من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
ترجمته عن العبرية: يولا البطل
[هذا البحث هو في الأساس ملخص ورشة عمل عقدت تحضيراً لمؤتمر هرتسليا الحادي عشر والذي شارك فيه كبار العاملين في وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية، وفي معهد التصدير والتعاون الدولي التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية. ويحاول كاتب البحث الإجابة عن السؤال التالي: أين يقع المستقبل الاقتصادي لإسرائيل؟ أهو في الغرب، المقصد الأمثل للمنتوجات فائقة التكنولوجيا والمطوّرة في المنشآت الإسرائيلية الصغيرة والمتوسطة الحجم، أم في الدول الآسيوية الصاعدة بأسواقها العملاقة؟ كذلك يخصّص الكاتب مساحة كبيرة لجدوى تعزيز التبادل التجاري مع كل من الصين والهند، ومخاطره المحتملة. ويعرض أسباب إعادة هيكلة الصادرات الإسرائيلية وتداعياتها المحتملة. والكلام يدور فقط على الصادرات المدنية إلى الأسواق الآسيوية الواعدة. فالتعاون العسكري الإسرائيلي ـ الهندي متواصل منذ أعوام، وتُعد الهند أكبر سوق لصادرات الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وهي مقصد أكثر من ثلث مجموع صادرات الأسلحة الإسرائيلية. ولولا الممانعة الأميركية، لكانت الصين مقصداً ثميناً لهذا النوع من التصدير. إن هذا البحث نُشر في وقت كان فيه وفد صيني كبير برئاسة وزير التجارة الصيني، شين ديمينغ، يجري مباحثات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين (لقاء مع شمعون بيريس في 2/3/2011) بشأن تعزيز التعاون المشترك وزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين، والذي بلغ ما قيمته 7،65 مليار دولار أميركي سنة 2010، وتضاعف 150 مرة بين سنة 1992 وسنة 2010 (وكالة خنهوا الصينية 3/3/2011). وكان وزير التربية الإسرائيلي أعلن في آب/أغسطس 2010 أنه قرر إدخال تعليم اللغة الصينية في المقرر الدراسي، كلغة ثانية إلى جانب الإنكليزية (وكالة خنهوا 5آب/أغسطس 2010).] (المترجمة)
مقدمة
شهدت الأعوام الأخيرة صعود اقتصادَي الصين والهند على نحو يهدد السيطرة الاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية ولأوروبا، ويزعزع مكانتهما كمركزين اقتصاديين رائدين. وسيصبح الاقتصاد الصيني إذا واصل مساره الصاعد أكبرَ اقتصاد في العالم خلال أعوام معدودة. وستتمكن الصين، إلى جانب الهند وبلدان آسيوية أخرى، من تغيير المعايير الثقافية والتجارية للتعامل الاقتصادي على نطاق عالمي. لا شك في أن تغيّر بنية الاقتصاد العالمي سيجلب معه فرصاً جديدة لإسرائيل، ولسائر بلدان العالم، لكنه يحمل أيضاً كثيراً من المخاطر. إن الاقتصاد الإسرائيلي موجّه بشكل أساسي للتصدير إلى سوق الولايات المتحدة الأميركية، وبدرجة ثانية إلى السوق الأوروبية. ويعتمد تواصل نمو الاقتصاد الإسرائيلي إلى حد كبير على تطور التصدير، لكن تعاظم الأسواق الآسيوية يستدعي على ما يبدو تغييراً في توجه إسرائيل التجاري، وملاءمة الاقتصاد الإسرائيلي لهذه الأسواق. فالمطلوب إيجاد القوة الكامنة للنمو في هذه الأسواق، والتعويض بواسطتها عن ضعف الأسواق الغربية الذي يلحق الضرر بالصادرات الإسرائيلية.
ليس تغيير وجهة التجارة الخارجية نحو أسواق الشرق مهمة سهلة بالنسبة إلى الشركات الغربية. فالأسواق الآسيوية تعكس ثقافة تجارية وسياسية وسلوكيات مختلفة كلياً عما اعتادته المنظمات الغربية، ومن ضمنها المنظمات الإسرائيلية، في الأسواق الأخرى. وتشكل هذه الأسواق بالنسبة إلى المصدّرين الإسرائيليين خاصة تحدياً قاسياً، لأنه مهما كان نموذج وطبيعة النشاط التجاري المباشر في هذه الأسواق، يبقى أن هناك تفوقاً حاسماً للشركات كبيرة الحجم، وللمصدّرين القادرين على توفير موارد مالية كبيرة لتطوير الاستثمار في الدول الآسيوية. وعندما يتعلق الأمر بتصدير المنتوجات الاستهلاكية، تهناك صعوبة أخرى هي ملاءمة هذه المنتوجات للقوة الشرائية، وللذائقة العامة، ولأنماط الاستهلاك السائدة في هذه الأسواق. أضف إلى كل ذلك حقيقة أن الأسواق الآسيوية الصاعدة تستقطب جميع الشركات والحكومات في العالم، والتي تجد فيها ساحات ملائمة للتنمية ولتطوير الأعمال. ويتزاحم الجميع على وضع نماذج وأنشطة تهدف إلى ترسيخ أقدامهم في هذه الأسواق.
تفرض هذه الأوضاع المستجدة القيام بدراسة معمقة لتداعيات إعادة هيكلة الصادرات الإسرائيلية على الاقتصاد: ما هي مستلزماتها، وهل تتم على حساب التصدير إلى الأسواق الأميركية والأوروبية؟ ما هي فرص نجاح الشركات الإسرائيلية في الأسواق الآسيوية، وما هي مجالات وميّزات النشاط اللتان تضمنان أفضل الفرص لنجاح الشركات الإسرائيلية في هذه الأسواق؟ وفي هذا السياق يُطرح سؤال مهم آخر عن حجم وطبيعة التدخل الحكومي الكفيل بدفع التصدير الإسرائيلي الى أسواق آسيا.
تلخّص ورقة العمل هذه المناقشة التي دارت في 28/12/2010 بشأن موضوع إعادة توجيه التجارة الإسرائيلية إلى دول آسيا، وذلك كجزء من الاستعدادات لجلسة مخصصة للموضوع في إطار مؤتمر هرتسليا الحادي عشر (شباط/فبراير 2011). وقد شارك في النقاش خبراء ومسؤولون معنيون بالتفكير وبتقديم الخطط، وبعض الذين يقومون بأنشطة على صلة بهذه المسألة المركزية. وتعرض الورقة الأفكار والآراء التي طُرحت خلال النقاش، والتي لا تعبّر بالضرورة عن الموقف الرسمي للهيئات الرسمية التي ينتمي إليها المشاركون.
التغيير في بنية الاقتصاد العالمي وانعكاساته على إسرائيل
إن تعاظم الاقتصادات الآسيوية يشكل منحىً واضح المعالم سيؤدي في نهاية المطاف إلى نظام اقتصادي عالمي تصل فيه حصة اقتصادَيْ الصين والهند إلى ما بين 30٪ و40٪ من إجمالي الناتج العالمي، في حين تنخفض حصة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الى نحو 30٪ من الناتج العالمي. وتُظهر آخر بيانات التجارة الخارجية لإسرائيل أن الاقتصاد يلائم نفسه فعلاً مع التغيير الذي حدث في البنية الاقتصادية العالمية. فوفقاً لهذه البيانات، زادت نسبة الصادرات الإسرائيلية إلى دول آسيا على 100٪ في سنة 2009، وكذلك في الربعين الأخيرين من سنة 2010. لكن، في الفترة نفسها، ارتفع حجم مستوردات إسرائيل من هذه الدول، إذ لا يزال الميزان التجاري بين إسرائيل ودول آسيا سلبياً. إن الحاجة إلى بلورة سياسة هادفة، وإلى زيادة الموارد المخصصة لتوسيع الصادرات إلى آسيا، هي موضع إجماع السلطات الإسرائيلية كافة، وهي مقبولة أيضاً من كثيرين في قطاع الأعمال. ويستند هذا الإجماع إلى توقع مفادُه أن اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ستستمر، في المدى القريب والأوسط، في مواجهة مشاكل بنيوية تعيق نموها، وعلى رأسها مشكلة الديون، والعجز في الميزانية، بالإضافة إلى الأزمة النقدية لمنطقة اليورو. وستعوّض زيادة حجم التبادل التجاري الإسرائيلي مع الدول الآسيوية، المتوقع أن يحقق معدل نمو سنوي يتراوح بين 6٪ و7٪ خلال العقد القادم، خسائر الاقتصاد الإسرائيلي الناجمة عن تباطؤ التصدير إلى كل من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
إن تحديد سياسة حكومية ملائمة لزيادة الصادرات إلى الدول الآسيوية أمر معقد، نظراً إلى عدم وجود تاريخ طويل من العلاقات التجارية، وإلى عدم الإلمام العميق بهذه الأسواق والاقتصادات، أو بالثقافة السائدة فيها. وفي بعض الدول، تضاف إلى هذه الصعوبات عقبات وعراقيل بيروقراطية حقيقية. كذلك تطرح هذه الأوضاع على إسرائيل عدداً من المعضلات ينبغي معالجته بواسطة سياسة هادفة قائمة على:
1- تحديد وتفضيل دول المقصد وفقاً لخصائصها: إن معاملة آسيا ككتلة واحدة أمر مضلِّل. فثمة تباينات كثيرة فيما بين هذه الدول. هل تنتمي الصين والهند الى تجمع يتصرف بشكل مختلف عن بقية دول آسيا؟ هل تُعتبر سائر دول آسيا (من دون الصين والهند) بلاداً نامية عادية، وهل ينبغي بلورة سياسة جنيسية generic ملائمة لها، والتي قد تلائم أيضاً دولاً كالبرازيل، والمكسيك، وما يشابهها.
2- تحديد وتفضيل دول المقصد وفقاً لسهولة مقاربتها (بالنسبة إلى إسرائيل): هل ينبغي إعطاء الأولوية للجهود الدبلوماسية ولرصد أموال حكومية تذليلاً للصعوبة التي تعترض عمل كل من إسرائيل والإسرائيليين في الدول المتعددة؟ إن الإجابة عن هذه المعضلة تكمن في اختيار اتجاه من اثنين: إمّا تركيز النشاطات في دول يعتبرها الإسرائيليون "سهلة" (على سبيل المثال، الهند مقارنة بالصين)، أو على العكس، تركيز النشاطات في دول تعتبر "صعبة" بالنسبة إلى الإسرائيليين. وتجدر الإشارة إلى أن سياسةً على قدر من المنهجية الجامدة في تحديد الأولويات، تنطوي على مخاطر إهمال قطاعات معينة، فيتبين لاحقاً أننا أضعنا فرصاً عديدة.
3- استمرار كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في تأدية دور مهم في التجارة العالمية: حتى لو أخذنا في الاعتبار أفضل السيناريوهات الاقتصادية بالنسبة إلى دول آسيا، تبقى كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لاعباً أساسياً في التجارة العالمية. قد يكون حجم الاقتصاد الإسرائيلي أكثر ملاءمة لهذه الأسواق، وبالتالي على هذا الاقتصاد مواصلة تطوير التصدير إليها. كذلك هناك عنصر إضافي قد يرفع مستوى المخاطر المتصلة بإعادة معايرة (دوزنة) التجارة الإسرائيلية نحو الأسواق الآسيوية، وهو إمكان حدوث أزمة آسيوية تغير الاتجاه الحالي وتدحض التوقعات المتفائلة. فالاقتصاد الصيني، على سبيل المثال، يستند إلى هيكلية نقدية إشكالية، وكذلك إلى بيئة سياسية معرّضة للتتدهور بسرعة. وفي هذا السياق، يتميز اقتصاد كوريا الجنوبية بقاعدته المتينة للغاية بما في ذلك تدني إمكان حدوث أزمة، وبقدرة على امتصاص الصدمات على نحو أفضل.
4- تقويم الجدوى النسبية لإعادة توجيه التجارة إلى دول آسيا: ويشكل هذا الأمر معضلة بقدر ما يُترجَم تشجيع التجارة مع آسيا في بعض الحالات تخلياً عن الجهود لتعزيز التجارة مع أوروبا. ويُقصد من ذلك هو في المقام الأول المتطلبات التنظيمية للسوق الأوروبية من حيث تكلفتها بالنسبة إلى الاقتصاد. فهل يترك الانضمام الى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) التي تشمل دولاً رائدة في آسيا والمحيط الهادئ، مجالاً للاهتمام بالجوانب التنظيمية المطلوبة لتوسيع التجارة مع السوق الأوروبية، وبرصد موارد أقل بكثير؟
أبعد من هذه المعضلات، هناك سؤال عام عن دور الحكومة كمحدِّد للاتجاهات في التجارة الخارجية مقارنة بـ "اليد غير المرئية" في القطاع الخاص. وتشير بيانات التجارة الخارجية إلى أن قطاع الأعمال يتصرف وفقاً للاتجاهات العالمية، أي انخفاض في الصادرات إلى الولايات المتحدة الأميركية يقابله ازدياد في الصادرات إلى آسيا. لكن تحليل هذه الأرقام لا يؤشر إلى اختراق ملحوظ في التجارة مع آسيا. وقد يكون المطلوب فحص دور الحكومة والأدوات التي في متناولها. بصورة عامة، يُعتبر تدخل الحكومة في الدول الآسيوية، عنصراً مشجعاً على تطوير الأعمال التجارية، وقد يكون في بعض الأحيان شرطاً ضرورياً لها، وتُعتبر الصين مثالاً رئيسياً على ذلك، فهي دولة شديدة البيروقراطية، إذ إن التعامل من حكومة لحكومة (على جميع المستويات: بدءاً بالحكومة المركزية ووصولاً إلى أصغر مسؤول في الإدارة المحلية للمقاطعات والمدن) هو الخيار شبه الوحيد لتطوير الأعمال التجارية على نحو فعال.
هناك عدة أدوات تُعتبر رافعات حكومية لتشجيع التجارة مع الدول الآسيوية، وجميع هذه الأدوات ميسِّرة ومشجِّعة أكثر مما هي موجِّهة للتجارة. وأهم وسيلة في هذا الإطار هي اتفاقيات التجارة الحرة، فهناك مفاوضات على الطريق لعقد اتفاقيات "مناطق حرة" بين اسرائيل والهند، وبين إسرائيل وكوريا الجنوبية. بالإضافة إلى هذه الوسيلة، هناك أدوات أخرى متوسطة ومنخفضة التكاليف بالنسبة إلى الميزانية، وهي:
1-توسيع الأطر الحكومية للضمان ضد مخاطر التجارة مع مختلف الأسواق الآسيوية، وتغيير تعريف أنشطة شركات التأمين، والضمان ضد مخاطر التجارة الخارجية.
2-تطوير أداة تأمين مخصصة لحماية الملكية الفكرية و/أو براءات الاختراع في الأسواق الإشكالية فيما يتعلق بهذه الناحية، وهذه تكلفتها منخفضة نسبياً قياساً بمخاطر انتهاك حقوق الملكية الفكرية وما ينجم عنه من خسائر تجارية في هذه الأسواق.
3-تطوير منظومة للضمانات والقروض تسعى لشراء شركات محلية في هذه الأسواق، بحيث تشكّل هذه الشركات رافعة لتسهيل دخول الشركات الإسرائيلية إلى هذه الأسواق.
4-إنشاء منظومة تمويل داعمة، إطارها الزمني من ثلاثة إلى خمسة أعوام، أي الفترة الزمنية الفاصلة بين إجراءات تأسيس المشاريع وبدء الإنتاج. فإنضاج العمليات التجارية في دول آسيا يتطلب وقتاً طويلاً نسبياً نتيجة الاختلافات الثقافية التي تستوجب وقتاً للتعرف على الشركاء التجاريين وعلى السوق المحلية، ووقتاً إضافياً للتغلب على المعوقات البيروقراطية، وأيضاً مجالاً رحباً للتجربة والخطأ.
5-تطوير البنية التحتية للتعليم الأكاديمي المتخصص بالدراسات الآسيوية، وجعل إسرائيل مركزاً أكاديمياً ريادياً على مستوى عالمي، ومختصاً بتدريس
أوضاع هذه الدول وتحليلها. ومن ضمن ذلك، تطوير التعليم الأكاديمي المختص بالموضوعات الآنية في دول آسيا من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وهذا من شأنه خلق بيئة عمل مساعدة في تشجيع التجارة مع الدول الآسيوية.
6-إقامة معارض تجارية في الدول الآسيوية، وهذا ما يقوم به معهد التصدير الإسرائيلي الذي يخصص جزءاً كبيراً من أنشطته وميزانيته لتنظيم هذه المناسبات في الدول الآسيوية.
7-تشجيع تبادل الطلبة الجامعيين بين إسرائيل وآسيا، والتركيز على طلبة الماجستير في إدارة الأعمال، الأمر الذي يمكن توظيف نتائجه بسرعة في القطاع الخاص.
8-زيادة حجم المشاركة الإسرائيلية في المنتديات والمحافل التجارية متعددة الأطراف في الدول الآسيوية، والتي هي على غرار الـ "أبيك".
9-تشغيل وكلاء محليين وشركات في بلاد المقصد مهمتهم اصطياد الفرص، بحيث يشكلون وحدات تطوير تجارية لمصلحة الشركات الإسرائيلية. وتعمل مراكز تجارية من هذا النوع في الصين منذ ثلاثة أهوام، وتتسم بعلامة "النجاح". ويكون هؤلاء الوكلاء بمثابة أجهزة رصد وجمع معلومات عن الفرص المتاحة التي هي من نوع "الفواكه سهلة القطف". ويحوّل ممثلو الحكومة هذه المعلومات والمعطيات إلى مبادرين من القطاع الخاص قادرين على استثمار هذه الفرص.
عندما نركّز على أسواق الصين والهند، علينا أن نشير إلى أن المصدّرين يحتاجون، في كل ما يتعلق بالمنتوجات الاستهلاكية، إلى العلامة التجارية، والقوة المالية والاستثمارية، والقدرة الانتاجية والتسويقية على نطاق واسع. وتتميّز هذه الأسواق بأنماط استهلاكية فريدة، وخصوصاً فيما يتعلق بالسلع المستوردة من الدول الغربية، أي، تحديداً، المنتوجات التي تؤمّن للمستخدِم تجربة مماثلة من ناحية الجودة لتلك الموجودة في الأسواق الغربية، لكن بتكلفة أقل بكثير. وهناك عدد قليل جداً من المنتجين الإسرائيليين للسلع الاستهلاكية، قادر على تلبية هذه الشروط، الأمر الذي يجعل شبه مستحيل اختراق المصنّعين الاسرائيليين أسواق كل من الهند والصين.
إن التجارة المبنية على التكنولوجيا ونقل المعرفة العلمية هي جانب جوهري آخر في كل ما يتعلق بإسرائيل وبدور الحكومة في دفع التصدير إلى الدول الآسيوية. إذ يُنظر في هذه الدول إلى إسرائيل على أنها مركز ريادي في الابتكارات دولياً. ويُعتبر النشاط التجاري المبني على أعمال البحث والتطوير الرافعة الأجدى لتحقيق اختراق ملحوظ في حجم التجارة مع الدول الآسيوية، وللحكومة في هذا المجال دور مهم، سواء بالنسبة إلى مأسسة قنوات التعاون الاقتصادي، أو بالنسبة إلى التحوّط من المخاطر المتصلة بهذه التجارة.
وتبرز مشكلات متصلة بانتهاك حقوق المنتجين في سياق التعاون المشترك وتوطين الاستثمارات ونقل التكنولوجيا في أنحاء العالم كافة، إلاّ إنها تشكّل في الصين خطورة بالغة بالنسبة إلى الشركات الغربية نتيجة ما ينسب إليها من انتهاكات لحقوق الملكية الفكرية. وتُقارَب هذه المسألة، عامة، عبر الموازنة الدقيقة بين الفوائد والمخاطر. لقد عمدت شركات كثيرة ناشطة في السوق الصينية إلى القيام بعملية تحديث متواصلة لابتكاراتها تعويضاً عن الخسائر الناجمة عن خرق هذه الحقوق. وفي الحالة الإسرائيلية، طُرح إمكان تطوير الحكومة أداة تأمين ضد خرق معايير حقوق المنتجين في الدول الآسيوية، مع التشديد على الحالة الصينية. والمقصود من هذا الأمر، تأمين يغطي حالات مماثلة ضمن الأراضي الصينية فقط، بحيث تكون تكلفته الإجمالية منخفضة نسبياً.
إن المطلوب من الحكومة هو وضع استراتيجيا وطنية شاملة للأبحاث والتطوير، ذات رؤيا ومثابرة، تهدف إلى إيجاد منافذ (niches) على مستوى العالم للابتكارات الإسرائيلية. وهذا يتطلب اعتماد سياسة جنيسية (generic) ليست موجهة بالضرورة نحو آسيا أو نحو دول آسيوية بعينها، وإنما تساعد الشركات الإسرائيلية في تحقيق القيمة المضافة المرتفعة، من دون أية منافسة تقريباً، وذلك في مجالات محددة كقطاعي المياه والزراعة، والنانوتكنولوجيا. وفي الإطار الآسيوي، والصيني تحديداً، يجب درس كيفية انخراط صناعات إسرائيلية رائدة في المشروعات الوطنية المطروحة من جانب الحكومة الصينية، ولا سيما فيما يتعلق بأعمال البحث والتطوير.
وتشدد الخطة الخمسية الحديثة للسنوات 2011- 2015 التي وضعتها الحكومة لتطوير الصناعة في الصين، على كل من قطاع الطاقة، والتكنولوجيا الحيوية، وتقانة المعلومات. ويحتل الاهتمام بالطاقة المتجددة وبهندسة المواد، ولا سيما تلك التي من شأنها تحقيق الاستخدام الأمثل للطاقة، وإلى حد معين، الاهتمام بإنشاء قاعدة معلومات لإدارة منظومات الطاقة، مكاناً مركزياً في هذا الإطار. إن حجم الاستثمارات الصينية في هذه المشاريع ضخم جداً، إذ يبلغ نحو 300 مليار دولار في العام، على امتداد خمسة أعوام. ويزعم كثيرون أن الانخراط الاسرائيلي في المشاريع الوطنية للدولة الصينية هو أمر شبه مستحيل، إذ تشوب هذه المشاريع البيروقراطية والفساد، وبدرجة أكبر، اعتماد المقاييس الصينية في التعامل التجاري. وتُدار هذه المشاريع العملاقة بروحية وطنية تسعى جاهدة لتعزيز قدرة الإبداع الذاتي، الأمر الذي يشكّل عقبات في وجه الشركات الإسرائيلية.
مع ذلك، تعزز الرعاية الحكومية لنموذج التعاون المبني على نقل الخبرة أو على التطوير المشترك (على غرار أعمال البحث والتطوير المشتركة مع الاتحاد الأوروبي، والتي تشمل تعاون الهيئات الأكاديمية والصناعية في الأبحاث وتطبيقاتها في كل من إسرائيل والدول الأوروبية) فرص نجاحه. وتتميز الثقافة التجارية والحكومية للعديد من الدول الآسيوية، بأنها تقوّم إيجابياً وعالياً تدخّل الحكومة في دفع تنفيذ المشاريع وتسريعها. وبناءً عليه، قد يُكتب النجاح لمبادرات حكومية إسرائيلية تحت عنوان تسريع إنجاز المشاريع.
في الحالة الصينية، وبالإضافة إلى المشاريع الكبيرة، هناك سلسلة من المسائل التي تحظى باهتمام خاص من جانب الحكم، ومنها ما هو على صلة بالابتكارات الإسرائيلية، ولا سيما تلك المنجزة في قطاعي الزراعة والمياه. إن تطوير أدوات تقليدية، مثل بناء مزارع نموذجية، قد يكون مرساةً لدخول الشركات الإسرائيلية إلى الصين وإلى الدول الآسيوية الأخرى. فعلى إسرائيل زيادة نشاط مكتب الملحق التجاري في وزارة الخارجية الإسرائيلية لإبقاء الجهوزية عالية استعداداً للقفزة الاقتصادية المتوقعة في الدول الآسيوية التي تقف على عتبة الاختراق الاقتصادي، مثل لاوس وميانمار.
تتجلى صعوبة العمل في الدول الآسيوية على المستويات كافة. ففي الماضي، قامت الحكومة الإسرائيلية بنشاطات مباشرة من دون مردود تجاري، مثل إسداء المشورة إلى الحكومة الهندية في موضوع تحديث شبكة المياه. إلاّ إن هذه الجهود لم توفق، وبقيت شبكة المياه الهندية دون مستواها في إسرائيل. ولعل الأجدى هو التعامل مع هذه الحالات برؤية شاملة وعبر فرضية النجاح أو الفشل، مع ترجيح الفشل في معظم الأحيان. وتُسجل أيضاً في القطاع الخاص نسبة نجاح منخفضة، إذ تنجح فقط ثلثُ محاولات التصدير إلى الصين من جانب تجمّع المصدّرين الذين يبيعون بضائع بقيمة 100 مليون دولار وما فوق.
وفي معرض تحليل تطور التبادل التجاري مع الدول الآسيوية، ينبغي النظر إلى جوانب أخرى:
1-لا تقتصر صعوبة اختراق أسواق الصين والهند على إسرائيل فقط، بل هي مشتركة مع سائر المصدّرين في العالم.
2-هناك تباينات ثقافية عامة، وتجارية خاصة، فيما بين هذه الدول.
3-تفعيل دور اليهود والجاليات اليهودية في تعزيز الصادرات الإسرائيلية وتعميقها.
4-في مقابل كل من الصين والهند، يجب الإشارة إلى اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان، كأسواق ذات إمكانات كبيرة ومتاحة لزيادة حجم التبادل التجاري مع إسرائيل.
خلاصة
بعد أن ناقشنا الجوانب المتصلة بإعادة توجيه التجارة الإسرائيلية إلى دول آسيا، تتظهّر صورة مركّبة تتصدّرها صعوبة اختراق الشركات الإسرائيلية هذه الأسواق، وتحديداً السوق الصينية. ويصطدم توطين الاستثمارات الإسرائيلية في هذه الدول، وتطوير التصدير إليها، بالاختلاف الثقافي والتجاري والسياسي فيما بين هذه الدول وإسرائيل، وبعدم قدرة المنشآت الصغيرة والمتوسطة الإسرائيلية على تأمين الموارد والعمق الاستراتيجي المطلوبين لاختراق هذه الأسواق الرائدة. في هذا السياق، غالباً ما يكون الدعم الحكومي الرسمي عاملاً مؤثراً في دفع التصدير إلى دول الشرق، أولاً بسبب القيمة الفريدة لدور المؤسسات الحكومية في ثقافة الأعمال التجارية في هذه الدول، وثانياً بسبب قدرة الهيئات الرسمية على مد الجسور، والتغلب على الاختلاف، وتذليل العقبات من أمام المصدّرين الإسرائيليين. لكن التحليل المنهجي للأدوات المتوفرة لدى الحكومة الإسرائيلية، والتي من شأنها المساعدة في تعزيز التصدير، لا يكشف حلاً سحرياً قادراً على تحقيق قفزة كميّة في التجارة مع دول آسيا.
وعلى الرغم من أن الابتكار الإسرائيلي الذي تتميّز به المنتوجات الإسرائيلية المعدة للتصدير، هو المرساة لتطوير التصدير إلى دول الشرق، إلاّ إن القدرة على ترجمة التطويرات المبتكرة إلى تصدير يحقق النمو الاقتصادي الإسرائيلي لا تزال محدودة، وذلك نتيجة تنفيذ القسم الأكبر من الابتكارات الإسرائيلية في شركات صغيرة الحجم، وتعوزها القدرة على إيصال التطوير إلى مُنتَج نهائي. وتحتاج هذه الشركات غالباً إلى شركاء، وإلى استثمارات إضافية في سبيل استكمال دورة التطوير والإنتاج. وتتحول هذه الخاصية إلى إشكالية استثنائية عندما تصطدم بمعايير النشاط الاقتصادي في معظم الأسواق الآسيوية. إن استيعاب الخبرة العلمية المطوّرة في إسرائيل، وتوفير القوة الكامنة الاقتصادية، من دون تنسيق وتقسيم للأرباح مع مطوّريها، ينطويان على خطر كبير فيما يتعلق بالأعمال التجارية المرتكزة على الابتكار في الأسواق الآسيوية. وهناك أمثلة معدودة لنجاحات صناعية إسرائيلية في اختراق الأسواق الآسيوية، وأحد هذه الأمثلة، المنشآت المختصة بمركّبات البروماين المستخرج من البحر الميت، والتي أقامتها مجموعة ICL في الصين. وهناك أيضاً مثل آخر، لكنه لا يزال في بداياته، وهو التعاون المشترك بين شركة Tami 4 المملوكة من مجموعة شتراوس، وبين الشركة الصينية Haier لإنتاج أجهزة تنقية المياه بخبرة علمية إسرائيلية وتصنيع صيني. وتطلّب نجاح هذين المثالين الاستثنائيين لنموذج "صنع في الصين/الهند – بالخبرة العلمية الإسرائيلية"، تدخّل هيئات كبيرة جداً في المقياس الإسرائيلي.
يتمحور تحليل إمكانات توسيع التصدير الإسرائيلي إلى الدول الآسيوية حول السوق الصينية أساساً، وبدرجة أقل بكثير حول السوق الهندية، وهما الاقتصادان اللذان يقودان إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي. للوهلة الأولى، يبدو أن دخول مصدّرين إسرائيليين إلى الصين مهمة شبه مستحيلة، ومن هنا أهمية الاستثمار الحكومي في هيئات مساعِدة متوسطة المستوى (مراكز لتطوير التجارة، مفوضيات تجارية، معارض وما شابه). كذلك ينبغي فحص مغزى المبالغ الإجمالية التي يجب أن تستثمرها الشركات الإسرائيلية، في أثناء محاولاتها ترسيخ أقدامها في الصين والهند، في ميزان الجدوى الاقتصادية (كلفة/مردود)، ولا سيما مقارنة بتوظيف هذه الأموال في أسواق الغرب. يبدو أن هناك فرصاً أكبر للنجاح متاحة في أسواق آسيوية أصغر، أو على درجة أقل من التطوّر، وقد يكون من الأفضل رصد موارد لترسيخ الوجود الإسرائيلي في هذه الدول على حساب الاستثمار الإضافي في السوق الصينية.
وفي رؤية بعيدة المدى يجب طرح سؤالين، هما: هل أن اقتصاديات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان مشرفة، حقيقة، على الغرق والأفول؟ ألا ينطوي النمو المتسارع للدولة الصينية على مخاطر تهدد استقرار مؤسساتها، سواء السياسية أو الاقتصادية (فقاعة العقارات، تحرير سعر اليوان الصيني، تباين معدلات الفائدة بين الدول الغربية والصين)؟ تجدر الإشارة إلى أن عوامل عدم الاستقرار تنسحب على الهند أيضاً. وقد تفيد الإجابة عن هذين السؤالين في إبقاء إسرائيل على أولوياتها الحالية، والمتمثلة بتعزيز قدرتها التجارية في الأسواق التي هي معايَرة (مدوزنة) لها اليوم.
[بلغت قيمة إجمالي الصادرات الإسرائيلية لسنة 2009 نحو 48 مليار دولار أميركي، منها صادرات صناعية بقيمة إجمالية تزيد على 44 مليار دولار. ومن أصل هذا المجموع، بلغت قيمة الصناعات المتطورة نحو 35 مليار دولار أميركي، منها صادرات ذات تقانة عالية high-tech بقيمة 17,9 مليار دولار أميركي، وصادرات ذات تقانة متوسطة medium-tech بقيمة 9,7 مليار دولار أميركي، وصادرات ذات تقانة منخفضة بقيمة 7,3 مليار دولار أميركي. وازداد حجم الصادرات ذات التقانة العالية من سنة 2007 إلى الربع الأول من سنة 2011، بمعدل سنوي مقداره 28,8٪. وبلغت قيمة هذه الصادرات 1,9مليار دولار أميركي في آذار/مارس 2011 (المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء ، الكتاب السنوي 2010، والبيان الصحافي لشهر نيسان/أبريل 2011).] (المترجمة).