· يعرض هذا المقال بعض الحقائق والاستنتاجات المترتبة على انسحاب إسرائيل من لبنان سنة 2000، كما يتناول أيضاً حرب لبنان الثانية سنة 2006، وحدثاً آخر قد يبدو صغيراً نسبياً لكنه مهم، وهو خروج القوات السورية من لبنان في سنة 2005، إذ تبدو جميع هذه الأحداث مرتبطة بعضها ببعض.
· قبل أن يقرر رئيس الحكومة ووزير الدفاع آنذاك إيهود باراك الخروج من لبنان، ويعلن أنه سيفعل ذلك باتفاق أو من دونه، كان يمكن وصف المواجهة العسكرية الدائرة بين إسرائيل ولبنان على الشكل التالي: قتال تكتيكي مع حزب الله يدور في أغلبيته في المنطقة الأمنية أو بالقرب منها، ومحاولات للجيش الإسرائيلي تحسين قدراته تقابلها محاولات للخصم تحسين قدراته أيضاً. وتراوح عدد الخسائر الإسرائيلية سنوياً ما بين 20 إلى 25 قتيلاً تقريباً، من دون الأخذ في الحسبان حوادث معينة [مثل حادثة اصطدام مروحيتين عسكريتين سنة 1998 فوق أجواء الجنوب كانتا تقلان أكثر من 70 جندياً إسرائيلياً].
· وكانت الأسئلة الأساسية التي طرحها الجيش الإسرائيلي على نفسه هي: هل في الإمكان خوض القتال ضد حزب الله بطريقة مختلفة؟ وهل الوضع القائم يمكن احتماله؟ وكان الرأي السائد داخل الجيش أن الوضع محتمل ويمكن أن يستمر لفترة طويلة. ولم يجر أي نقاش جذري وحقيقي بشأن الخيارت الأخرى لدى دولة إسرائيل.
· حاول موشيه أرينز، الذي شغل منصب وزير الدفاع لفترة قصيرة قبل سنة 1999، تقديم وجهة نظر مختلفة. وكان رأيه أنه ما دامت إسرائيل تجد نفسها في مواجهة مع حزب الله، فإن تأثير هذه المواجهة سيكون محدوداً لأن الحزب ليس بالضرورة الخصم الحقيقي الذي يجب مواجهته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سورية التي تنطوي المواجهة المباشرة معها على مخاطر كبيرة. وبالتالي، وبحسب أرينز، يجب تحميل الحكومة اللبنانية المسؤولية، فهي على الرغم من ضعفها تتحمل المسؤولية السياسية الكاملة عما يحدث، لذا من الأفضل مواصلة استهداف البنية التحتية في لبنان.
· ويبدو أنه لم يتسن له الوقت الكافي لتطبيق وجهة النظر هذه، وذلك بسبب التغييرات السياسية التي شهدتها إسرائيل. ففي سنة 1999، في إثر انتخاب إيهود باراك رئيساً للحكومة وتوليه وزارة الدفاع (صيف 1999)، تعهد بإخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان باتفاق أو من دونه في الأول من تموز / يوليو 2000.
· لم يلق هذا الموقف استحساناً لدى قادة الجيش الإسرائيلي. فقد كانت التحضيرات للانسحاب من لبنان تجري ببطء شديد بسبب مسار المفاوضات السياسية المكثفة جداً مع سورية في نهاية سنة 1999وبداية سنة 2000، وكان هناك شعور بأنه يمكن التوصل إلى اتفاق مع دمشق. كما أن الجيش الإسرائيلي كان على صلة مباشرة بالمفاوضات الدائرة مع سورية، وكان الانطباع أنه في اللحظة التي ستوافق فيها إسرائيل على النزول من هضبة الجولان، سيصبح من الممكن التوصل إلى اتفاق سيشمل لبنان أيضاً، لذا لا ضرورة للإسراع في اتخاذ خطوات معينة.
· في مطلع سنة 2000، حدث التغير الداراماتيكي. ففي إثر اللقاء بين كلينتون وحافظ الأسد [في جنيف] تبين ألاّ وجود لاتفاق. لكن باراك ظل متمسكاً بوعده، وبدا واضحاً أن الخروج من لبنان سيكون من طرف واحد ومن دون اتفاق، وأن كل ما تبقى هو أربعة أشهر للتحضير له، من هنا كان الشعور بضرورة إحداث مفاجآت تكتيكية معينة.
· ومع بدء الاستعداد للخروج من لبنان، اندلع جدل حاد بين الجيش ورئيس الأركان آنذاك شاوول موفاز، وبين وزير الدفاع إيهود باراك بشأن تحديد ماهية الانسحاب من طرف واحد. وكان موقف الجيش الإسرائيلي من المسألة مختلف تماماً عن موقف وزير الدفاع. فقد اعتبر الجيش أن الانسحاب من طرف واحد هو انسحاب تكتيكي، ومعناه التالي: بما أنه من الصعب الاحتفاظ بالمنطقة الأمنية من ناحية الفعالية القتالية نظراً إلى العدد الكبير للقتلى الإسرائيليين، وإلى أن مواصلة البقاء في لبنان هي بمثابة تحويل الجنود إلى أهداف للقتل، يجب الانسحاب إلى خط تكتيكي جديد يبعد نحو كيلومتر عن السياج الحدودي. وكان الجيش مصراً آنذاك على عدم الانسحاب من أي موقع يشرف على المستوطنات الإسرائيلية في الشمال. وكانت وجهة نظره أنه، باستثناء الانسحاب إلى الخط التكتيكي، فإن شيئاً لن يتغير على الصعيد الاستراتيجي، فالجيش الإسرائيلي سيبقى يدعم جيش لبنان الجنوبي، ومن الواضح أنه سيواصل هجماته على لبنان، وسيواصل العمل خارج خط الانسحاب الجديد.
· أدرك رئيس الحكومة ووزير الدفاع آنذاك أن هذا الانسحاب التكتيكي لن يغير شيئاً، وأنه سيكون شبيهاً بالانسحاب التكتيكي الذي نُفذ سنة 1985 إلى المنطقة الأمنية. وكان يرى أن فكرة الانسحاب يجب أن تستند إلى استراتيجيا الانسحاب إلى الخط الدولي، وإلى اعتراف شرعي بذلك، ليس من لبنان ولا من سورية، وإنما من الدول المهمة في العالم، وأن هذه الشرعية هي التي ستخلق واقعاً أمنياً أفضل.
· جرت الخطوات السياسية في وقت قصير، وكان من بينها التوصل إلى خط للحدود متفق عليه بين إسرائيل ولبنان. وقد كان هناك أكثر من خط لهذه الحدود، منها خط الحدود العائد إلى اتفاقية سايكس - بيكو سنة 1916، وخط الحدود الرسمي المعترف به في سنة 1923، الأمر الذي يعني ضرورة ترسيم خط الحدود من جديد.
· ونظراً إلى عدم وجود حوار مباشر مع الحكومة اللبنانية، كان من الضروي الانسحاب إلى الخط الذي تعترف به الأمم المتحدة بأنه خط الحدود الدولية. وكان السؤال هو التالي: كيف يمكن ترسيم هذا الخط والحصول على التأييد الدولي له؟ يومها عثر المسؤول عن قسم الخرائط في الجيش الإسرائيلي العميد حاييم ساربرو، على خريطة للأمم المتحدة عائدة إلى سنة 1974 تحدد مهمة قوات الأمم المتحدة في هضبة الجولان (ففي إثر حرب [تشرين الأول/أكتوبر 1973] ، وقعت كل من إسرائيل وسورية اتفاقاً لفصل القوات، ومنحتا القوات الدولية تفويضاً لمراقبة تطبيق هذا الاتفاق، وقد حدد هذا التفويض حدود هضبة الجولان ومهمات القوات الدولية). وبناء على ذلك، فإن حدود هضبة الجولان هي المشار إليها في هذه الخريطة، وكل الأراضي التي لا تدخل ضمنها لا بد أن تكون واقعة ضمن الحدود اللبنانية.
· وقد أبقى ترسيم حدود هضبة الجولان، منطقة جبل هار دوف، التي يسميها اللبنانيون مزارع شبعا، مع القاعدة الاستخباراتية المهمة الموجودة على قمة هذا الجبل ضمن الأراضي الإسرائيلية، وكان خط الحدود هذا ملائماً لإسرائيل. وقد وافقت الأمم المتحدة عليه، بيد أن الثمن الباهظ لهذا الاعتراف بالنسبة إلى إسرائيل كان تقسيم قرية الغجر التي يمر الخط في وسطها ويقسمها إلى جزئين.
· قام الجيش الإسرائيلي بالإعداد للانسحاب قبيل الأول من تموز/يوليو 2000، محاولاً الاستفادة من الوقت لتنفيذ انسحاب منظم قدر الإمكان. ولم يتوقع الجيش مسبقاً المسيرات الشعبية التي حدثت قبيل الانسحاب، ولا انهيار جيش لبنان الجنوبي، ولا سيما في القطاع الغربي. وفي 21 أيار/مايو 2000، زار رئيس الأركان قيادة الشمال في مهمة استطلاعية. يومها بدأت تصل الأخبار عن المسيرات الشعبية التي كانت بمثابة مفاجأة، ومع تعاظم وتيرة هذه المسيرات جرى اجتماع متوتر في موقع زرعيت حضره رئيس الحكومة وزير الدفاع، ورئيس الأركان، وقائد المنطقة الشمالية، وقادة آخرون من رئاسة الأركان العامة، وناقش الحاضرون كيفية التصرف في ظل بدء انهيار جيش لبنان الجنوبي، وطُرحت حينها إمكانيتان: الأولى، إرسال لواء أو لوائين من الجيش الإسرائيلي مكان جيش لبنان الجنوبي للمحافظة على الخط والدفاع عنه، ونوقشت حينها فائدة الدفاع عن خط سيُضطر الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب منه بعد شهر؛ الثانية، التأقلم مع الوضع الناشىء وتسريع وتيرة خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان.
· لم يكن القرار سهلاً بالنسبة إلى الوضع الذي كان قائماً حينها في قيادة الشمال، لكن الذي ساهم في اتخاذ رئيس الحكومة قراراً بإخراج الجيش الإسرائيلي فوراً من لبنان ليس الوقائع العسكرية فقط بل أيضاً سلسلة من الأحداث السياسية. ففي صباح ذلك اليوم وافقت الأمم المتحدة على تكليف الأمين العام للمنظمة الاتفاق مع إسرائيل بشأن خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان، وبشأن مسألة خط الحدود الدولية. ومعنى ذلك أن رئيس الحكومة ووزير الدفاع باراك يستطيع الاستناد إلى قرار الأمم المتحدة هذا كي يقوم بما يريد القيام به، وبهذه الطريقة اجتمعت الظروف السياسية والعسكرية لتنفيذ الانسحاب. لكن الخروج من لبنان جرى بسرعة كبيرة، الأمر الذي فاجأ حزب الله أيضاً، كما أن تنفيذ الانسحاب خلال ليلة واحدة حال دون قيام حزب الله بالهجوم على القوات المنسحبة.
· في سنة 2005، نشأ وضع جديد لا علاقة له مباشرة بإسرائيل، وذلك في إثر الغضب الذي أثاره اغتيال رفيق الحريري في العالم ضد سورية، ونشوء تحالف واسع، ضم السعودية والأمم المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، أدان السيطرة السورية على لبنان وطالب بخروج قواتها من هناك.
· لقد كانت إسرائيل ضمناً مع الانسحاب السوري من لبنان، وأيدته بحرارة، ولا سيما في إثر الجدل الذي نشأ داخل المؤسسة الحاكمة في إسرائيل بشأن مدى الفائدة التي انطوى عليها الانسحاب السوري إلى إسرائيل. وقد تعددت الآراء يومها بهذا الشأن، فكان هناك من اعتقد (ومن بينهم كاتب هذه السطور) أن هذه الخطوة ليست في مصلحة إسرائيل. فمن المفارقات الغريبة وجود مصلحة مشتركة لإسرائيل وسورية في الوجود العسكري السوري في لبنان وذلك لثلاثة أسباب: أولاً، أن السوريين يشكلون العنوان الذي يمكن أن تتوجه إليه إسرائيل لكبح حزب الله، وفي حال توصلت إسرائيل إلى اتفاق مع سورية فإنه سيشمل لبنان، ولن تستطيع سورية التهرب من المسؤولية؛ ثانياً، لم يكن واضحاً أبداً ما إذا كان خروج سورية من لبنان سيعزز قوة الأطراف المعتدلة والديمقراطية، بل كان متوقعاً أن يؤدي ذلك إلى تقوية أطراف أخرى مثل حزب الله وإيران، اللذين حلا مكان سورية، وهذا ما حدث فعلاً؛ ثالثاً، في اللحظة التي ستخرج فيها سورية من لبنان ستركز على موضوع هضبة الجولان، فكل مَن كان ضد إجراء مفاوضات مع سورية للانسحاب من الجولان، كان يؤيد استمرار دفاع سورية عن سيطرتها على لبنان بدلاً من تركيزها على المطالبة باسترجاع الجولان.
· لقد دفع انسحاب السوريين من لبنان إسرائيل إلى الاعتقاد أنها بصدد قطف ثمار خروجها من لبنان بعد أكثر من خمسة أعوام، فالجيش الإسرائيلي لم يعد موجوداً هناك، والسوريون يخرجون، وسيصبح لبنان دولة ديمقراطية موالية للغرب. وكما هو معروف سرعان ما تبددت هذه الآمال، فقد احتل حزب الله المكان الذي شغلته سورية، ولم يعد الوضع كما اعتقدنا أنه سيكون.
· ومنذ سنة 2000 وحتى سنة 2006، لم يجر نقاش جدي داخل الحكومة الإسرائيلية بشأن السياسة الصحيحة الواجب انتهاجها تجاه لبنان. وكان الجيش هو من وضع سياسة أمر واقع هناك، فكلما كان يقع حادث تكتيكي خلال شهر أو شهرين، كان الجيش يحاول معالجته بالطريقة الأفضل من دون التسبب بتصعيد الأمور، مطبقاً سياسة الاحتواء وضبط النفس.
· وكان من أسباب عدم إجراء نقاش استراتيجي للوضع في لبنان أن الوضع كان هادىء إجمالاً ولا يتطلب قرارات، ولم يكن هناك ضرورة للبحث عن بدائل سياسية – استراتيجية، وكلما كان حادث يقع كان الرد عليه يجري بسرعة.
· في سنة 2006، توفرت لإسرائيل كل الوسائل التي من شأنها نقل المواجهة مع حزب الله إلى المجال السياسي. فلم يعد الحزب مجرد تنظيم مسلح، وإنما أصبح جزءاً من مجلس النواب اللبناني ومن السلطة ومن الحكومة، لذا كان على إسرائيل اعتبار الحكومة اللبنانية مسؤولة عن النيران التي تطلق عليها من الأراضي اللبنانية والرد بناء على ذلك. ولقد أضاعت إسرائيل هذه الفرصة عليها خلال حرب لبنان الثانية، فلو اعتبرت منذ بدء الحرب أن الحكومة اللبنانية هي العدو وليس حزب الله، لما أخذت الحرب كل هذا الوقت، بل كانت لتكون أقصر وأنجح بكثير.
· وإذا ما عدنا إلى قرار الانسحاب من لبنان سنة 2000، نجد، بحسب رأيي، أن إسرائيل فشلت خلال التسعينيات لأنها لم تحاول تطوير بدائل حقيقية لاستمرار الوضع القائم، وللانسحاب من طرف واحد، كذلك لم تحاول إسرائيل في تلك الفترة استنفاد كل الاحتمالات، إذ لو فعلت ذلك لكانت أوجدت واقعاً مختلفاً.
وإذا اتفقنا على أنه لم يكن مطروحاً آنذاك سوى احتمالين، هما: استمرار الوضع القائم، والانسحاب من طرف واحد، فالأكيد أن رئيس الحكومة ووزير الدفاع آنذاك إيهود باراك قد اتخذ القرار الصحيح والشجاع. وأقول هذا من موقعي آنذاك كلواء في هيئة الأركان العامة، وكوني أحد الذين عارضوا الخروج من طرف واحد. وعلى الرغم من المشكلات كافة، نجد، لدى التأمل في الأعوام العشرة التي مرت، أن قرار الخروج من لبنان كان صحيحاً، لكن الفرصة الكبيرة التي أضعناها كانت في سنة 2006، إذ لم تنجح إسرائيل في أن تستخدم بصورة ناجحة الشرعية التي أُعطيت لها قبل ستة أعوام.