الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي هي أعراض أمراض عميقة في المجتمع الإسرائيلي
تاريخ المقال
المصدر
- الكراهية والاستقطاب السياسي الحاد بين المعسكرات يصل إلى ذروته عشية الانتخابات واقترابها. ويتم التعبير عنهما على كافة الصعد والقنوات-قنوات التلفزيون، وعلى صفحات الصحف المكتوبة ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث توجد اليوم ساحة المدينة الحقيقية. الرياح تهدر ووصلت على عتبة انفجار خطر.
- الاستقطاب السياسي لا يُعد شعورياً ذاتياً. فبحسب استطلاع للرأي أجراه معهد الحريات والمسؤوليات في أيار/مايو الماضي في جامعة رايخمن، تبين أن أغلبية الجمهور، ليس أقل من 80%، تعتقد أن الاستقطاب السياسي بين اليمين واليسار في إسرائيل ازداد خلال الأعوام الثلاثة الماضية. معطى آخر يشير إلى أن الكراهية العالية ما بين اليساريين واليمينيين في إسرائيل ازدادت، وباتت أكثر، قياساً إلى الاستطلاعات السابقة للمعهد ذاته، والتي تم إجراؤها في أيلول/ سبتمبر 2021.
- وهذا ما تؤكده أبحاث أُخرى جرت خلال الأعوام الماضية. وتشير النتائج إلى أنه وإلى جانب الاستقطاب السياسي-ويمكن أيضاً بسببه-حدث تراجُع في وحدة المجتمع الإسرائيلي. ويتم التعبير عنه من خلال الفروق الاجتماعية-الطبقية الآخذة بالتوسع بين الأغنياء والفقراء، وبين المركز ومدن التطوير. وهو ما يؤكده مؤشر الأمن القومي الذي يصدر عن معهد أبحاث الأمن، إذ يوافق 70% من المستطلعين على مقولة أنه "حدث تراجع في شعور التضامن داخل المجتمع الإسرائيلي".
الألاعيب السياسية تزيد في حدة الاستقطاب
- المعسكران السياسيان الرئيسيان مسؤولان عن استمرار الاستقطاب وتعاظمه، إذ يتم تركيز كل النقاش على السؤال الأبدي: "نعم بيبي؛ لا بيبي". وكل طرف يشد باتجاه، من دون التقاء الأطراف.
- وفي الوقت الذي بات من الواضح وجود أغلبية للمواقف اليمينية داخل المجتمع الإسرائيلي-اليهودي (يمكن النقاش في حجمها، لكن الحديث يدور عن أغلبية واضحة)، فإن كل خطوة برلمانية تهدف إلى إحباط هذه الأغلبية من خلال أدوات قامعة-أشك في قانونيتها وطبيعتها، كمنع التمثيل العادل في لجان المعارضة، واستعمال القانون النرويجي، وتكبير الحكومة-لها أبعاد مدمرة.
- أحد الأسباب التي تؤدي وتبني هذا الواقع الخطِر هو أن جزءاً كبيراً من ممثلي الأحزاب في معسكر اليسار-الوسط في الكنيست غير منتخب من الناخبين داخل الحزب (انتخابات تمهيدية داخلية)، إنما من طريق رئيس الحزب، "الحاكم الوحيد". وهو ما يخلق حالة لا يتم فيها انتخاب الممثلين على يد جمهور المصوتين للحزب، وهم غير ملزمين تجاههم وتجاه الجمهور الواسع بشيء.
- يؤدي استعمال الألاعيب السياسية والاستناد إلى ظروف برلمانية إلى عدم تمثيل إرادة الناخب، وعدم تمثيل الأغلبية في مواقع القوة والتأثير. والأسوأ من هذا-أنها تعمق الشعور لدى الناخبين بأن الديمقراطية غير فعالة ولا تعمل لخدمتهم، كما يزعزع الثقة بالنظام السياسي. الطريق من هنا إلى الفوضى قريبة، ويتم تسريعها على يد الموظفين والإعلام، الذين يقومون بدور غير محايد في النظام السياسي. وعملياً، عندما لا يكون لدى أعضاء الكنيست المختارين من طرف "الحاكم الوحيد" أي قوة برلمانية كممثلين للشعب، ولا يوجد تمثيل ديمقراطي حقيقي في الكنيست، فإن كل ما تبقى لهم هو الخضوع للرئيس، والتفاخر به في الساحات والاستوديوهات، والإيمان بأن الشعب مضلَّل وأعمى. أنا أعتقد أن الجمهور في اليمين واليسار أيضاً محبَط من هذه الطريقة السطحية.
الاستقطاب السياسي يتسرب إلى النسيج الاجتماعي
- الاستقطاب السياسي يتسرب إلى النسيج الاجتماعي، وخصوصاً أن خطوط الانقسام-تتماشى بشكل جزئي مع خطوط الانقسامات الأُخرى: الإثنية، الاقتصادية، الديموغرافية والثقافية-مما يدفع كل مجموعة إلى تعمبق الفوراق بينها وبين المجموعات المختلفة، وتحصنها في مواقفها وتعميق الفجوة التي تمنع الحوار مع الطرف الآخر.
- من الممكن أيضاً القول إن الاستقطاب السياسي هو نوع من أنواع الموجة الحاملة، Carrier، التي تحمل الاستقطاب السياسي إلى أبعد من حدوده السياسية، وتوسّعه إلى مجالات اجتماعية وشخصية. عامل محفّز يقوي مشاعر الكراهية في ساحات أُخرى بسبب المشاعر الجياشة التي تميز النقاش السياسي، إلى جانب أفكار مسبقة، وأساطير ومعتقدات ثابتة. الحديث هنا يدور عن مسار يغذي نفسه، وقاتل للمجتمع الإسرائيلي بكونه رجعياً جداً. وفي النهاية، فإن الكراهية لا تسمم فقط، إنما تمنع الاهتمام بقضايا مهمة فعلاً.
عندما تقل الخلافات السياسية، ترتفع التوترات الاجتماعية
- المثير للاهتمام في هذا التطور هو أنه يحدث بصورة خاصة في الوقت الذي تقلصت الخلافات التاريخية بين اليمين واليسار على الموضوع السياسي. فأغلبية المجتمع اليوم موجودة في الوسط السياسي والخلافات على قضايا الأمن والخارجية تقلصت. وبالمناسبة، تشير نتائج الاستطلاع الذي ذكرته إلى أن العدائية للوسط من جانب المعسكرات السياسية أقل نسبياً من مشاعر الكراهية بين المعسكرين ذاتهما.
- إذاً، كيف يمكن تفسير هذا الاستقطاب السياسي الواضح جداً؟ يبدو أنه وعلى مدار السنوات تم طمس الخلافات السياسية، أو نجحوا في إبراز قضايا أكثر الحاحاً، كالفجوات الطبقية الاجتماعية. الآن، ومع تحول القضايا السياسية إلى قضايا أقل خلافية في المجتمع الإسرائيلي، ترتفع وتبرز القضايا الملحة الخلافية في المجالات الاجتماعية، وفي الخلفية، حالة عدم المساواة التي تميز المجتمع الإسرائيلي.
- ففي الوقت الذي لا يزال الجيل الثالث من سكان مناطق التطوير اجتماعياً وجغرافياً يعاني جرّاء فروقات جذرية في مجالات التعليم والصحة والعمل، تكون لديه الأسباب العادلة والكافية للغضب. وعندما يكون وصولهم إلى التعليم العالي، وظروف الحياة الجيدة والتنقل الاجتماعي، كلها أمور ممتلئة بالتحديات، يكون لديهم أسباب كافية للإحباط.
- وهكذا، تطفو على السطح الذكريات التاريخية المؤلمة عن التمييز والعنصرية في جيل الآباء، والأزمات الاجتماعية في مدن التطوير والأحياء الفقيرة، إلى جانب عدم المبالاة من طرف النظام الذي استقبلهم كمهاجرين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وبذلك، لا يغذي الاستقطاب السياسي الاستقطاب الاجتماعي فقط، بل إن الاستقطاب الاجتماعي يغذي الاستقطاب السياسي أيضاً. مصيدة يعيش فيها المجتمع الإسرائيلي.
تعزيز الاستقطاب خطر على المجتمع الإسرائيلي
- لطالما تميز المجتمع اليهودي بالاستقطاب الاجتماعي والفكري، وتاريخنا ممتلئ بالخلافات والانقسامات-من أيام الهيكل الأول والثاني وفترة الشتات، وصولاً إلى الاستيطان العبري، الذي تميز بخلافات حادة بشأن العلاقات مع الانتداب البريطاني والتمرد المسلح. الشارع اليهودي في الشتات كان ممتلئاً بالخلافات والنقاشات، بين معارضة الحكماء، بين صهاينة وغير صهاينة، بين محافظين وثوريين، وبين متزمتين وأحرار، إذ اعتقد كل منهم أن بيده مفتاح الخلاص اليهودي.
- كذلك الصهيونية، منذ تأسيسها كانت ساحة للخلافات الصعبة-بين التصحيحيين والعمال، بين حكماء الصهيونية السياسية ومن يدعم الصهيونية العملية وغيرها. لذلك، فإن الاستقطاب ليس جديداً علينا، لكن الاستقطاب الحالي له مميزات أُخرى-فهو متعدد الأبعاد، شامل وقابل للانفجار. وعلى عكس الماضي، حين احتاج مسار بناء الأمة إلى قوة وموارد طغت على الخلافات (بناء، واستيطان، وهجرة)، فإن الوضع اليوم مختلف جوهرياً، وكل الطاقات موجهة إلى الخلاف الداخلي ذاته.
- تعزيز الاستقطاب خطر على المجتمع الإسرائيلي، وله تداعيات عميقة. فمقابل مشاكل الأمن، من السهل نسبياً التكتل، ومن الصعب أكثر التكتل أمام الاستقطاب السياسي والفجوات الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى أن الاستقطاب السياسي والاجتماعي يلتقي الأزمات البنيوية في إسرائيل، ولذلك، فإنه يهدد وجود الدولة برمته-عدم الاستقرار السياسي المستمر، وانعدام السيادة في كافة مناطق الدولة، وانعدام الأمان الشخصي، وموجة قومية تجتاح المجتمع العربي، إلى جانب تعاظُم قوة الطبقة الاقتصادية المتحكمة وغيرها.
الصراعات بين المعسكرات تؤدي إلى شلل نظامي
- حالة عدم الاستقرار السياسي أدت إلى خلق فراغ على صعيد النظام دخلت إليه قوى قوية غير منتخبة في المجتمع الإسرائيلي بسعادة-كبار الموظفين، البيروقراطية، النظام القضائي، الإعلام، ومجموعات المصالح الكبيرة إلى جانب النخب الاقتصادية. جميعهم ينظرون إلى عدم الاستقرار في النظام، وضعف القوى المنتخبة، والتبدل السريع للوزراء، ويقومون ببناء قوة حُكم خاصة بهم، قوية، ومستقرة، وقادرة على الصمود، تعيش زمناً أطول، وتبدو اليوم أكبر من النظام المنتخب.
- كبار الموظفين هم الأبرز. أحياناً تشعر بأنها مجموعة مغلقة مقتنعة بأحقيتها، تستعلي على النخب المنتخبة وواثقة بقدرتها على اتخاذ القرارات التي تكون محصورة بالمنتخبين بصورة عامة. كبار الموظفين عموماً لا يتبدلون مع تبدّل الحكم، هم أكثر استقراراً ويميلون إلى استنساخ أنفسهم، عبر تمرير الوظائف الكبيرة باليد، كما يحدث في سباق المجموعات المغلقة، وأحياناً بين أفراد العائلة الواحدة. يأتون من العائلات نفسها، يتعلمون في المؤسسات نفسها (مثلاً، خريجو صندوق فاكسنر)، ويتشاركون التجارب. كما أنهم لا يشعرون بأي مشاعر سلبية لأنهم غير منتخَبين، على العكس-يشعرون بـ"تفوق ثقافي" على العامة، ويصادقون على ما يقومون به بادعاء أنهم "حراس" الدولة.
- وبسبب الظروف والجو السياسي المسموم، فإن كل محاولة تهدف إلى استعادة التوازن ما بين المستوى المنتخب والموظفين غير المنتخبين، تفشل. وكنتيجة لصراع القوى ما بين النخب السياسية المنتخبة وبين النخب غير المنتخبة، التي تعزز قوتها وتشل قدرة النخب المنتخبة (إلا إذا كانت تنفّذ ما يريدونه)، حدثت حالة شلل نظامي أكثر من مرة.
- والأسوأ من ذلك، أن التحالف ما بين الأحزاب غير الديمقراطية التابعة لـ"الحاكم الواحد"، والنخب غير المنتخبة، يؤدي إلى تحالف غير معلن، الهدف منه تقوية الطرفين اللذين يعانيان جرّاء نقص انتخابي ويدركون ضعفهم. الالتصاق بمراكز القوة والتأثير باتجاه واحد لا يؤدي فقط إلى حفظ القوة والعظمة بيد قلة بشكل غير ديمقراطي، إنما إلى تسييس المجتمع والاقتصاد أيضاً.
- لكل هذا يوجد معنى واحد-الاستقطاب الداخلي يعمق المشكلات الداخلية ويشكل خطراً على التكاتف الاجتماعي، كما يهدد مصير الدولة. هذا صحيح بصورة خاصة حين يتم أخذ التهديدات الخارجية بعين الاعتبار.
مطالبة القيادة بنقاش القضايا الجوهرية للمجتمع الإسرائيلي
- المجتمع الإسرائيلي على مفترق طرق تاريخي، فعليه أن يقرر مستقبله وطريقه في عالم غير مستقر. لكن ما هو الدواء للمرض المستمر في المجتمع الإسرائيلي؟ مفتاح الخروج من هذا المأزق يرتبط إلى حد بعيد بجمهور المصوتين.
- عليه التصرف كشخص راشد ومسؤول حيال حالة الفوضى السياسية والاستقطاب الاجتماعي. عليه التصميم على المطالبة بقيادة سياسية تتوقف عن الانشغال بالموضوع التافه "بيبي، ليس بيبي" وتعود للتعامل مع القضايا المهمة حقاً. عليه أن يطالب القيادات السياسية بطرح رؤيتها إزاء القضايا المختلفة والمجالات المختلفة. عليه أن يطالب السياسيين والقيادات بالتطرق إلى القضايا الجدية. وعليه أن يطالب بحوار جدي في القضايا المهمة في المجتمع الإسرائيلي، أبعد من النقاش السطحي والشعبوي الذي يُعرض فقط على الشاشة. حوار يتطرق إلى القضايا المهمة التي تساعد على بناء وصوغ المجتمع الإسرائيلي لأجيال مقبلة.
...
- يجب اختيار القائد القادر على الموازنة ما بين التحديات الخارجية والداخلية، ويجنّد المجتمع الإسرائيلي لتحقيق أهدافه البعيدة المدى، ويخلق مساحة مشتركة واسعة، كمعالجة مشكلات المجتمع الجدية في مجال التعليم، والصحة، والأمن الشخصي، والسكن، وغيرها. وهذا بروح ما قاله الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن خلال خطاب التنصيب الثاني له-الذي اقتبسه مناحيم بيغن في خطاب النصر يوم 17 أيار/مايو 1977: "من دون استثناء أحد ومع عدالة للجميع ومع ثقتنا بعدالة الرب الذي يسمح لنا برؤية الحقيقة، هيا لنمضي إلى الأمام وننهي العمل الذي بدأنا به، نعالج جروح الأمة، ونساعد مَن خاض المعركة كما نساعد أرملته وأيتامه، نقوم بالمطلوب بهدف الوصول إلى السلام العادل في داخلينا، ومع جميع الأمم."
- ليتنا نبدأ بمسار البناء من جديد لمجتمع صحي، عادل وديمقراطي. هذا بيدنا، جميع مواطني دولة إسرائيل، هذا لأجل أبنائنا وأحفادنا والأجيال القادمة. تاريخ شعبنا أثبت المرة تلو الأُخرى أن لدينا الإمكانيات للتدمير الذاتي، وخاصة لدى القيادات. الشعب الكبير الواعي يمكن أن يجعل الأمور مختلفة.