لا يوجد ما يبرر "التحذير الاستراتيجي"
تاريخ المقال
المصدر
مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية
تأسس في سنة 1993 على يد الدكتور توماس هيكت، وهو من زعماء اليهود في كندا، وكان تابعاً لجامعة بار إيلان، وأُطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري الذي وقّعه مناحيم بيغن وأنور السادات. يعالج مسائل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والصراعات في المنطقة والعالم. يميل نحو وجهة نظر اليمين في إسرائيل. كما أصدر المركز مئات الدراسات والكتب باللغتين العبرية والإنكليزية.
- أشارت منشورات مراكز أبحاث في مجال الأمن القومي في إسرائيل خلال الأسابيع الماضية إلى وجود "عاصفة مثالية" (انظر مثلاً: التحذير الاستراتيجي لـINSS؛ وماذا تغيّر في عيد الفصح هذا؟ عن معهد IPS)، تندمج فيها أزمات خارجية وداخلية دفعت إلى إصدار "تحذير استراتيجي"، وبحسبه، فإن "مسار التشريع في إسرائيل يؤدي إلى خطر كبير على أمنها القومي." كان يمكن تجاهُل هذه التحذيرات الصادرة عن مراكز أبحاث خارجية لديها أجندات سياسية، لو لم تتغلغل هذه النظرة في أجهزة الأمن، كما جاء في خطاب وزير الدفاع يوآف غالانت في 25 آذار/مارس: "الانقسام الداخلي الذي يتعمق، يتغلغل داخل الجيش وأجهزة الأمن، هذا خطر فوري وحقيقي على أمن الدولة؛" كما تظهر في الحوارات التي تجري بين قيادات الجيش ورؤساء المؤسسات الأمنية والصحافة، وهو ما جاء في صحيفة "هآرتس"، إذ تقدّر شعبة الاستخبارات العسكرية أن احتمال الحرب ارتفع في العام المقبل.
- يستند "التحذير الاستراتيجي" إلى عدة افتراضات مضللة تؤدي، بدورها، إلى ربط عدة مسارات، لا يوجد بالضرورة علاقة عميقة فيما بينها، لتشكل معاً صورة واحدة. المشكلات الأساسية في هذا المسار:
- وهمُ الارتباط: هناك ميل إلى رؤية عدة أحداث منفصلة تبدو مرتبطة، كما كتب دانيال كانمان [حائز جائزة نوبل في الاقتصاد]: "ميلنا إلى التفكير السببي يعرّضنا لأخطاء كبيرة في تقييم مدى ارتباط الأحداث التي تكون في الحقيقة منفصلة" (في كتابه "التفكير بسرعة والتفكير ببطء"، الصفحة 131). بعض الظواهر التي نشهدها الآن تحدث بالتزامن، كنتيجة لأسباب غير مرتبطة، والعلاقة فيما بينها جزئية إلى حد بعيد جداً.
- "تأثير بغماليون" بالمقلوب: يمكن الادّعاء أن "التحذير الاستراتيجي" هو نبوءة تحقق ذاتها لو لم يحدث هنا مسار مقلوب: التقدير "الموضوعي" يطرح خطوات استباقية قامت بها جهات إسرائيلية، بهدف تحقيقها. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى الجهود التي بُذلت للتأثير في دول وجهات خارجية، لتضغط، بدورها، على حكومة إسرائيل، والدعوات إلى رفض الخدمة العسكرية في الجيش، وربط هذه الخدمة بفرض سياسات على الحكومة.
- نقاش ثنائي: كما أشرت في الورقة السابقة (الإصلاحات القضائية كمسار اتخاذ قرارات استراتيجية، الورقة رقم 2183)، فإن أغلبية النقاشات الاستراتيجية في إسرائيل تجري في إطار تنفيذ/عدم تنفيذ خيار استراتيجي واحد. في الحالة التي نتعامل معها، يتم التعبير عن هذا النوع من النقاش عبر مقولات، مثل "يقف رئيس الحكومة اليوم أمام قرار تاريخي، وعليه أن يختار بين بدائل استراتيجية متناقضة،" أو "على رئيس الحكومة... أن يركز الآن على التوصل إلى توافُق واسع وإطار يوقف الأزمة." عملياً، الواقع مركّب من توترات بنيوية في القضايا، وبينها، ويجب البحث في عدة خيارات وإمكانات سياساتية.
- دمج جميع القضايا في حزمة واحدة وضمن منطق مشترك يخلق حالة بلبلة بين السبب والنتيجة، وبالأساس يمنع تشخيص المرونة الممكنة التي تُعَد شرطاً لصوغ السياسات والدفع باستراتيجيا ملائمة للظروف والبيئة المعقدة.
محاولة تقدير أكثر توازناً للوضع الاستراتيجي
- سأحاول في هذا التحليل أن أفصل بين المتغيرات، وأن أشير إلى الأولويات، وأقترح بدائل. وسأقوم بذلك عبر تقسيم "أحمر - أعداء" - "أبيض - شركاء"- "أزرق - إسرائيل"، كما سأطرح أسئلة أكثر من تقديم إجابات.
الطرف الأحمر
- إيران: من المهم النظر بصورة متوازنة إلى وضع إيران التي تعيش عدة أزمات. الوضعان الداخلي والاقتصادي سيئان للنظام، صحيح أن الاحتجاجات والتظاهرات قُمعت بالقوة، إلا إن هذه لا تزال تشكل أزمة بالنسبة إلى النظام في المدى البعيد. في المجال النووي، فإن إيران مستمرة في مراكمة اليورانيوم المخصّب على درجة 60%. وحدوث تخصيب على درجة 84% كان بالأساس "تجربة لأدوات" محلية. أسلوب العمل الاستفزازي - من خلال مساعدة روسيا في أوكرانيا - لم ينجح في إخراج إيران من العزلة الدولية. في الساحة الإقليمية، إن توجُّه إيران العدواني، الذي ينعكس بتفعيل القوة المباشرة وأيضاً استعمال الأذرع، لا يحقق لها أيّ إنجازات واضحة، مثل انضمام دول جديدة إلى معسكرها، أو السيطرة الفعلية على ساحة إقليمية إضافية.
- وفي المقابل، فإن مراكمة المواد المخصّبة تقصّر المدة التي تحتاج إليها للوصول إلى قدرة نووية عسكرية؛ المساعدة العسكرية لروسيا سيكون لها مقابل مقلق على شكل تعاظُم قوة عسكرية وتكنولوجيا؛ والضغط على دول المنطقة، وما يتم التعامل معه على أنه ضعف في الموقف الأميركي حيالها، ولّد حالة جعلت هذه الدول تفضّل احتواء التهديد عبر التفاهمات.
- من الزاوية الاستراتيجية الإسرائيلية، فإن الأسئلة المطروحة للنقاش هي التالية: كيف نجنّد المجتمع الدولي ليستمر في الضغط السياسي والاقتصادي الفاعل، ويمنحنا الدعم المطلوب - من دون أن يتدخل مباشرة- من أجل الدفع قدماً بتغيير داخلي [في إيران] وهو تغيير تحوّل إلى خيار أكثر واقعية من الماضي؟ كيف يمكن تأسيس خيار عسكري مستقل لإلحاق الضرر، بفاعلية، بالمشروع النووي؟ الحديث يدور حول قضايا تحتاج إلى تحضيرات مسبقة قبل أشهر كثيرة. ولا يمكن، وكذلك لا يجب أيضاً التعامل معها بهلع على نمط "تحذير استراتيجي".
- حزب الله ولبنان: تحول حزب الله في الأعوام الماضية إلى الجهة السياسية والعسكرية المسيطرة على الدولة المفككة. هذه ليست بالضرورة أخباراً جيدة بالنسبة إليه. تدريجياً، يتم التعامل معه كجزء من المشكلة أكثر مما هو حلّ، كما تؤثر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العامة فيه، وفي داعميه. هذا بالإضافة إلى أن حزب الله مردوع من إسرائيل، ويمتنع بشكل مستمر من تخطّي الخطوط التي يعتقد أنها ستؤدي إلى تصعيد واسع.
- وفي المقابل، فإننا نشهد تآكلاً في هذا الردع، انعكس فيما حدث في مجدو. الحديث يدور حول مسار تراكمي، ينبع بالأساس من امتناع إسرائيل المستمر من التحرك بقوة في لبنان، بسبب الردع الذي يشكله حجم الصواريخ والقذائف التي يمكنها أن تهدد الجبهة الداخلية؛ إن اتفاق الحدود البحرية مع لبنان وقراءة الحزب للوضع الداخلي في إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، عزّز ثقة الحزب بنفسه وردعه مقابل إسرائيل.
- أما على صعيد الاستراتيجيا الإسرائيلية، فإن الأسئلة كالتالي: كيف يمكن أن تلائم إسرائيل نفسها وفق وضع لا وجود فيه لسيد على الطرف الآخر من الحدود؟ كيف يمكن لإسرائيل أن توقف تآكل معادلة الردع أمام حزب الله، من دون الوصول إلى مواجهة شاملة؟ كيف تستعد إسرائيل لإنجاز عسكري حاسم في الحرب، يخدم الردع ويغيّر الواقع الاستراتيجي في نهايتها؟ هنا أيضاً، الحديث يدور حول الدفع بمسارات للمديَين المتوسط والبعيد، من دون تسرُّع أو هلع.
- الساحة الفلسطينية: الطرفان - السلطة الفلسطينية و"حماس" - يعيشان أزمة عميقة. "حماس" لم تنجح في تحسين وضعها الاقتصادي المعقد في غزة، والردع الإسرائيلي في مواجهتها كافٍ أكثر من الماضي ليمنعها من تحويل الضغط الجماهيري عليها إلى جولة عسكرية ستُلحق الضرر بقدراتها العسكرية. أما السلطة، فإنها في حالة تراجُع وانتظار لنهاية عهد أبو مازن، وتخلت عنها الجهات الإقليمية والدولية التي فقدت الاهتمام بها، وهي مشغولة بالصراعات الداخلية في اليوم الذي سيلي عهد أبو مازن. وفي الوسط، هناك المجتمع في الضفة الغربية، المحبط من هذه الحال، وشبابه وصلوا إلى مرحلة اليأس و"التطرف" بدفع من "حماس" أيضاً. هذا ما تم التعبير عنه خلال العام الماضي، عبر العمليات الفردية والخلايا الصغيرة. الطرفان يستغلان المسجد الأقصى، ويحرضان ضد إسرائيل، بهدف تحسين وضعهما المتراجع في أوساط المجتمع. "حماس" تحاول أيضاً فتح جبهة إضافية من لبنان، ولكنها تخضع هناك لِما يفرضه حزب الله، غير المعني بالتصعيد الكبير مع إسرائيل.
- الثمن الذي تدفعه إسرائيل هو "إرهاب" مستمر، أغلبيته تُحبط بواسطة عمليات استخباراتية وعملياتية مشتركة لـ"الشاباك" وشعبة الاستخبارات العسكرية والوحدات الخاصة للشرطة والجيش. كل ضحية في عملية هي عالم كامل، لكن وعلى الرغم من الألم العميق، فإنه يجب الإشارة إلى أن تعامُل قوات الأمن مع احتمالات "الإرهاب" تتلاءم مع التحدي، ومذهلة من حيث الإنجازات.
- على صعيد التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي، فإن الأسئلة كالتالي: كيف يمكن جعل الساحة الفلسطينية تستقر بشكل نسبي، عبر الدمج بين خطوات اقتصادية تحسّن وضع المجتمع والردع من خلال عمليات التصدي الفاعل، ومن دون دفع ثمن سياسي والتنازل عن أرصدة إسرائيلية في الميدان؟ كيف يمكن الدفع نحو الاستقرار النسبي هذا في مرحلة ما بعد أبو مازن؟ وهل يمكن الخروج من حالة استقرار نسبي كهذه إلى خطوة بعيدة المدى لتفاهمات موقتة تأخذ المصالح الإسرائيلية بعين الاعتبار؟
- يبدو من التحليل المختصر للطرف الأحمر، أننا يمكن الفهم بأن الحديث يدور حول اتجاهات طويلة المدى، وليس تغييرات سريعة جديدة وجوهرية، يجب التعامل معها برؤية بعيدة الأمد وبناء بدائل سياساتية وعملية عسكرية بنيوية وثابتة.
- بُعد إشكالي آخر هو استعمال مصطلح "تعدُّد الساحات". الذي حلّ في الآونة الأخيرة محل "متعدد الأبعاد". عملياً، هناك محاولات من الأعداء للتنسيق فيما بينهم، وأن يساعدوا بعضهم البعض على تعزيز القوة، وحتى العمل من مناطق بعضهم البعض. ولكن، يجب الإشارة إلى أن عملية "متعددة الساحات" هي هامشية لدى هؤلاء الأعداء (باستثناء سيناريو واحد هو حرب كاملة مع حزب الله نتيجة مواجهة مع إيران). وعلى الرغم من ذلك، وما دام لا يوجد تغيير جوهري في صورة الوضع الاستراتيجي، فإنه من الأفضل التعامل مع هذه التحديات والرد عليها، كلٌّ على حدة، كتهديد قائم بحد ذاته.
الطرف الأبيض
- الولايات المتحدة: العلاقات بين إسرائيل والحزب الديمقراطي تغدو أكثر تعقيداً منذ سنوات طويلة، وبسبب التطرف الداخلي الأميركي، وصلت إلى حالة باتت هناك فئات داخل الحزب يمكن القول إنها ضد إسرائيل بصورة واضحة. في المقابل، الوضع مع الحزب الجمهوري أفضل بكثير، ولكن تتطور فيه أيضاً اتجاهات متطرفة لن تكون داعمة لإسرائيل بالضرورة. ولذلك، هناك ارتفاع في مستوى "اللا سامية" لدى كلا المعسكرين. وهو ما يتعزز عندما تكون هناك إدارة ديمقراطية وحكومة يمين إسرائيلية. وهنا يجب الإشارة إلى أنه خلال الأزمات الأصعب بين الدولتين (بولارد، الضمانات، ونهاية حرب لبنان الثانية)، كانت تتولى الحكم حكومات متعددة في إسرائيل إزاء إدارات جمهورية. ويمكن أن نضيف إلى صورة الوضع الحالي الحملات المنظمة من المعارضة الإسرائيلية لتجنيد جهات في الولايات المتحدة للضغط على الحكومة.
- على صعيد الاستراتيجيا الإسرائيلية، فإن الأسئلة كالتالي: كيف يمكن لإسرائيل أن تتجهز وما عليها القيام به، تحضيراً للرئيس الديمقراطي المقبل، إذ يوجد احتمال كبير ألا يكون من أوساط المعسكر الداعم لها والآخذ في التراجع في أوساط الحزب؟ كيف يمكن لإسرائيل منع أزمة مع الديمقراطيين خلال ولاية ممكنة لرئيس جمهوري؟ هل على إسرائيل المبادرة إلى تقليل اعتمادها الأمني - بالأساس في مجال الموارد - على الولايات المتحدة؟ هل على إسرائيل البحث في توسيع اعتمادها على القوى العظمى - بما معناه تنويع الاعتماد المركزي على الولايات المتحدة (ألمانيا؛ الهند)؟
- دول الإقليم: ما نشهده أمامنا هو دينامية شرق أوسطية طويلة الأمد. الاتفاق بين السعودية وإيران، بوساطة صينية، والموقف النقدي للإمارات حيال إسرائيل على صعيد القضية الفلسطينية هما تذكير لِما هو واضح في الشرق الأوسط الذي تشوش فهمه الإسرائيلي بسبب قوة "اتفاقيات أبراهام": ليونة كبيرة جداً في التعامل مع الأعداء والأصدقاء (Frenemies). تغييرات في الصورة العامة ستدفع إلى ما يبدو أنه تغييرات سياساتية، لكنها في الحقيقة تعديلات للسلوك. السعودية تستغل التقارب مع الصين كورقة ضغط للدفع بمطالبها من الولايات المتحدة، أمّا الإمارات، فعينها على الرأي العام العربي، بهدف تقليل الانتقادات الموجهة إليها بسبب الاتفاق مع إسرائيل.
- على صعيد التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي، فإن الأسئلة كالتالي: هل يمكن أن تتضمن آفاق العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية تقارباً علنياً مع إسرائيل، وأي ثمن سيكون لذلك؟ أي قيود سـتفرضها دول الخليج على نفسها - إذا كانت موجودة أصلاً - بالصراع ضد إيران، لتحافظ ظاهرياً على المصالحة معها؟ كيف تؤثر الإجابات عن هذه الأسئلة في إسرائيل، وفي مرونة عملها في المنطقة؟
- في الخلاصة، إن الحديث في الجانب الأبيض يدور أيضاً حول مسارات طويلة المدى، تبدو واضحة أكثر في الوضع الحالي. تحليل الجانب الأبيض يطرح فرصاً واضحة - لا يمكن تفصيلها هنا - على نمط تقارُب أمني بين الدول الأوروبية وإسرائيل بسبب الحرب في أوكرانيا.
الطرف الأزرق
- التغيير الأكثر أهميةً في الفترة الأخيرة جرى في الطرف الأزرق. ويمكن تشبيه الوضع بالقطار في نظرية النسبية لآينشتاين: المشهد (الأحمر والأبيض) يتغيّر بسرعة كبيرة، لأن القطار (الأزرق) زاد في سرعته. في الأشهر الأخيرة، سقط الكثير من الأقنعة في النقاش الإسرائيلي، والمساحة الرمادية ومساحة الاتفاق وعدم الاتفاق تقلّصت كثيراً.
- الظواهر السياسية والاجتماعية التي برزت على السطح كثيرة، ولها إسقاطات كثيرة أيضاً، ومن بينها: مظاهر العنصرية وكراهية النساء والاستعداد للقيام بخطوات متطرفة؛ إبطال تشريعات بصورة شخصية وإصدار تشريعات شخصية على حساب النهج الحكومي ومصلحة الدولة؛ جهود لفرض حقائق على الأرض في الضفة، بدلاً من النقاش العميق في سياسات إسرائيل؛ أزمة الجريمة وصعوبة فرض القانون والنظام في مناطق داخل الدولة؛ عدم وجود استعداد وتمسُّك للمؤسسة القضائية بمكانتها الخاصة، الأمر الذي يُلحق الضرر بالتوازن بين السلطات؛ استعداد مجموعات ضغط ومصالح (رجال أعمال، الهستدروت، وأصحاب المهن الحرة) لتفعيل ضغوط بشكل وقح ومشكوك فيه قانونياً، بهدف الدفع بأجنداتهم الخاصة؛ تفكُّك وسائل الإعلام والصحافة المركزية التي تتظاهر بالمهنية والأخلاقيات الصحافية، لكن الدفع بأجندات سياسية واجتماعية تحوّل إلى شغلها الأساسي.
- هذا كلّه يفرض حواراً جديداً بشأن العقد الاجتماعي الإسرائيلي، وبناء الإجماع من جديد بشكل رسمي وغير رسمي (المناطق الرمادية)، وذلك لإعادة تحديد سبُل حياة مشتركة في دولة إسرائيل. سيكون لهذا الحوار الجديد تأثير جدّي في الأمن القومي أيضاً.
- جيش الشعب: العقد الاجتماعي بين المجتمع والجيش، والذي يتجلى في روحية "جيش الشعب"، تحطم، حتى أنه انهار. من جهة، هناك اقتراح "قانون التجنيد" وقانون أساس التعليم التوراتي الذي يمأسس الوضع قانونياً، ويساوي بين الخدمة في الجيش، أو الامتناع من الخدمة. ومن جانب آخر، فإن الدعوة إلى الامتناع من الخدمة، والصادرة عن جهات ضغط من أجل الدفع بقيم (بغض النظر عن التبريرات) تطرح أسئلة وشكوكاً كبيرة بشأن الالتزام بالخدمة العسكرية - وليس فقط في وحدات الاحتياط- يوم صدور الأوامر، والأهم خلال التحضير لهذا اليوم. من جهة، يفقد الجيش شرعيته في فرض التجنيد الإجباري لأن الامتناع من الخدمة يساوي الالتزام بها؛ ومن جهة أُخرى، لا يستطيع الجيش الاعتماد على هؤلاء الذين تجنّدوا، وذلك لأنه من الممكن ألا يلتزموا بالخدمة بسبب أجندات خارجية عند الحاجة إليهم. في هذه القضية أيضاً، هذه التوجهات كانت معروفة منذ أعوام، والوضع الحالي أبرزها بقوة. هنا أيضاً توجد فرصة للدفع بحوار حقيقي والقيام بتغييرات مطلوبة في مجال الخدمة.
- على صعيد التوجُّه الاستراتيجي الإسرائيلي، فإن الأسئلة هي كالتالي: كيف يمكن بناء جيش ذي قدرة موثوق بها وجاهزية، عندما يكون موضوع التجنيد بحد ذاته والاستمرار في الخدمة العسكرية في موضع تساؤل؟ وما هو العقد الاجتماعي والنماذج الأُخرى من الخدمة العسكرية التي تفرضها الحاجة إلى قيام مثل هذا الجيش؟
- تلاعُب المؤسسة الأمنية: أحداث الأشهر الأخيرة تشير إلى عملية تلاعُب فكرية يقوم بها مسؤولون سابقون رفيعو المستوى في المؤسسة الأمنية. وفي الإحاطات التي يقدمونها إلى الصحف، يبدو أنها تعكس جزئياً ما يفكر فيه الرؤساء الحاليون في المؤسسة الأمنية. وليس المقصود هنا التقاء في وجهات نظر سياسية ومهنية أمنية، بل أيضاً سمات لتفكير جماعي، وهو ما يطرح تساؤلات عن القدرة على الفحص العميق لبدائل مبتكرة من السياسات.
- بالنسبة إلى التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي، فإن الأسئلة المطروحة للنقاش هي: كيف يمكن إنشاء أجهزة تضمن تعدُّد الآراء في المنظومة الأمنية، بشكل يسمح بعرض عدد من الاحتمالات وطرق عمل أمام متّخذي القرارات؟ كيف يمكن استكمال المرونة والإبداع اللذين ظهرا لدى المستوى العملياتي والتكتيكي - كما ثبت مرة أُخرى في التعامل مع "موجة الإرهاب" في الضفة - على مستوى الاختراعات التكنولوجية وآليات النقاش الاستراتيجي، وهو ما يسمح بمرونة مشابهة على هذا المستوى؟
إذاً، ما المطلوب مع هذا التقدير؟
- بحث صورة الوضع في الجانبين الأبيض والأحمر يشير إلى أننا نشهد اتجاهات مستمرة تزداد فيها التحديات (وإلى جانبها أيضاً الفرص) أمام دولة إسرائيل، عُرض جزء منها فقط في هذه الورقة. وإلى جانب ذلك، تطورت في الآونة الأخيرة أزمة في الجانب الأزرق. هذه الأزمة هي أيضاً نتيجة اتجاهات عميقة في المجتمع الإسرائيلي، وليست ناجمة عن ظواهر جديدة، بل عن نزع للأقنعة التي كانت موجودة.
- وعلى الرغم من ذلك، فإن الحديث لا يدور حول "تحذير استراتيجي"، أو تغييرات جذرية. هذه الاتجاهات تتطلب حواراً معمقاً بشأن الاستراتيجيا وطرق العمل في مجمل القضايا المهمة، وتحسيناً مستمراً للقدرات على العمل في حالات الطوارىء. ويجب التشديد هنا على أن هذا لا يلغي احتمال التصعيد في إحدى الساحات نتيجة انفجار ناتج من تراكُم عدة أحداث محلية، ولكن هذا خطر يجب دمجه ضمن الصورة العامة، وفي جميع الأحوال، فإن أجهزة الأمن تستعد لمواجهته.
- في هذا الوضع، يجب الامتناع من اتخاذ قرارات متسرعة نابعة من الاندفاع، ولذلك، يجب القيام بثلاثة مسارات أساسية منظمة:
- التركيز على الحوار الداخلي الحيوي: دافيد بن غوريون، الذي يكثرون من اقتباس أقواله في الآونة الأخيرة (والذي، بالمناسبة، رفض التشدد في الليونة من خلال القانون والرقابة القضائية على القوانين)، منح الأولوية بشكل واضح لتقديم الحاجة الاجتماعية - الاقتصادية على الحاجة الأمنية. وإعطاء الأفضلية للمواطنين على الوضع الأمني، كان السبب الكامن وراء إقالة قائد هيئة الأركان الثاني، يغآل يادين، بسبب الضرر الذي لحِق بموارد الجيش. وفي الوضع الحالي أيضاً، يبدو أن القضايا الأمنية ستتراجع لمصلحة مسارات التغيير والحلول الضرورية المطلوبة في المجتمع الإسرائيلي لعدة أشهر حتى إيجاد حلّ متفق عليه، أو على نمط جديد من العيش (المناطق الرمادية الجديدة)، إن ذلك لا يؤدي إلى حلّ جميع القضايا، ولكنه يمكن أن يشكل أساساً للحياة المشتركة.
- حوار معمّق بشأن القضايا الاستراتيجية في المديَين المتوسط والبعيد: خلال هذه الأشهر، سيكون من الجيد قيام المؤسسة السياسية - الأمنية بالدفع بحوارات استراتيجية تتعلق بالقضايا الاستراتيجية المهمة المطروحة أمام إسرائيل، والتي تم تفصيلها سابقاً، وطرح كل البدائل وطرق العمل المطروحة، بشكل يسمح للمستوى السياسي باتخاذ القرار الأفضل، في ظل القيود والظروف الحالية. إن الفصل بين القضايا الداخلية وبين القضايا الخارجية، وإعطاء الأولوية للأولى على الثانية، سيؤثران بصورة واضحة في تقدير التحديات بشكل أكثر توازناً، وبالأساس، يجب التغلب على التفكير المضلِّل الذي يتعزّز عندما يتم الربط بين القضايا بصورة إشكالية.
- الجهوزية المنظمة للتحديات المتوقعة في المدى المتوسط: يجب الامتناع من دفع الجيش وأجهزة الأمن نحو الجهوزية الفورية، وتفضيل خطوات منظمة للاستعداد لمواجهة التحديات والأزمات المحتملة، بشكل يمنح المستويات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية الوقت الكافي لبناء القدرات وتجهيز الأرضية لتحقيق أفضل الإنجازات.