التحرير] "لا يقل أهمية عن الصمود التاريخي للمقاومة اللبنانية في حرب تموز/يوليو عام 2006، والصمود التاريخي للمقاومة الفلسطينية في حرب غزة عام 2008."[3]

لكن ، في الواقع، فشلت احتجاجات الربيع العربي في وضع الصراع العربي - الإسرائيلي صراحة على قائمة المطالب الرئيسية للمحتجين، فكان التركيز على المطالب المحلية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية. لا بل أكثر من ذلك، بدا أن الاحتجاجات - التي أخذت إلى حد بعيد طابع النضال السلمي اللاعنفي- ظلت في معظمها بعيدة جداً عن نموذج "المقاومة" المسلحة الخاص بحزب الله. وهكذا، وعلى الرغم من انحياز الحزب إلى جانب "الشارع العربي" فور اندلاع حركات الاحتجاج، فإن حزب [السيد حسن] نصر الله بدا منقطعاً بعض الشيء عن الخطاب الجديد المنبثق عن الثورات الإقليمية.

بيد أن التحدي الأكبر بالنسبة إلى حزب الله هو ذلك الذي ظهر عندما وصل الفوران السياسي إلى سورية. فعندما انتفض المحتجون ضد نظام الأسد - الذي هو حليف تاريخي للحزب اللبناني الشيعي- انعطف حزب الله 180 درجة على مواقفه السابقة الداعمة لـ "الثورات الشعبية"، ومنذ ذلك الوقت، أبدى الحزب دعمه الكبير لهذا النظام، وتشكيكه في المحتجين، زاعماً أن حركة المعارضة ضد الأسد هي من صنع الغرب.[4]  وحتى عندما تحولت التظاهرات المناهضة للنظام إلى حرب أهلية كاملة، واصل حزب الله دعمه للأسد.

لقد أدت ازدواجية المعايير المعتمدة من قبل حزب الله فيما يتعلق بالاحتجاجات في سورية، إلى تراجع شعبية هذا الحزب وشرعيته على الصعيد الإقليمي. وفي لبنان، وُجهت إليه انتقادات حادة بسبب وقوفه إلى جانب الأسد، إذ أعلن موقع "ناو ليبانون" المعارض بصراحة أن "حليف الدكتاتور هو عدو الشارع العربي."[5]

ويتخطى تأثير الأزمة السورية الحالية مجال الأيديولوجيا، ذلك بأن من شأنه إضعاف حزب الله على الصعيدين السياسي والعملاني،. ويبدو أن الحزب بدأ يفقد بعض نفوذه السياسي في الداخل اللبناني، وهنا يكمن التحدي الرئيسي الثاني لمكانة هذا التنظيم.

ومع صعود التوترات المذهبية، فقد حزب الله بعض شعبيته العابرة للطوائف، فعلى سبيل المثال كشف استطلاع (PEW) جديد للرأي أن ما نسبته 5٪ فقط من سنة لبنان يؤيدون حزب الله، في مقابل 94٪ من الشيعة. واللافت أن هذا الاستطلاع  كشف تنامي استياء الرأي العام المسيحي من الحزب، إذ إن فقط ثلث المستطلَعين من الطوائف المسيحية أعلنوا تأييدهم لحزب [السيد حسن] نصر الله.[6]

.... ...

وفي النهاية، فإن الثورة الحالية في سورية قادرة على أن تؤثر في مواقف الحزب الاستراتيجية والعملانية على المدى البعيد. فقد لعبت سورية، تاريخياً، دوراً حاسماً في مسيرة حزب الله، وشكلت صلة وصل بين إيران ولبنان، فسهلت تدفق الأسلحة والدعم اللوجستي للحزب، وخلال العقود الأخيرة، شكل الوجود السوري في لبنان ضمانة لسلاح حزب الله ولأجندة "المقاومة". لكن الصراع الدائر في سورية يهدد الترتيبات القائمة، ومن شأن العنف الداخلي المتواصل وإضعاف النظام أن يحدا من قدرة سورية على التدخل في لبنان وعلى دعم حزب الله فيه. كما أن قدرة [النظام في] سورية على تقديم الدعم اللوجستي ونقل الأسلحة من إيران سوف تتأثر نتيجة الأحداث.

وفي المدى البعيد، وبما أن الأسد ونظامه يتجهان على ما يبدو نحو الانفجار الداخلي والانهيار، سيواجه حزب الله تحدياً أكبر، ومن المرجح أن تغير "سورية ما بعد الأسد" منحى الشراكة الحالية مع الحزب وتعيد النظر بـ "العلاقات المميزة" معه، الأمر الذي قد يفضي إلى خسارة الحزب أحد أهم مصادر الدعم الخارجي. فقد انتقدت المعارضة السياسية في سورية بشدة دور حزب الله في دعم النظام، وحرق المتظاهرون أعلام الحزب، هاتفين شعارات تطالب الحزب الشيعي بالتراجع.[7] ...

وفي هذا السياق، من الإنصاف القول إن هذا التنظيم يواجه حالياً أحد أهم التحديات منذ تأسيسه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. ومن الجلي القول أيضاً إن حزب الله وأجندته لم يستفيدا بشكل ملحوظ من أحداث الربيع العربي، ومع ذلك، فإن التحدي الذي قد يشكله السقوط المحتمل لنظام الأسد لا يمكن أن يكون غير قابل للتذليل، فبالنظر إلى تطور الجهاز العسكري للحزب وحجمه، وتحالفه القوي مع إيران، لا يكفي سقوط نظام الأسد لإخماد الدعم السياسي الخارجي للحزب. وفي الداخل اللبناني أيضاً، لا تزال الأغلبية الساحقة في الطائفة الشيعية تؤيد حزب الله، وهذا يُعزى جزئياً إلى غياب البدائل السياسية الجدية للثنائي حركة أمل - حزب الله. ومع ذلك، سيشكل التغيير السياسي في سورية تطوراً إشكالياً للغاية بالنسبة إلى الحزب.



هل يشكل "الربيع العربي" فجراً تنظيمياً جديداً بالنسبة إلى حركة "حماس"؟

تماماً  كما هي حال حزب الله، كان لأحداث الربيع العربي تأثير مباشر على حركة "حماس". فمن جهة، تمكنت الحركة من الصمود في وجه العاصفة عبر نزع فتيل المعارضة الداخلية في قطاع غزة، وإحكام سيطرتها على القطاع. ومن جهة أخرى، شهدت الحركة عدداً من التغييرات المهمة في محاولة للتطور والتكيف مع تبدلات البيئة الإقليمية.

فعندما اندلعت شرارة "اليقظة العربية" بادئ ذي بدء في كل من تونس ومصر، أيدت حركة "حماس" - على غرار حزب الله - جهاراً حركات الاحتجاج الناشئة. فقد حيّا مسؤول العلاقات الخارجية للحركة أسامة حمدان، في وقت مبكر، أي في كانون الثاني/يناير 2011، الثورةَ التونسية، متمنياً أن تشكل الاحتجاجات نموذجاً يحتذى به في سائر دول المنطقة.[8]

وفي الحالة المصرية كانت ردة فعل حركة "حماس" أكثر تأييداً، إذ أعلن هذا الفصيل الفلسطيني بوضوح أن سقوط نظام مبارك يشكل ضربة قاسية لإسرائيل. وتتلخص أطروحة الحركة بالمقولة التالية: "إن تغيير النظام المصري يعني كسر المعادلة التي ضمنت أمن اليهود [كذا!] وطمأنت مخاوفهم من المصريين، وشفت غليلهم لضمانات وجودهم، ووفرت لهم الحماية من غضب الجماهير. فهذه هي الفوائد التي جنتها إسرائيل تحت مسمى مسار السلام."[9]

وفحوى التصور الرئيسي للحركة هو أن الربيع العربي يصب في مصلحة "حماس"، أولاً، لأنه يؤدي إلى سقوط أعداء قديمين - مثل النظام المصري في عهد مبارك - وثانياً، لأنه ينشر روح "المقاومة" في أرجاء منطقة الشرق الأوسط. ولقد اعتُبر الحضور المتنامي للأحزاب الإسلامية في كل من مصر وتونس، في مرحلة ما بعد الثورة، تطوراً مشجعاً، وتعزز هذا التقويم الإيجابي عندما فشلت جميع النداءات لإطلاق "ربيع عربي فلسطيني" في قطاع غزة.[10]

وعلى الرغم من ذلك، كانت حركة "حماس" تعي أن موجة التغيير الاجتماعي والسياسي العاتية قد تشكل تحدياً للحركة على الصعيد الإقليمي، أقله على مستويين: أولاً، كانت حركة "حماس" تخشى من أن يمتد الفوران الإقليمي إلى قطاع غزة، وأن يغذيه الاستياء المحلي من الأوضاع السائدة في فلسطين. ومن جملة شكاوى الشعب الفلسطيني، كان ثمة مسألة عالقة تثير السخط ألا وهي الانقسام الدائم بين حركتي "فتح" و"حماس"، والانفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة بصفته أمراً واقعاً. وبهذا المعنى، فإن رغبة الطرفين ("فتح" و"حماس") في نشر عبير الربيع العربي في أرجاء فلسطين دفعتهما إلى توقيع اتفاقية المصالحة والتعهد - أقله على الورق- بإنهاء الانقسام والتوتر.

ثانياً، حمل الربيع العربي - بخطابه الجديد المتمحور حول الحقوق والحريات الاجتماعية والسياسية - حركة "حماس" على إعادة النظر في استراتيجية نشاطها وشعارها. وكانت النتيجة المهمة لهذا التطور أن ركزت الحركة خلال العام الماضي على مواصلة النضال اللاعنفي بموازاة المقاومة المسلحة.[11]

فلقد أدركت حماس أن التطورات الإقليمية الجديدة تتميز بصعود مجموعات لاعنفية، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وبالتالي، لم يكن مفاجئاً أن تستجيب الحركة إلى هذا المنحى عبر التأكيد على أنشطتها اللاعنفية، والتشديد على قرابتها الأيديولوجية من جماعة الإخوان. وعلى سبيل المثال، أعلنت الحركة في كانون الأول/ديسمبر 2011، أنها تسعى للانضمام مجدداً إلى التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، الذي تتفرع منه الحركة.[12]

أمّا التحدي الملحوظ الآخر الذي شكله الربيع العربي بالنسبة إلى حركة "حماس" فقد كان تحدياً عملانياً واستراتيجياً أكثر منه أيديولوجياً. وعلى وجه التحديد، وكما هي حال حزب الله، أثّر الفوران والعنف الدائران في سورية بشكل مباشر في الحركة، إذ شكلت سورية في الواقع، ومن خلال نظام الأسد، حليفاً مهماً للفصيل الفلسطيني، فاستضافت دمشق المقر الرئيسي للمكتب السياسي للحركة الذي يرأسه خالد مشعل. لكن موقف "حماس" مما يحدث في سورية كان أكثر تعقيداً من موقف حزب الله، ففي حين كان الحزب اللبناني الشيعي يرتبط بعلاقات سياسية وأيديولوجية واستراتيجية مع نظام الأسد حصرياً، كانت "حماس" منذ البداية عالقة بين الطرفين المتحاربين. وفي الواقع، في حين كان لـ "حماس" ارتباط سياسي قوي بالأسد ونظامه، كانت لها أيضاً علاقات مذهبية ودينية مع الأغلبية السنية السورية المنتفضة ضد النظام العلوي. أضف إلى ذلك أن أحد أهم أحزاب المعارضة المناوئة للأسد هي "جماعة الإخوان المسلمين - سورية"، ومن هنا، لم يكن الانحياز إلى صف الأسد وتجاهل مظالم المعارضة خياراً ممكناً بالنسبة إلى الحركة.

وهذا، بدوره، يفسر ممانعة قادة "حماس" إدانة النظام والانحياز إلى المحتجين في بداية حركات الاحتجاج المناوئة للأسد، على غرار ما فعلت الحركة مبكراً في حالتي تونس ومصر.[13]  وبشأن هذه المسألة الشائكة، نقلت جريدة "الشرق الأوسط" عن صحافي محسوب على "حماس" وصفه الدقيق لحراجة موقف الحركة بسبب معضلة الأزمة السورية، وذلك بقوله: "لقد وقف كل من الشعب والقيادة في سورية إلى جانب المقاومة الفلسطينية، فحميا هذه المقاومة وعلى الأخص حركة ‹حماس›... إن ما يحدث حالياً في سورية شأن داخلي بحت، و‹حماس› لا تتدخل في الشأن الداخلي السوري."[14]

لكن، ومع تصاعد الأزمة وتفاقم العنف، بدأت تتداعى سياسة عدم التدخل التي اتبعتها "حماس". فأولاً، شرع كل من الأسد وحليفته الإقليمية الأساسية، إيران، في إبداء استيائهما من عدم دعم "حماس" المباشر للنظام السوري.[15]  ومنذ آب/أغسطس 2011، زعمت تقارير صحافية أن إيران شرعت في معاقبة "حماس" على سكوتها عما يجري في سورية، وذلك عبر وقف تمويلها.[16]  وثانياً، بدأت حماس تشعر بعدم الراحة لربط اسمها بالنظام السوري الوحشي، الأمر الذي دفع الحركة إلى أخذ مسافة من دمشق، بالتدريج، فخفضت مستوى تمثيلها في العاصمة السورية، ثم أخلى ممثلو الحركة بهدوء مقر مكتبها.[17]

ويُعتبر نقل مقر المكتب السياسي للحركة من دمشق إحدى أهم نتائج الربيع العربي بالنسبة إلى "حماس"، كذلك فإن التراجع في مستوى العلاقات بين "حماس" وكل من نظام الأسد وحليفته الأساسية إيران لن يشكل تهديداً لمكانة هذه الحركة، إذ إن رفض "حماس" دعم الأسد بقوة في مواجهة الاحتجاجات أدى إلى إضعاف علاقة الحركة بكل من سورية وإيران، لكنه فتح أمامها نافذة من الفرص لإعادة رسم تحالفاتها الإقليمية، والابتعاد عن "محور المقاومة".

وقد تكون هذه فرصة لتوثيق علاقات "حماس" بدول الخليج، ولتعميق علاقاتها بجماعة الإخوان المسلمين في مصر. إذ صرّح أحمد يوسف، المستشار السياسي لـ"حماس"، في حزيران/يونيو 2012 بما يلي:

سنتطلع إلى مصر في سبيل تحديد الطريق التي سوف نتبعها، وستطلب "حماس" على الدوام النصح من القيادة المصرية الجديدة. وسنصغي لما سيقولونه بشأن القضية الفلسطينية، وبالتحديد بشأن ملف المصالحة... سنصغي إليهم ونتبع مشورتهم الصالحة. وينبغي أن أضيف أنه في ظل قيادة [الرئيس المصري محمد] مرسي، ستتبع حركة "حماس" نهجاً أكثر اعتدالاً، ولقد تلقينا في الفترة الأخيرة بعض النصائح لتليين موقفنا. وحتى قيادة تنظيم الإخوان المسلمين تعتبر أنه من الأفضل لنا أن نعتمد نهج الاعتدال، وتطلب منا تفادي الاشتباكات العسكرية مع العدو الإسرائيلي، وتدفعنا إلى السير إلى الأمام في ملف المصالحة.[18]

وفي الخلاصة، وعندما ننظر إلى تأثير الربيع العربي في حركة "حماس"، يمكن أن نرى أن الحركة استثمرت جهداً كبيراً في إعادة تغيير صورتها، وفي إعادة النظر في علاقاتها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كنتيجة مباشرة للتغيرات الإقليمية الجارية. وعلى النقيض من حزب الله، يبدو أن "حماس" كانت أكثر استيعاباً لتبدل المشهدين السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، قد يمثل الربيع العربي بالنسبة إلى الحركة، في المدى البعيد، فرصة أكثر منه تهديداً، شرط أن تكون مستعدة لإجراء التغييرات الداخلية والاستراتيجية الضرورية.

وبناء عليه، وحتى لو تأثر كل من حزب الله و"حماس" مباشرة بأحداث الربيع العربي، يبقى أن نتائج هذه الأحداث تختلف بالنسبة إلى الفصيلين. فلقد كان التأثير مباشراً وأكثر سلبية على الحزب الشيعي اللبناني، مقارنة بحركة حماس الفلسطينية، ويُعزى السبب إلى اختلاف الخطابين السياسيين للفصيلين، واختلاف درجة المرونة والقدرة على التكيف لديهما. ولا شك في أن علاقاتهما السابقة بسائر اللاعبين السياسيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبإيران، تؤدي دوراً أيضاً في هذا المجال، وهذا ما يجب متابعته عن كثب في المستقبل.

 

*  باحثة في "معهد دراسات الأمن القومي" التابع لجامعة تل أبيب، ومتخصصة في شؤون الإرهاب والعنف السياسي في الشرق الأوسط، وفي المنظمات الإسلامية المتشددة، وفي الشؤون السياسية اللبنانية والفلسطينية. هي أحد مؤلفَيْ  كتاب "حزب الله وحركة حماس: دراسة مقارنة"، الصادر مؤخراً عن جامعة جونز هوبكنز للنشر.

-  نقلته عن الإنكليزية: يولا البطل.

 

[1]  بينيديتا بيرتي، "استراتيجيات الاحتواء المحلي والتمدد الإقليمي لحزب الله"، CTC Sentinel, United States Military Academy at West Point, II: 11 (November 2009).                                                 

[2]  "الكلمة التي ألقاها أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في ختام المهرجان الشعبي الكبير لدعم عروبة مصر وتعزيز نهج المقاومة في الوطن العربي، في ساحة بلدية الغبيري"، المكتب الإعلامي لحزب الله، 7/2/2011.

[3]  المصدر نفسه.

[4]  تقرير لقناة "المنار" اللبنانية: "تظاهرة مليونية تأييداً للرئيس السوري"، BBC Monitoring Middle East, March 30,2011.                                                                                                                                          

[5]  انظر مقال حنين غدار، "مقاومة جديدة، عدو جديد" في موقع "ناو ليبانون"، 24/10/2011: “A New  Resistance , A New Enemy” nowlebanon.com/NewsArticleDetails.aspx?ID=325376#ixzzlcv6lf9Av                                                                 

[6]  "دراسة : تأييد التونسيين لحزب الله يتجاوز تأييد اللبنانيين له"، "نهار نت"، 11/7/2012: www.naharnet.com/stories/en/46209-survey-more-tunisians-express-support-for-hizbullah-than-lebanese.                                                                                                                                           

[7] انظر مقالة أبيغيل فيلدينغ سميث:Abigail Fielding-Smith, “Hizbollah leader defiant despite Syria turmoil”, Financial Times, December 6, 2011, www.ft.com/cms/s/0/8e8dl984-2043-llel-9878-00144feabdc0.html#axzzlhfR8LNjc                                                                                                

[8]  "موقع حركة ‹حماس› الإلكتروني يقول إن الرئيس عباس سيواجه نفس مصير الرئيس التونسي"، المركز الفلسطيني للإعلام ، 16 كانون الثاني/يناير 2011.

[9]  فايز أبو شمالة، "والآن ماذا؟"، "فلسطين"، 4 شباط/فبراير 2011.

[10]  "شرطة ‹حماس› لا تتوقع تظاهرات وقوات الأمن غير مستنفرة"، "القدس العربي"، 11 شباط/فبراير 2011؛ "حملة فتح من أجل الثورة في قطاع غزة تبوء بالفشل"، "فلسطين"، 12 شباط/فبراير، 2011.

[11]  انظر مقالة بينيديتا بيرتي، "تعرف على حماس الجديدة": Benedetta Berti, “Meet the New Hamas: Strategic Shift or Temporary Deviation from a Violent Path?”                      open democracy website, January 15, 2012, www.opendemocracy.net/benedetta-berti/meet-%E2%80%new%E2%80%99-hamas-strategy-shift-or-temporary-deviation-from-violent-path.                                                                               

[12]  جيهان الحسيني، "حماس أصبحت عضواً مستقلاً في التنظيم العالمي للإخوان"، "الحياة"، لندن، 10 كانون الأول/ديسمبر 2011.

[13]  "وسائل إعلام ‹حماس› والجهاد تتجاهل الأحداث في سورية"، "الشرق الأوسط"، 14 نيسان/ أبريل 2011.

[14]  المصدر نفسه.

[15]  علي الصالح، "مصدر فلسطيني لـ ‹الشرق الأوسط›: ‹حماس› تواجه ضغوطاً في دمشق"، "الشرق الأوسط"، 14 تشرين الأول/أكتوبر 2011، www.aawsat.com/details.asp?section=1&issueno=12008&article=645030&feature                     

[16]  "إيران عاقبت ‹حماس› لعدم دعمها النظام السوري والحركة تستنجد بالإخوان لمواجهة أزمتها المالية"، "الجريدة"، 25/8/2011، www.aljaridaonline.com/2011/08/24/157305/

[17]  "‹حماس› تخفض من حضورها في دمشق"، "الحياة"، لندن، 6 كانون الأول/ديسمبر 2011.

[18]  أحمد يوسف، "‹حماس› قد تواجه ضغوطاً لتليين مواقفها"، "الحياة"، لندن، 26 حزيران/يونيو 2012.