مزاج جديد في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
  • في يوم 5 كانون الأول/ديسمبر الحالي، نشر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية (ICC) كريم خان، التقرير السنوي لمكتب الادّعاء تحت عنوان "من أجل عالم أكثر عدلاً - كل يوم". الحديث يدور حول أول تقرير ينشره خان، الذي تولّى منصبه قبل عام ونصف العام. ويفصّل التقرير عمل مكتب المدّعي العام منذ تولّيه المنصب، كما يطرح رؤيته بخصوص وظيفة المحكمة الجنائية. يبدو أن خان يعترف بالانتقاد لفعالية المحكمة القليلة، التي دانت فقط 5 من المشتبه فيهم بارتكاب جرائم كبيرة خلال 20 عاماً من إنشائها، وبأنه سيعمل على زيادة تأثير المحكمة.
  • تشدد سياسة المدعي العام المفصلة في التقرير على تحويل المحكمة إلى مركز (hub) للعدالة الدولية من خلال تعزيز التعاون ما بين المحكمة والدول. وفي هذا الإطار، على المحكمة أن تكون عاملاً مساعداً وداعماً للتحقيقات والإجراءات التي تحدث في الدول ذاتها، كتعبير عن فكرة "السيادة الدينامية"، بما معناه تطبيق دينامي لمبدأ التكامل الذي يُعَد مبدأً أساسياً في المحكمة، واستناداً إليه، تُمنح المحكمة الصلاحية فقط عندما لا تستطيع الدولة التحقيق في موضوع معيّن بالشكل الكافي. واستناداً إلى هذا أيضاً، تم توقيع الاتفاقيات مع عدة دول: كولومبيا وغانا، إذ أدّت الاتفاقيات إلى وقف التحقيقات بشأنها، ومع فنزويلا أيضاً، تم توقيع اتفاق دعم في المسار الداخلي، على الرغم من أن خان قال إنه لا يزال غير كاف. وفي إثر الاتفاق مع السودان، تم قبول أغلبية الأدلة في محكمة علي كوشيب التي افتُتحت في المحكمة الجنائية في نيسان/أبريل هذا بالإضافة إلى أن الهدف من وراء التعاون هو تعزيز فعالية التحقيقات في المحكمة الجنائية ذاتها.
  • وبالإضافة إلى هذا كلّه، هناك نماذج من تعاوُن أوسع، بينها القرار الاستثنائي للنائب العام في نيسان/أبريل 2022، الانضمام إلى طاقم تحقيق مشترك إلى جانب أوكرانيا، إيطاليا، بولندا، أستونيا، لاتفيا، سلوفاكيا، ورومانيا، للتحقيق في النزاع ما بين روسيا وأوكرانيا، تحت سقف هيئة الاتحاد الأوروبي للتعاون في القانون الجنائي (Eurojust)؛ وكذلك قراره في أيلول/سبتمبر 2022، الانضمام إلى طاقم تحقيق يبحث في جرائم ضد المهاجرين واللاجئين في ليبيا، إلى جانب هولندا وبريطانيا وإسبانيا، بالتعاون مع اليوروبول (وهو ما أدى إلى اعتقال اثنين من المشتبه فيهم في أثيوبيا وتسليمهما لإيطاليا وهولندا). هذا بالإضافة إلى أن خان شدّد على التعاون مع جهات إضافية: الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، منظمة دول أميركا، اللوبي الاقتصادي لدول غرب أفريقيا (ECOWAS)، والاتحاد الأفريقي. إن التقارب مع دول أفريقيا، الذي يضمن مشاركة النائب العام في قمة الاتحاد الأفريقي للمرة الأولى منذ 17 عاماً، مهم جداً بسبب الانتقادات التي تم توجيهها إلى المحكمة بسبب تكثيف عملها في دول القارة.
  • ثمة أداة إضافية مفصّلة في التقرير، هي تعميق التعاون مع منظمات المجتمع المدني والمجتمع المحلي. وفي هذا الشأن، فإن مكتب النائب العام، بالمشاركة مع مكتب الاتحاد الأوروبي للتعاون في القانون الجنائي (Eurojust)، نشرا ورقة توجيهات عملية للمجتمع المدني بشأن توثيق الجرائم وخرق حقوق الإنسان، بشكل يسمح باستعمال ذلك في المسار الجنائي. كما أُقيمت "طاولة مستديرة"، بمشاركة ممثلين للمجتمع المدني وخبراء من الأمم المتحدة في قضايا الجرائم ضد الأطفال. وهذا كجزء من استراتيجية الطاولات المستديرة مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية (NGOs).
  • يشدد خان على أهمية التواجد في الدول ذاتها، بهدف بناء بنك أساس مشترك وعلاقة بالضحايا. كذلك تمت الإشارة إلى أن خان نفسه سافر أكثر من مرة إلى دول مختلفة. أوكرانيا مثلاً، التي سافر إليها النائب العام عدة مرات، وتم أيضاً إرسال بعثة مؤلفة من 42 باحثاً، أغلبيتهم وُضعت في خدمة النائب العام من جانب هولندا. وبحسب التقرير، من المقرر إنشاء 4 مكاتب ميدانية: في أوكرانيا، والسودان، وفنزويلا، وبنغلادش.
  • يشير التقرير إلى أنه في الفترة المقبلة، سيتم التشديد على تقليل عدد التحقيقات والفحوصات الأولية العالقة، بهدف زيادة نجاعة عمل المحكمة والوصول إلى نتائج أفضل في عدة حالات مقررة. فمنذ إقامتها، لم يُغلَق أي ملف في المحكمة الجنائية. وبهذه الروح، أعلن خان يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر انتهاء مرحلة التحقيقات في 3 تحقيقات قائمة (من أصل 17): الأول في جورجيا، ويتطرّق إلى الجرائم خلال المواجهة مع روسيا في سنة 2008، بالإضافة إلى تحقيقين في جمهورية أفريقيا الوسطى، الأول يتطرّق إلى المواجهات التي حدثت في الدولة في الفترة 2002-2003، والثاني في الجرائم التي تُرتكب منذ سنة معنى هذا أنه لن يكون هناك اتجاهات تحقيق تُفتح من جديد، لكن التعاون مع السلطات المحلية سيستمر، إلى جانب دعم المسارات الداخلية. بذلك، تساعد المحكمة الجنائية الدولية السلطات في جمهورية أفريقيا الوسطى على إقامة إجراءات داخلية ذاتية، ودانت المحكمة الجنائية الخاصة، التي أقيمت في الدولة في 31 تشرين الأول/أكتوبر، ثلاثة متهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في إطار المحكمة الأولى التي أقيمت فيها. قرار عدم الاستمرار في التحقيق في جرائم جديدة في هذه الصراعات يشير إلى رؤية خان منذ تولّيه المنصب، في التركيز على الجرائم التي ارتُكبت في الأعوام الأخيرة.
  • بحسب التقرير، ينوي النائب العام الدفع قدماً بدمج التكنولوجيا المتطورة في عمل المكتب اليومي. ويشير التقرير إلى 3 مجالات: استعمال الذكاء الاصطناعي (AI)، لاستخراج معلومات ضرورية موجودة من كميات المعلومات الكبيرة في الفضاء الافتراضي؛ رفع المعلومات إلى خوادم بشكل يسمح بوصول السلطات المحلية إليها وتعزيز التعاون؛ استخدام خبراء تفرزهم الدول المختلفة ويساعدون مكتب النائب. وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى تعاوُن مع مايكروسوفت في مجال البرمجة. هذا بالإضافة إلى أن خان يشير إلى خطوات يتم اتخاذها من أجل تغيير ثقافة العمل في مكتب النائب العام. وهذا بسبب الانتقادات الموجهة إلى مكتب النائب العام من لجنة خارجية ومستقلة فحصت أداء المحكمة. وأشار التقرير إلى خطوات لتعزيز التمثيل النسائي في قائمة المرشحين للوظائف المختلفة في المكتب واتخاذ خطوات إضافية أُخرى لضمان التمثيل الجندري عموماً في المكتب. ويشير التقرير بشأن نوعية القضايا التي ستنشغل بها المحكمة، إلى تفضيل جرائم العنف ضد النساء، والعنف الجنسي على أساس جندري، وجرائم ضد الأطفال.
  • التحقيق بشأن إسرائيل فُتح رسمياً في آذار/مارس 2021، وتركّز في ادّعاءات بارتكاب جرائم في الضفة والقدس الشرقية وقطاع غزة، بدءاً من 13 حزيران/يونيو 2014، على أيدي جميع أطراف الصراع. يمكن للتحقيق أن يتطرّق إلى كل جريمة ارتُكبت منذ هذا التاريخ، من دون موعد نهائي مقرّر.
  • منذ تولّيه المنصب، لم يتطرّق خان كثيراً إلى التحقيق، ويبدو أنه ليس على رأس سلّم أولوياته، لكن يمكن ملاحظة بداية تغيير بالنسبة إلى التحقيق. فعلى الرغم من أن الميزانية المخصصة للتحقيق في المحكمة الجنائية لسنة 2023 لا تزال أقل نسبياً من بقية التحقيقات، فإن الميزانية تضاعفت بثلاث مرات نسبةً إلى الميزانية التي خُصصت لها في سنة هذا بالإضافة إلى أن التحقيق يُعَد واحداً من عشرة تحقيقات تم تفضيلها للسنة المقبلة. كما أعلن خان في 5 كانون الأول/ديسمبر، خلال اجتماع الهيئة العامة السنوية للدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، أن أحد أهدافه هو زيارة فلسطين خلال السنة المقبلة (إلى جانب أفغانستان والكونغو). يبدو أن خان، الذي يعرف الحساسية السياسية، اختار عن قصد صيغة حذرة، ولم يعلن أنه ينوي الزيارة بشكل حاسم، بل قال إنه سيزورها "إن شاء الله". ويشير خان في التقرير إلى وضع فلسطين في الموقع الذي يشير فيه إلى نيته استخدام الباحثين الذين تفرزهم الدول الأعضاء إلى مكتبه.
  • على مدار الأعوام، خاضت إسرائيل محادثات غير رسمية مع مكتب المدعي العام، وعلى عكس المدعية السابقة، يبدو أن لدى خان إصغاء أكثر للادّعاءات الإسرائيلية. إسرائيل تستخدم أيضاً حلفاءها، بهدف التأثير في النائب العام، كي لا يتقدم في التحقيق بشأنها. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يبدو لدى خان إصغاء للرأي العام الجماهيري في الساحة الدولية. وكلما ازدادت الأصوات التي تطالب بالتحقيق في سياسات إسرائيل وما تقوم به، سيزداد الضغط على النائب العام للدفع بالتحقيق قدماً. هذا ما ينعكس في قضية مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، فعلى الرغم من التوقعات بأن دعوى قناة الجزيرة ستُرفض بسبب التحقيق الذاتي الإسرائيلي و"حقيقة" أن الموضوع "حادث فردي" ولا يستوفي درجة خطورة الحوادث التي تحقق فيها المحكمة الجنائية، من المتوقع أن تزداد الضغوط بسبب الانتقادات من المحكمة الجنائية الدولية (ICJ)، الواردة في وجهة النظر الاستشارية، التي يبدو أنها ستطالبه بالتقرير بشأن عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي المستمر. هذا بالإضافة إلى أن خطوات إسرائيلية داخلية يتم التعامل معها على أنها تُلحق الضرر بحقوق الفلسطينيين، كإلغاء "الإدارة المدنية" والضرر بسلطة القانون واستقلالية القضاء، ستصعّب طرح الموقف الإسرائيلي، إما بصورة مباشرة، وإما من خلال الدول الصديقة، ويُلحق الضرر بالقدرة على الاستمرار في تأجيل التقدم في التحقيق.
  •  
  •