· تتطور الأزمة في أوكرانيا وأصبح دخول القوات الروسية إلى شبة جزيرة القرم وضمها إلى روسيا أمراً واقعاً. في ظل هذا الوضع سيكون لردود فعل الدول العظمى الغربية بمن فيها الولايات المتحدة، أهمية فائقة على أكثر من صعيد بالنسبة لدول الشرق الأوسط وفي مقدمتها دولة إسرائيل.
· إن استمرار الأزمة في أوكرانيا وتصاعدها سيحول انتباه إدارة أوباما عن مشكلات شرق أوسطية وبخاصة عملية السلام، نحو مشكلات تنطوي على مخاطر أكبر بكثير من مشكلة النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وتهدد استقرار النظام الدولي بأسره، وفي طليعة هذه المشكلات: إيران وأوكرانيا. ونسمع حالياً انتقادات داخل الولايات المتحدة وخارجها ضد وزير الخارجية الأميركي لتدخله المكثف في عملية السلام الإسرائيلي- الفلسطيني.
· إن النتائج الضئيلة للمساعي التي بذلها وزير الخارجية من أجل التوصل إلى اتفاق إسرائيلي- فلسطيني، وكونه لم يحصل حتى الآن على دعم من جانب الرئيس أوباما لهذه المساعي، ستساهم هي أيضاً في تقديرنا، في تحويل اهتمام الإدارة إلى أزمات أخرى تمس مصالح قومية ذات أهمية كبرى بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. وفي الواقع أن تحول اهتمام إدارة أوباما عن مشكلة التسوية الإسرائيلية- الفلسطينية نحو أزمات أخرى مثل الأزمة الأوكرانية والإيرانية، سيريح حكومة إسرائيل كثيراً.
· إن التصريحات المختلفة الصادرة سواء عن الرئيس أوباما أو عن وزير خارجيته كيري بشأن وضع عملية السلام لا تبشر بالخير بالنسبة لإسرائيل. ونتصور أن حكومة إسرائيل تميل إلى الاعتقاد بأن مرور الوقت واستمرار التوتر بين الدول الكبرى وتزايده، واقتراب موعد انتخابات الكونغرس، كل ذلك سيقلص قدرة إدارة أوباما على المناورة وخيار الضغط على إسرائيل. كما عززت الأزمة في أوكرانيا التقديرات السائدة في إسرائيل وفي دول الخليج ولا سيما في السعودية، بشأن التراجع المستمر في الصورة الرادعة للولايات المتحدة. واستندت هذه التقديرات إلى الآتي: أ - تراجع إدارة أوباما عن تنفيذ وعودها بالعمل العسكري ضد سورية في حال تبين أن النظام استخدم السلاح الكيميائي الذي في حوزته. ب- معالجة الإدارة الأميركية للبرنامج النووي الإيراني والاتفاق الموقع مع إيران في هذا الشأن زادا الشكوك في إسرائيل وفي الدول العربية في أن هذه الإدارة بصدد التخلي التدريجي عن سياسة "المنع" التي تعهدت بها والتوجه نحو سياسة "الاحتواء".
· وفي حال استمرت هذه السياسة، سيتعين على إسرائيل أن تأخذ في حسابها أن المكانة والصورة الرادعة للولايات المتحدة، حليفتها الأساسية، ستتراجعان تدريجياً.
· والسؤال المطروح: هل تسبب موقف إدارة أوباما حتى الآن من الأزمة في أوكرانيا، بتعميق الشكوك في صدقية الولايات المتحدة؟
· لا يمكن تقديم إجابة قاطعة، فقد وقعّت الولايات المتحدة مع بريطانيا وروسيا في 5 كانون الأول/ديسمبر 1994 مذكرة تفاهم معروفة باسم "مذكرة بودابست"، تعهدت فيها أوكرانيا بأن تخرج الأسلحة النووية الموجودة عندها إلى خارج أراضيها خلال فترة زمنية معينة. وفي المقابل أكدت الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا التزامها بالتالي: أ- احترام استقلال وسيادة أوكرانيا وحدودها الحالية. ب- التشاور في ما بينها لدى نشوء وضع يضع هذه التعهدات موضع شك.
· ومن الواضح أن هذه المذكرة ليست حلفاً دفاعياً، ولا تقدم تعهدات قاطعة من جانب الدول العظمى الغربية بالدفاع عن أوكرانيا في حال تعرضت لهجوم، كما أن الصلاحية القانونية لهذه المذكرة مشكوك فيها، ولا سيما مع ادعاء روسيا أن تحركها العسكري في أوكرانيا جاء في إطار الدفاع عن النفس وتلبية لطلب عدد كبير من السكان الروس المعرضين لخطر حقيقي.
· ومع اقتصار دخول القوات الروسية إلى جزيرة القرم، امتنع الغرب حتى الآن عن اتخاذ خطوات كبيرة ورادعة ضد روسيا. واكتفى بفرض عقوبات غير مهمة تمس بصورة خاصة أموال أصحاب الثروات من الروس، وتقليص كبير في التعاون الاستراتيجي- العسكري مع روسيا، والتهديد بزيادة حدة العقوبات إذا دخلت القوات الروسية إلى أوكرانيا نفسها.
· عملياً، لا يبدو أن هذه الخطوات تردع الرئيس بوتين عن تعزيز موقع روسيا في شبة جزيرة القرم والاستعداد للسيطرة على مناطق جديدة في أوكرانيا في حال رأى الكرملين أن الظروف تفرض ذلك. إن طريقة تصرف إدارة أوباما تجعل الغرب يبدو في صورة من لا يريد الدخول في مواجهة مع روسيا وسياسة القوة التي تمارسها في أوكرانيا. لكن على الرغم من ذلك، فإن الامتحان الحقيقي للإدارة الأميركية لا يزال على الأبواب. فإذا اكتفى الرئيس بوتين بسيطرته على شبة جزيرة القرم، فمن شبه المؤكد أن الغرب سيقبل ذلك ويعتبره أمراً واقعاً. وفي ظل هذه الظروف، فإن هذا الغرب يستطيع أن يسجل لنفسه إنجازاً استراتيجياً لأنه ردع روسيا عن مواصلة فرض سيطرتها على أوكرانيا.
· لكن إذا واصل الرئيس بوتين فرض سيطرته على أجزاء أخرى من أوكرانيا ولم يكن هناك رد حقيقي وحازم من جانب الغرب وبخاصة الولايات المتحدة، فمن شبه المؤكد أن ذلك سيكون له انعكاسات كبيرة على صدقية الولايات المتحدة وصورتها الرادعة. وفي جميع الأحوال، فإن هذا الوضع سيقوي الأوساط المعارضة في داخل إسرائيل للاعتماد على قوات دولية وضمانات أميركية في حال انسحبت إسرائيل من يهودا والسامرة [الضفة الغربية] ومن غور الأردن. ففي رأي هذه الأوساط، لا تستطيع إسرائيل الاعتماد في أمنها على تعهدات أو ضمانات الدول العظمى بما في ذلك الولايات المتحدة، بل على قوتها فقط. وسوف تعتبر هذه الأوساط أن سلوك إدارة أوباما حيال الأزمة الأوكرانية يؤكد صدق نظرتها. ويتوقع هؤلاء أن أوساطاً واسعة في الإدارة الأميركية ولا سيما في الكونغرس، ستظهر من الآن وصاعداً تفهماً أكبر لمواقف إسرائيل في هذا الصدد.
· حتى الآن حافظت إسرائيل على موقف "حيادي" حيال الأزمة الأوكرانية. ويبدو أن التوجه الإسرائيلي هو نحو عدم الظهور في موقف مؤيد لأي طرف من الأطراف. وتحدثت بعض التقارير عن الطلب من بعض الشخصيات في إسرائيل التوسط بين الطرفين. ونحن نفترض أن من مصلحة إدارة أوباما تجنيد أكبر عدد من الدول من أجل تأييد موقف الولايات المتحدة حيال هذه الأزمة، وأن تأييد إسرائيل لإدارة أوباما مهم لاعتبارات داخلية أميركية، فهل السياسة "الحيادية" التي انتهجتها إسرائيل تعود إلى عدم وجود ضغط أميركي عليها لإظهار تعاطفها العلني مع المعسكر الغربي، أم هي نتيجة رفض إسرائيل ضغوطاً أميركية لاتخاذ موقف واضح مؤيد للغرب؟
· ختاماً، يتعين على إسرائيل أن تأخذ في الحسبان احتمال أن تؤدي الأزمة في أوكرانيا إلى تشدد إيران في مواقفها في المفاوضات السياسية بشأن برنامجها النووي. فقد تتوصل إيران إلى استنتاج أن غزو روسيا لأوكرانيا لم يكن ليحدث لو احتفظت أوكرانيا بالسلاح النووي الذي كان لديها. وإذا كانت هذه هي الخلاصة التي ستتوصل إليها إيران، فمن المنتظر أن تكون أقل استعداداً لتقديم تنازلات تتعلق ببرنامجها النووي. كما قد تقدّر إيران أن الأزمة الحالية حول أوكرانيا ستتسبب بتصدعات بين الدول العظمى، وستجعل من الصعب على الدول الخمس زائد واحد الاتفاق على موقف مشترك حيال إيران.
· ومن شبه المؤكد أن صورة هذا الوضع ستدفع إيران إلى تقدير أن حريتها في المناورة لمواصلة نشاطها النووي اتسعت. وما يمكن استنتاجه في ضوء هذا الواقع هو أنه في المستقبل القريب، قد تجد إسرائيل نفسها داخل واقع يتكون من العناصر التالية: أ- مواصلة إيران نشاطها النووي وتجاوزها المستوى الذي اتفقت عليه مع الدول العظمى. ب- أن اتفاقاً دبلوماسياً معها يحدد نطاق نشاطها النووي خلال الأعوام المقبلة، لم يعد فكرة منطقية. ج- سيصبح خيار عملية عسكرية أميركية [ضد المنشآت النووية الإيرانية] غير منطقي أكثر فأكثر. وسيفرض هذا الوضع على إسرائيل أن تدرس من جديد، خيار عملية عسكرية منفردة ضد إيران.