التنازلات المقدَّمة في الاتفاق مع لبنان: حسناتها أكثر من سيئاتها
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2022، قدم الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين المقترح النهائي للتسوية بين لبنان وإسرائيل بشأن الحدود البحرية واستخراج الغاز، وذلك بعد جولة أخيرة مليئة بالضغوط بين الطرفين، إذ طالب لبنان بإجراء بعض التعديلات التي رفضتها إسرائيل، وقررت إسرائيل بدء الضخ العكسي من حقل "كاريش" (فحص المعدات قبل بدء الاستخراج). وفي 11 تشرين الأول/ أكتوبر أعلن الطرفان، رئيس الحكومة يائير لبيد والرئيس اللبناني ميشال عون، أن الصيغة الأخيرة من الاتفاق مقبولة بالنسبة إليهما، وأن الاتفاق سينتقل إلى مرحلة المصادقة النهائية عليه. وفي اليوم التالي، صادق "الكابينيت" والحكومة في إسرائيل على الاتفاق، وقررت الحكومة أن التصويت عليه لن يتم في الكنيست (على الرغم من أنه لم يكن الخيار المفضل لدى المستشارة القضائية للحكومة)، وإنما سيتم طرحه على الكنيست لمدة أسبوعين للاطلاع عليه، وفي 26 تشرين الأول/ أكتوبر، ستصادق عليه الحكومة بصورة نهائية، الأمر الذي بات ممكناً الآن بعد أن رفضت المحكمة العليا كل الالتماسات المقدَّمة ضده.
ما الذي سمح بالوصول إلى اتفاق؟
- لقد بات توقيع الاتفاق ممكناً بعد التغيير الذي طرأ مطلع حزيران/ يونيو الماضي على موقف لبنان، هذا البلد الذي يعاني جرّاء انهيار اقتصادي وأزمة سياسية عميقة. ومع وصول منصة "كاريش" إلى إسرائيل في 5 حزيران/ يونيو الماضي، تم استدعاء الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين إلى بيروت، التي تراجعت عن المطالبة بالخط الأقصى (خط29) وتبنت موقفاً فيه تنازل واستعداد لاستكمال الصفقة في أسرع وقت ممكن. فقد ساهمت تهديدات نصر الله (إطلاق مسيّرات في اتجاه منصة كاريش في 26 حزيران/ يونيو وتصريحاته خلال شهر آب/ أغسطس بأن التنظيم سيضرب المنصة) في رفع حدة التوتر الأمني، وزادت التخوف من تصعيد عسكري، كما أن اقتراب موعد الانتخابات في إسرائيل واقتراب انتهاء ولاية الرئيس اللبناني (31 تشرين الأول/ أكتوبر) أوجدا شعوراً بأن ثمة فرصة زمنية محددة يجب استغلالها. وتمثلت المساهمة الإضافية في تركيز الوسيط الأميركي هوكشتاين على رصد ما هو أكثر أهمية بالنسبة إلى الطرفين، كي يشعر كلاهما بالإنجاز.
مضمون الاتفاق
- تم صوغ الاتفاق على شكل رسالة إلى الطرفين من جانب الولايات المتحدة، بسبب عدم رغبة لبنان بإجراء محادثات مباشرة مع إسرائيل، وتضمنت الرسالة البنود التي تم الاتفاق عليها ومسار استكمالها. وفيما يلي المبادئ التي تم الاتفاق بشأنها:
- الحدود البحرية: يتفق الطرفان على تحديد الحدود الثابتة والعادلة على أساس الخط 23 (الذي عاد وتمسك به لبنان بعد تراجعه عن المطالبة بالخط 29)، على أن يتم حفظ الوضع القائم في الكيلومترات الـخمسة الأولى الموازية للساحل، بحسب الخط العائم الذي حددته إسرائيل عقب انسحابها من لبنان عام 2000 (وهو طلب لم تقبل إسرائيل بالتنازل عنه لأسباب أمنية)، إذ نصّ البند 1 E على موافقة الطرفين على الحد المعلَّم كحد ثابت وعادل ينهي النزاع بينهما فيما يتعلق بالحدود البحرية، وضمنه البند الذي ينص على تحديد الكيلومترات الخمسة الأولى استناداً إلى الخط العائم الحالي، بحيث لا يُفتح نقاش بشأنه مستقبلاً. أمّا بالنسبة إلى تداعيات الاتفاق على الحدود البرية، فتم الاتفاق على أن تحديد الحدود البحرية لن يؤثر في الحدود البرية. وصحيح أن إسرائيل تنازلت عن أغلبية المنطقة المتنازع عليها بين الخط 1 والخط 23 (860 كيلومتراً)، لكن أغلبية المنطقة موجودة في المياة الاقتصادية (EEZ)، وعملياً لم تتنازل إسرائيل إلاً عن 5.8 كيلومتر من مياهها الإقليمية.
- الاتفاق على استخراج الغاز: حقل "كاريش" غير مذكور لأنه موجود بالكامل في الجانب الإسرائيلي، وبالتالي لا يوجد أي مانع من المباشرة في تشغيله. في المقابل، جاء في الاتفاق أن للبنان كامل الحق في حقل الغاز المحتمل "صيدون-قانا"، والذي يدخل طرفه أيضاً في الجانب الإسرائيلي، وستبدأ الحفريات فيه مباشرة بعد توقيع الاتفاق من جانب جهة دولية موثوقة تستجيب للمتطلبات المهنية العالية ولا تخضع للعقوبات الدولية. في المقابل، ستحصل إسرائيل على تعويضات عن الجزء الموجود في منطقتها، وسيتم الاتفاق على حجم التعويض خلال المفاوضات بين إسرائيل والشركة الدولية التي ستعمل في حقل "صيدون-قانا" (بقيادة شركة توتال الفرنسية وبدعم من حكومة فرنسا)، وسيشكل جزءاً من اتفاق مالي قبل بدء الحفريات. من جهته لن يتدخل لبنان في الأمر، وهو غير ملزم بدفع التعويضات، وسيكون مسموحاً للشركات المولجة بالتنقيب أن تقوم بحفريات في الجانب الإسرائيلي إن لزم الأمر، بعد سماح إسرائيل بذلك.
- دور مركزي للولايات المتحدة: تلتزم الولايات المتحدة ببذل أقصى الجهود من طرفها كوسيط بين إسرائيل ولبنان، وضمنها تمرير الرسائل والمعلومات بين الدولتين، والوساطة في حال تبيان أي خلافات بشأن تطبيق الاتفاق، أو اكتشاف حقول غاز أُخرى في المنطقة. بالإضافة إلى إشارة -من دون تفصيل-إلى الالتزام الأميركي بمساعدة لبنان في عمله على موضوع الغاز بشكل فوري ومستمر (يبدو أن الحديث يدور عن جهود للدفع قدماً بصفقة تمرير الغاز من مصر إلى لبنان عبر الأنبوب العربي الذي يمر من الأردن وسورية). ولا يتضمن الاتفاق تفاصيل علنية عن الضمانات الأميركية لإسرائيل، ولا سيما في مجال الأمن وضمان عدم حصول حزب الله على أرباح من استخراج الغاز من حقل "صيدون-قانا".
- العلاقات بين الدولتين: لا يوجد في نص الاتفاق أي ذكر لجوهر العلاقات بين إسرائيل ولبنان، باستثناء التعريف أنهما يتفقان على الحدود البحرية فيما بينهما بشكل ثابت، بحيث يمكن رؤية ذلك على أنه اعتراف لبناني بإسرائيل.
- إجراءات لاستكمال توقيع الاتفاق: بعد المصادقة على الاتفاق سيكون على لبنان وإسرائيل إرسال رد مكتوب إلى الولايات المتحدة يفيد بأن مبادئ الاتفاق مقبولة لديهما، ثم عليهما تسجيل حدودهما البحرية في الأمم المتحدة، كل بلد على حدة، بدلاً من الحدود المسجلة سابقاً في الأمم المتحدة. ويدخل الاتفاق حيز التنفيذ في اليوم الذي ترسل فيه الولايات المتحدة رسالة مكتوبه تصادق فيها على أن الطرفين قاما بالخطوات اللازمة. وثمة إشارة إلى إمكان أن يتم توقيع الاتفاق على المستوى المهني برعاية الأمم المتحدة في الناقورة.
تداعيات الاتفاق على إسرائيل ولبنان
- بعد مراجعة الاتفاق يمكن الاستنتاج أن الطرفين حققا إنجازات من خلاله، حتى لو كان عليهما تقديم بعض التنازلات. وفي بعض المجالات يخدم مصالح مشتركة بين الطرفين، ولا سيما فيما يتعلق بمساهمته في استقرار المنطقة وأمنها.
- في المجال الاقتصادي: سيتمكن لبنان أخيراً من البدء بأعمال الحفر والبحث عن الغاز في الحقل المحتمل "صيدون-قانا" الذي رفضت كل الجهات الدولية العمل فيه ما دام النزاع على الحدود لم يتم حله. وفي حال كان هناك غاز في الحقل، فإن الاستخراج سيبدأ بعد عدة سنوات، وبالتالي فإن الحديث يدور عن ربح بعيد المدى للبنان. وعلى الرغم من ذلك، فإن الاتفاق يبعث الأمل لدى الشعب اللبناني ويبشر بالاستقرار والهدوء في المنطقة، الأمر الذي من شأنه استقطاب مزيد من الاستثمارات، وتسريع المساعدات الاقتصادية للبنان التي تأجلت حتى الآن، كما من شأن هذا الاتفاق أن يحسّن من فرص لبنان المنهار للانضمام إلى نادي الدول المصدِّرة للغاز في شرق المتوسط. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن هذا الاتفاق يضمن لها تعويضات مادية عن النسبة التي تعود إليها من الحقل الذي يمر في منطقتها. ولا يوجد إشارة إلى حجم التعويض، لكن بحسب ما تم نشره في الإعلام فإن الحديث يدور عن نسبة 17٪ على الأقل، أي أقل من النسبة التي كانت مستعدة إسرائيل لقبولها في الماضي، لكن الحديث يدور عن أرباح لم تكن لتحصل عليها إسرائيل من دون الصفقة الحالية. كذلك فإن الإيجابيات الاقتصادية بالنسبة إلى إسرائيل مصدرها الاستقرار والأمن اللذين يضمنهما الاتفاق في المنطقة البحرية، مثل جذب الاستثمارات وتخفيض كلفة التأمين والأمن.
- على الصعيد الأمني: من الناحية الإسرائيلية، لا يضر الاتفاق مطلقاً بقدرة الجيش على الدفاع في البحر؛ فقد تم حفظ الخط العائم في الكيلومترات الخمسة الأولى، كما ليس للتنازل الذي جرى تقديمه في المياه الاقتصادية وفي المنطقة المتنازع عليها أي تأثير في قدرات سلاح البحرية والاستخبارات التي تعمل هناك عن بعد، فضلاً عن أن الاتفاق من شأنه أن يقلّص إمكان وقوع أعمال عنف في المنطقة البحرية المشتركة مع "حزب الله"، إذ ليس من مصلحة هذا الأخير إلحاق الضرر بأعمال استخراج الغاز من حقل "صيدا-قانا". وعلى الرغم من ذلك، فإن إمكان المواجهة مع حزب الله لا يزال قائماً في مناطق أُخرى، وذلك بسبب شعور الحزب بالثقة الزائدة بعد الاتفاق، والذي، بحسبه، لم يكن ممكناً التوصل إليه لولا تهديداته. لذا من الممكن أن يخاطر الحزب بمعركة محدودة مع إسرائيل على الرغم من أنه لا يريدها، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى تصعيد.
- على الصعيد الاستراتيجي:
- إزاء لبنان-على الرغم من الحوار غير المباشر والجهد اللبناني للابتعاد عن أي مظاهر تطبيع مع إسرائيل، بسبب معارضة حزب الله لذلك، فإن الاتفاق يعبر عن تغيير جذري في العلاقات بين الدولتين، ذلك بأنه يسحب البساط من تحت قدمي حزب الله فيما يتعلق بادعائه أن إسرائيل كيان غير شرعي ويجب عدم الاعتراف بها، كما يثبت أن حزب الله لا يستطيع تحقيق كل ما يريده في لبنان، إذ عليه أيضاً أن يتنازل. ومن شأن الاتفاق أن يحسّن من صورة إسرائيل وسط الجمهور اللبناني، ويفتح الباب أمام تطور العلاقات في مجالات أُخرى مستقبلاً، فضلاً عن أن الاستقرار الأمني وتحسين الوضع الداخلي في لبنان أمران مهمان أيضاً بالنسبة إلى إسرائيل.
- مكانة حزب الله: صحيح أن حزب الله يطرح الاتفاق أمام مؤيديه من اللبنانيين على أنه إشارة إضافية إلى أهمية المقاومة وسلاحها في الدفاع عن لبنان، لكن يمكن أن يتم التعامل معه على أنه قيد إضافي على حزب الله الذي بات هدفاً لانتقادات داخلية آخذة في التوسع، ويلاقي صعوبة في التأثير في تشكيل الحكومة (التي لا تزال حكومة انتقالية منذ الانتخابات النيابية في أيار/ مايو) وفي تنصيب رئيس كما يريد.
- بالنسبة إلى إيران التي تعارض أي اتفاق مع إسرائيل: يشكل الاتفاق بالنسبة إلى إيران فشلاً إضافياً في صراعها مع إسرائيل (الشيطان الأصغر)، ولا سيما أنه تم التوصل إليه بفضل الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر). كما يشكل هذا الاتفاق عقبة أمام جهود إيران التي يقودها حزب الله لتوسيع نفوذها في لبنان، ومن شأنه أن يقوي علاقة لبنان بالغرب (وخصوصاً بالولايات المتحدة وفرنسا)، بخلاف رؤية نصر الله الذي يريد ضم لبنان إلى "المحور الشيعي".
- في الخلاصة، يمكن القول إن الوصول إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان تم بفضل التقاء عدة مصالح بين الدولتين، ورغبتهما في التنازل واستغلال الفرصة التي أُتيحت لوقت محدود. صحيح أن ثمة تنازلاً في الاتفاق، لكنه يخلق حالة win-win بين الدولتين، وبالتالي فإن احتمالات تطبيقه ليست سيئة.
الكلمات المفتاحية