· في أثناء وجودي في أستراليا مؤخراً حدثت أمور لا بد من التوقف عندها.
· لقد كانت أستراليا دائماً واحدة من أكثر الدول في العالم وداً تجاه إسرائيل بسبب تضافر البعد الجغرافي ونشاط مجموعات ضغط يهودية عظيمة النفوذ وعقلية مستقلة متأثرة ببريطانيا وانعدام أي تأثير لمجموعات الضغط العربية. لكن يبدو أن شيئاً ما بدأ ينكسر حتى هنا.
· في 10 شباط/ فبراير الفائت بثّت قناة التلفزة المحلية "إي. بي. سي" تقريراً بعنوان "عدل بارد مثل الحجر" جرى تعريفه على أنه "تحقيق خاص"، ووصف تنكيلاً منهجياً من طرف جهاز الأمن الإسرائيلي بأولاد فلسطينيين صغار: اعتقالات جماعية لأولاد دون سن العاشرة تحت جنح الظلام، واستعمال كلاب صيد، وعمليات تعذيب جسدية ونفسية فظيعة تشمل ضربات كهربائية وغير ذلك. وبدت مقنعة جداً يبدو إذ أنها تعتمد على شهادات ميدانية، ويعزّزها إسرائيليون منهم أعضاء جماعة "فلنكسر الصمت" ومحامون يمثلون معتقلين فلسطينيين. واختتم التقرير بخطاب لدانييلا فايس [إحدى قادة المستوطنين] تؤكد في سياقه أن إسرائيل لا تستعمل وسائل عنيفة ضد الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً تلجأ إلى استعمال طرق لقمع الأولاد الصغار بغية طرد السكان الفلسطينيين من المناطق [المحتلة]. وبموازاة ذلك نشرت المقاطع الرئيسية من التقرير في صحيفة أسترالية واسعة الانتشار.
· واضح أن التقرير تقرير كاذب وفظيع ويعيد إلى الأذهان الفرية اللاسامية التي شاعت في القرون الوسطى بشأن شهوة اليهود لدم الأولاد. ومع ذلك فقد أثار عاصفة كبيرة لم تهدأ منذ ذلك الوقت.
· وفي الأسبوع الفائت نُشرت مذكرات بوب كارل وزير الخارجية الأسترالي السابق التي صبّت الزيت على النار. فقد هاجم كارل السياسة الأسترالية الخارجية في كل ما يتعلق بإسرائيل واصفاً إياها بأنها "مخجلة" و"ليكودية" وخاضعة بالكامل لتأثير مجموعات الضغط اليهودية المحلية الثرية.
· وتسبب التقرير التلفزيوني بصدمة كبيرة في أوساط الجالية اليهودية في أستراليا، ولا سيما أن وسيلتي الإعلام اللتين قامتا بتسويقه سبق أن وقفتا إلى جانب إسرائيل في أحلك ساعات الانتفاضة الفلسطينية، وباءت كل الجهود التي بذلها رؤساء هذه الجالية لمنع نشره بالفشل.
· ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن التعقيب الإسرائيلي على التقرير الذي ورد من طرف الجيش ووزارة الخارجية كان متلعثماً وغير حازم بقدر كاف. لكن ليس هذا هو الدرس المركزي الذي يجب استخلاصه. إن الدرس المهم هو أنه حتى في أماكن مناصرة جداً لنا بدأت الأمور تتغير نحو الأسوأ.
· إن المشكلة برأيي ليست كامنة في التسويق بل في المنتج نفسه وهو الاحتلال. فما عاد بالإمكان بيع العالم هذا المنتَج بعد الآن. وحينما يكون الحديث عن منتَج فاسد من الأساس، تحدث ظاهرتان مصاحبتان خطرتان أخريان: أولاً، أن كل منتَج يأتي من طرف المنتِج، أي إسرائيل، يُنسب فوراً إلى نفس المصنع الإشكالي؛ ثانياً، يصبح من السهل أن تُلصَق بالمنتَج الفاسد أيضاً أمورٌ لا تمت إلى الواقع بصلة مثل التحقيق التلفزيوني حول تعذيب الأولاد.
· إن هاتين الحادثتين في أستراليا يجب أن تكونا محفزاً لعدم إبداء أي قدر من التسامح مع الاحتلال. ولا شك في أن المقاربة التي أخذت قوى متعددة من الأسرة الدولية تتبناها حيال إسرائيل على خلفية الاحتلال، تُعيد إلى الأذهان بقدر كبير مقاربة هذه الأسرة نفسها حيال نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ومع أن هذه المقاربة تسببت بانهيار ذلك النظام في سنة 1992 بعد أن أصبح منبوذاً، إلا إنه كان بالإمكان منذ منتصف ثمانينيات القرن الفائت ملاحظة إشارات واضحة إلى أن العالم قد ضاق ذرعاً باستبداد الأقلية البيضاء العنصري. كما كان هناك عدد غير قليل من الخبراء والصحافيين والساسة الذين توقعوا أن يؤول نظام الفصل العنصري إلى الانهيار، إلا إن رؤساء دولتين فقط زعموا خلاف ذلك: جنوب إفريقيا وحليفتها إسرائيل.
· يجدر بنا أن نقرأ مثل هذه الإشارات هذه المرة بصورة أفضل قبل أن نصبح نحن أيضاً معزولين عالمياً.