اقتحام نابلس أثبت أن هناك المزيد من الشباب الفلسطيني جاهز للتضحية في معركة خاسرة سلفاً
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- نابلس في حالة صدمة مرة أُخرى. لقد شيعت بعد ظهر أمس11 من أبنائها، وفي المستشفيات كان هناك المئات من عائلات الجرحى، نحو 100 مصاب - أصيب أكثر من نصفهم بإطلاق نار، وأربعة منهم في حال حرجة كما يبدو - ينتظرون سماع خبر عن مصيرهم.
- للحصول على الصورة الكاملة لهذا الاقتحام الإسرائيلي العسكري لنابلس في وضح النهار، والشوارع الممتلئة بالدم، نحن بحاجة إلى تحقيق يشارك فيه عدد من الصحافيين الميدانيين لأيام طويلة. حتى يتم القيام بذلك، إذا جرى أصلاً، فإن الذي سيعلق في الذهن الرسائل السريعة للشرطة والجيش بشأن "إطلاق نار كثيف" من مسلحين فلسطينيين، و"تبادُل إطلاق النار"، ومقتل "قيادات كبيرة في التنظيم الفلاني أو العلاني"، وإمكانية أن يكون القتلى الفلسطينيون قد سقطوا برصاص "مخربين"، وغيرها من المقولات التي رُدِّدت سابقاً بعد مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، أو كما قيل عن ماجدة عبيد من مخيم اللاجئين في جنين.
- الحجة الثابتة أن القتلى "خططوا لتنفيذ عملية"، تكفي لإحباط أي تشكيك في أوساط أغلبية المجتمع الإسرائيلي بشأن ضرورة هذه الاقتحامات: نحن نؤمن بأن الاستخبارات والشاباك في إسرائيل يعرفون كل شيء. لكن الضباط والمتحدثين بلسانهم لا يعرفون مَن هم الشباب الفلسطينيون، الغاضبون وغير المنظمين، الذين يخططون الآن للانتقام. هم فقط يعرفون أنهم موجودون.
- كالعادة، الأخبار الرسمية الإسرائيلية تهمّش تفاصيل كثيرة وتخلق صورة غير حقيقية لقوات عسكرية متعادلة و"قتال" و"تبادُل إطلاق نار" متوازن تقريباً. في الحقيقة، الحديث يدور عن قوة عسكرية كبيرة جداً وجنود مدربين، وبعضهم مُتخفٍّ في مواقع للقنص وإطلاق نار جرت السيطرة عليها مسبقاً، وآخرون داخل سيارات خاصة بهم مصفحة جداً.
- على عكسهم، المسلحون الفلسطينيون لا يستطيعون، ولا وقت لديهم للقيام بتدريبات إطلاق نار، وكونهم من جيل التيك توك، من الصعب عليهم العمل في الخفاء، ويبدو أنهم غير متمكنين جيداً في حرب العصابات. فمثلاً، بحسب شهادات السكان لـ"هآرتس"، بتاريخ 25 تشرين الأول/أكتوبر، أطلق المسلحون النار في نابلس في الهواء خلال تشييع 5 مقاتلين، أكثر مما أطلقوا النار خلال الاقتحام الذي جرى في ذلك النهار للبلدة القديمة. أحد الأشخاص الذين زاروا سجن أريحا التابع للسلطة الفلسطينية - هناك يقبع عدد من المساجين من النشطاء في مجموعة "عرين الأسود" - قال لـ"هآرتس" إن بعضهم على الأقل لا ينظر إلى نفسه على أنه مطلوب من الوزن الثقيل. بما معناه أن بعضهم مقتنع بأنه سيحصل على حُكم مخفّف في محاكم عسكرية إسرائيلية، في مقابل الأعمال التي تنسبها إسرائيل إليهم.
- بالأمس أيضاً، أشارت التقارير الفلسطينية إلى أن الجيش الإسرائيلي منع سيارات الإسعاف من الوصول والقيام بعمليات إنقاذ - من خلال إطلاق النار التحذيري، أو الغاز المسيل للدموع - وأن الجيش أطلق النار أيضاً على الصحافيين. إطلاق النار هذا في اتجاه الطواقم الطبية ليس بجديد أيضاً. الجديد جرى خلال اقتحام الجيش لمخيم اللاجئين في جنين خلال شهر كانون الثاني/يناير، إذ أعلمَ الهلال الأحمر، من خلال لجنة التنسيق الأمني الفلسطينية - بأن الاقتراب من ساحة المعركة ممنوع. حتى الآن، لا نعلم ما إذا كان هناك رسالة كهذه بالأمس في نابلس. ادّعاء الجيش أنه يريد فقط أن يجري تنسيق حركة سيارات الإسعاف معه يذكّرنا بما حدث في غزة خلال الحروب. التنسيق يستغرق وقتاً طويلاً، فيموت المصابون. هل هذا هو المغزى من وراء الرسالة التي تم تمريرها إلى الفلسطينيين شفوياً، والمغزى أيضاً من إطلاق النار على سيارات الإسعاف من دون تحذير؟ وأن الجيش يرى في كل اقتحام كهذا حالة حرب؟
- وبحسب التقارير الفلسطينية، تم استخدام مسيّرات خلال اقتحام الجيش أمس. وأصبح استخدام حوامات للتّتبع، وأُخرى تطلق الغاز المسيل للدموع، أمراً طبيعياً في الضفة (وليس فقط في غزة). الفلسطينيون يعلمون أيضاً بأن لدى الجيش مسيّرات تطلق النار، ولذلك، يتخوف الناس في كل اقتحام، ليس فقط من الجنود المختبئين في مواقع غير معروفة، بل أيضاً من إطلاق نار ممكن من المسيّرات.
- الاقتحامات العسكرية الإسرائيلية - من الشرطة والجيش - للمدن الفلسطينية والقرى ومخيمات اللاجئين، هي أمر يحدث دائماً. طريقة العمل متشابهة عموماً: قوات خاصة، في أغلب الأحيان من الشرطة، تقتحم متخفية قبل الهجوم العسكري. بالأمس، بحسب الشهادات الأولية، كانت القوة متخفية في شاحنتين مغلقتين تحت غطاء شركة أغذية فلسطينية. وكالعادة، كانت مملوءة بالمستعربين الذين وصلوا إلى المدخل الشرقي للبلدة القديمة. ثم وصلت المركبات العسكرية المدرعة الكريهة، التي كانت بالفعل هدفاً لرمي الحجارة والأشياء الأُخرى التي تم رشقها بها. حتى اللحظة، لا نزال لا نعرف ما إذا كانت القوات الخاصة قد انتشرت في مواقع إطلاق نار داخل مبانٍ في المدينة، وفي أي مبانٍ، وكم عددها.
- استخدام الجيش والشرطة لسيارات تبدو مدنية - فلسطينية لأهداف عسكرية واضحة، بهدف التضليل والهجوم، ليس جديداً هو الآخر، وهو يثير الغضب على الدوام. هذا ليس مجرد اقتحام، إنه انتهاك أيضاً لا يمكن التعود عليه: يدفع الناس إلى الشك في هوية كل قائد مركبة تشبه هذه المركبات، ويطرح أسئلة عن الطرق التي وصلت عبرها المركبات المضللة إلى أيادي المستعربين. يعلم الناس بأن الجيش يمكنه أن يشوش حياتهم في كل لحظة، وهو ما يعتبرونه مثالاً آخر لغطرسة الاحتلال غير المحدودة، وقدرته على الإذلال والزعزعة.
- المختلف هذه المرة كان التوقيت: بصورة عامة، تجري الاقتحامات بهدف الاعتقال، أو اغتيال النشطاء الفلسطينيين المقرر مسبقاً، في ساعات الليل أو الفجر. في 26 كانون الثاني/يناير، بدأ اقتحام مخيم جنين حوالي الساعة السابعة صباحاً. التوقيت فاجأ السكان، لكن الساعة كانت مبكرة بما يكفي لتحذيرهم من الخروج إلى الشوارع في الوقت الذي حاصر الجيش منزلاً.
- في نابلس جرى العكس، فهم الناس أن هجوماً عسكرياً ينفّذ حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحاً، ولم يستهدف منطقة معزولة، إنما استهدف مكاناً قريباً من مركز المدينة التجاري والمكتظ خلال ساعات النهار. هذه حقائق لا يتجاهلها الضباط الذين أعطوا أوامرهم بالعملية. هل نشهد تطوراً على طريقة العمل والتحدي في ساعات النهار، خلال وجود آلاف الأشخاص في المنطقة؟
- بيان صادر عن "عرين الأسود"، أعلن أن 6 من بين الشهداء الـ11 هم من التنظيم والجهاد الإسلامي، وقدم التعازي لعائلات المواطنين الأربعة الذين قُتلوا، بينهم مسنّ يبلغ من العمر 72 عاماً، وآخر يبلغ من العمر 61 عاماً (وآخر توفي بعد إصابته بغاز مسيل للدموع). الفلسطينيون الذين أعلنوا يوم حداد، مجدداً، يعتبرون الاقتحام الإسرائيلي مجزرة، كما اعتبروا الاقتحام السابق في جنين خلال الشهر الماضي. إذا كان القصد هو القول إن الجيش كان يستطيع اعتقال المطلوبين من دون قتلهم، ومن دون زعزعة مدينة كاملة بجميع سكانها وقتل مواطنين غير مسلحين - فهذا التعريف دقيق. لكن في الوقت نفسه، يشوّش حقيقة مهمة واحدة: استعداد عدد أكبر من الشباب الفلسطيني للموت خلال معركة خاسرة مسبقاً مع جنود غير مرئيين اقتحموا بلدتهم، أو رفضهم الخروج من المنزل الذي حوصروا فيه، وهم يعلمون بأن مصيره التفجير والهدم فوق رؤوسهم. الجمهور يرى فيهم أبطالاً شجعاناً، لأنهم يضحّون بحياتهم من أجل تمرير رسالة جماعية: المقتحمون العسكريون ليسوا ضيوفاً، والموت أفضل من السجن، أو التصالح والخضوع للاحتلال.
- هل هناك علاقة ما بين الاقتحامات الدموية خلال الشهر الأخير في جنين وأريحا ونابلس، وبين الانقلاب القضائي؟ هل هناك علاقة بين اقتحام نابلس أمس في وضح النهار، وبين إشارات الأزمة الكثيرة التي تهدد العملة الإسرائيلية بسبب الانقلاب وتصميم الحكومة على الدفع بها رغم كل شيء؟ هل الذي أعطى الأوامر لقوات الجيش والشرطة لا يعلم بأن ازدياد أعداد القتلى الفلسطينيين يقرّبنا من جولة دماء أُخرى؟ هذه أيضاً أسئلة لا نجد إجابات عنها في البيانات الإعلامية للجيش.