سياسة إدارة الأزمة
تاريخ المقال
المصدر
- مرة أُخرى، أظهرت حملة "درع وسهم"، التي انتهت في بداية الأسبوع، "معضلة قطاع غزة". فمع كل حملة عسكرية جديدة، تزداد الأصوات من اليمين واليسار، والتي تقول إن الوقت حان لتغيير الواقع غير المحتمل حيال قطاع غزة، مرة واحدة، وإلى الأبد، أي واقع التهديد الدائم للبلدات القريبة من القطاع، وحتى تلك البعيدة أكثر عنه.
- تعاظُم قوة "التنظيمات الإرهابية" في القطاع، وعلى رأسها تعاظُم قوة "حماس"، تدفع بجهات كبيرة وذات نيات "حسنة"، إلى المطالبة بحلّ فوري هنا.
- خبراء وضباط كبار في جيش الاحتياط، والكثير من الأطراف، يطرحون أفكاراً ومقترحات مفصلة، هدفها الإجابة عن سؤال، ماذا يجب أن تفعل إسرائيل من أجل تغيير الواقع الحالي؟ نبدأ بالموقفيْن "الأكثر شيوعاً" المطروحيْن منذ أعوام.
- اليساريون يدّعون أن الحلّ الوحيد لهذا الواقع هو حلّ سياسي. وبحسبهم، حان وقت الحوار مع "حماس" والتوصل إلى تفاهمات واتفاقات. ومن دون حوار سياسي، بحسب ما يدّعيه اليسار، سنحكم على أنفسنا بالحياة بين جولات لا تنتهي من "الإرهاب" والرد وإعادة الكرّة.
- مقابل موقف اليسار، تقف جهات في اليمين العميق، وتدّعي أنه بعد اتفاق "أوسلو" و"فك الارتباط"، الحلّ الوحيد الذي سيغيّر الواقع السيئ الذي نعيشه منذ أكثر من 20 عاماً هو الحلّ العسكري، والحديث يدور حول حملة عسكرية واسعة نبادر إليها. وبحسبهم، فإنه من المحظور الحوار مع "الإرهابيين"، لأن اللغة الوحيدة التي يفهمونها هي لغة القوة. احتلال القطاع هو إمكانية واقعية بالنسبة إليهم، وذلك لأن احتلال القطاع سيؤدي إلى وأد "الإرهاب" الغزّي وتغيير قواعد اللعبة.
- التوجهان معروفان ومُستنفدان ومرّ عليهما الزمن. ويبدو أن مَن يقترحهما أيضاً يعلم بأنهما غير قابليْن للتطبيق، ولن يؤديا إلى الحلّ المرغوب فيه. توجُّه اليسار القائل إن كل صراع ديني/ قومي/ جغرافي يمكن حلّه بالحوار بين الأطراف، هو توجُّه ساذج، مراهق وخطِر. كرقصة التانغو؛ للتوصل إلى تفاهمات واتفاقات، يجب أن يكون هناك طرفان. يمكن الحديث بصوت مرتفع لمصلحة الحوار، ويمكن طرح ترتيبات مفصلة بشأن المواعيد الزمنية وعرض الشروح التفصيلية؛ لكن، في نهاية المطاف، الطرف الآخر لا يعترف بنا، ولا يعترف بحقنا في الوجود؛ لذلك، لا يوجد فعلاً مَن يمكن الحوار معه.
- هذه هي الحال إزاء "حماس" وبقية التنظيمات "الإرهابية". مَن يعتقد أن "حماس" منفتحة على الحوار، لا يعرف ماذا يقول، ولا يعرف ما المقصود.
- لقد أثبت اتفاق "أوسلو" أن الحديث بصوت مرتفع عن نهاية الصراع، تم تفسيره لدى الفلسطينيين الأكثر اعتدالاً من "حماس"، بأنه تحسين لموقفهم قبل المرحلة المقبلة. حتى اليوم، لا تزال السلطة الفلسطينية، ومن المؤكد التنظيمات "الإرهابية"، ترفض الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود كدولة للشعب اليهودي. مَن لا يعترف بهذه الحقيقة الأساسية يكشف عن هدفه الضمني، وهو طردنا من هنا بأي طريقة ممكنة. لذلك، فإن الخلاصة واضحة؛ إمكانية الحوار مع "حماس" تشبه إمكانية الحوار مع أفعى.
- الحلّ الذي يطرحه ما أسمّيه "اليمين العميق" غير واقعي أيضاً. أسلوب توجيه ضربة وانتهينا غير موجود فعلاً. صحيح، دائماً نستطيع إرسال ألوية دبابات وأسراب من الطائرات الحربية لتنظيف الميدان، ولكننا جميعاً نعلم بأن هذا لن يحدث. لماذا؟ بسبب الكثير من الأسباب القيمية - الأخلاقية، والقانونية، والسياسية، والأمنية. وذلك لأن استخدام قوتنا كلها غير مطروح، وبالتالي بقينا مع أدوات عادية نستخدمها في كل حملة وجولة. احتلال القطاع أيضاً ليس واقعياً.
- الأغلبية الساحقة في المجتمع الإسرائيلي، أكثر من 85%، غير مستعدة للسماع عن احتمال احتلال القطاع. المجتمع الإسرائيلي في جيله الحالي، انفصل عن قطاع غزة، مادياً ونفسياً. يمكن أن نحبه، وأن نكرهه أيضاً، لكن شيئاً لن يغيّر هذا الواقع.
- تقنياً، احتلال القطاع ممكن. يستطيع الجيش ومنظومة الأمن القيام بذلك خلال أقل من 24 ساعة، ولكن سيرافق هذه الخطوة سؤالان. السؤال الأول هو بالطبع عن الثمن؛ والثاني الذي لا يقل أهمية، هو ماذا سيحدث بعد احتلال القطاع. هل نملك خطة منظمة لإدارة القطاع، وهل نستطيع القيام بذلك؟ المجتمع الإسرائيلي يعارض ذلك. ولذلك، فإن الحديث عن حلّ "ضربة وانتهينا" غير قابل للتطبيق، وعملياً، غير مطروح أصلاً.
- إذا كانت الأمور على هذه الحال، فماذا تبقى لنا لنفعله؟ الكثير، حتى أنه يمكن القول الكثير جداً. لكن، وقبل القيام بأيّ شيء مهم، يجب فهم الاستراتيجيا التي علينا تبنّيها. فكما هي الحال مع الأمراض المستعصية التي لا يملك الطب حلاً كاملاً لها، ما يقوم به الأطباء هو تحسين لحالة المريض، ووضعه في حالة استقرار تسمح له بالعيش حياة طبيعية بقدر الإمكان.
- وكذلك هو الأمر بشأن "معضلة قطاع غزة". الهدف الواقعي لا يمكن أن يكون اقتراح حلول لا يمكن تطبيقها وغير موجودة الآن، إنما تبنّي سياسات تسمح لدولة إسرائيل بالاستمرار في مسار حياتها، ونموها، وتعزيز قوتها وتقدُّمها. كيف يمكن القيام بذلك؟ عبر اتخاذ سلسلة قرارات، الهدف منها خلق حالة ردع فعالة. الاغتيالات هي مثال ممتاز لذلك. جميع قيادات وزعماء التنظيمات "الإرهابية" في غزة يتخوفون من أن تقوم إسرائيل باغتيالهم.
- لذلك، بالنسبة إلينا، يجب أن تبقى هذه الأداة على الطاولة طوال الوقت، وفي مواجهة جميع الجهات. هذا بالإضافة إلى أنه يجب تشجيع العمل بحكمة، كي ندفع سكان غزة إلى التمرد على "حماس". هذا لن يحدث غداً، ولا بعد غد أيضاً، ولكن سياسة "فرّق تسُد" ضرورية وجيدة لنا، وأيضاً لسكان غزة الذين لا علاقة لهم بـ"الإرهاب". ومن أدوات الضغط الإضافية، هناك بالطبع استغلال جيد لمعابر الدخول إلى القطاع. هذا بالإضافة إلى سياسة إدخال المواد إلى القطاع. ممنوع أن يشعر الطرف الآخر بأن هذا الموضوع لا يمكن أن يتغير. علينا أن نشرح لهم بوضوح، وعلى عكس الماضي، أننا لن نسمح لهم بالعمل ضدنا ونتصرف كأن شيئاً لم يكن.
- واقعنا يشبه وعاءً ممتلئاً بالماء الذي يغلي فوق النار، وهدفنا هو منع الماء من الخروج خارج الوعاء. أحياناً، يجب التقليل من حدّة النار، وأحياناً يجب التنفيس، ولكن يجب التأكد دائماً أن الماء لا تخرج من الوعاء. هكذا هو "الإرهاب" في غزة. هل هذا مثالي؟ طبعاً لا. هل هذه السياسة واقعية، طبعاً نعم. وأكثر من ذلك، هذه سياسة جيدة، وهي الأكثر نجاعةً وأمناً من بين ترسانة الخيارات الموجودة لدينا. يمكن أن تؤدي تغييرات كهذه أو غيرها إلى حرب أهلية بين السلطة الفلسطينية و"حماس" مثلاً، وتتغير الأمور. وما دام الواقع مستمراً على ما هو عليه، فإن مصلحتنا هي إدارة الأزمة بمسؤولية وأمان، وبصورة جيدة، وهذا ما قامت به بالضبط حملة "درع وسهم".
الكلمات المفتاحية