ما يحدث في جنين لا يبقى في جنين
تاريخ المقال
المصدر
- المواجهات العسكرية الأخيرة في منطقة جنين، حصلت على اهتمام واسع في المجتمع الإسرائيلي، وبحق. إلا إن نقاش الموضوع يتركز بالأساس على التهديدات العسكرية جرّاء هذه الاشتباكات في هذه المنطقة-وعلى رأسها تفجير العبوات الناسفة ذات القوة الكبيرة ضد قوات الجيش، ومشاركة طائرات حربية في المواجهات، للمرة الأولى منذ الانتفاضة الثانية، أكثر مما يركز على البعد الاستراتيجي للتحدي الكامن في جنين بصورة خاصة، وفي الضفة بصورة عامة.
- الأيام الأخيرة عززت الاتجاه المستمر منذ عدة أيام، وفي إطاره، تشكل منطقة جنين التحدي المركزي الأمني في الضفة، التي تتحول تدريجياً إلى منطقة تسيطر عليها "الميليشيات" العسكرية، وضمنها شبكات تابعة لـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وفي الوقت عينه، يتراجع تأثير السلطة ووجودها فيها. التهديدات الحالية تضاف إلى تهديدات على شكل إطلاق نار مستمر على البلدات في المناطق الإسرائيلية، واستعمال القناصة، ومحاولات أولية، ليست فعالة حتى الآن-لتصنيع قذائف وإطلاقها على المستوطنات الإسرائيلية.
- هناك عدة أسباب وراء تحوُّل منطقة جنين، وبالأساس مدينة جنين، إلى رأس حربة في التوتر الأمني في الضفة الغربية خلال الأعوام الماضية: الرواية القديمة التي تفيد بأن شمال الضفة برمته هو مركز تمرُّد ضد السلطات الحاكمة (بدءاً من نابليون الذي أحرق المدينة بعد احتلالها، مروراً بالبريطانيين الذين قاتلوا الخلايا التي قادها عز الدين القسّام في المنطقة في ثلاثينيات القرن العشرين، وصولاً إلى السلطات الأردنية)؛ التنسيق الواسع منذ أعوام طويلة بين الأذرع العسكرية لكافة الفصائل على أساس عشائري، أو على أساس مناطق وحارات مشتركة؛ والتركيبة الاجتماعية للمنطقة، وعلى رأسها مخيم جنين الذي يعيش فيه نحو 11000 نسمة (الثاني من حيث الحجم في الضفة)، والمنطقة الريفية المحيطة الواسعة التي تصعّب على سلطة رام الله فرض سيادتها عليها.
- تنضم إلى هذه الأسباب القديمة عدة أسباب راهنة يجب أن ينتبه لها متّخذو القرار في إسرائيل. وعلى رأسها: الضعف المستمر للسلطة الفلسطينية، التي لا تزال تسيطر على أغلبية مناطق الضفة، لكن صورتها الجماهيرية تتراجع، وهناك علامات سؤال بشأن مستقبلها في مرحلة ما بعد أبو مازن؛ تعزُّز قوة "حماس" التي تستغل الفراغ الحكومي في شمال الضفة لتعزيز قوتها، من خلال الإثبات أن لديها القدرة على الدفع بالمقاومة المسلحة في الساحات المريحة لها- ليس غزة- وفرض هذا التقسيم على إسرائيل؛ الأزمة العميقة لدى الجيل الفلسطيني الشاب الذي تعيش أغلبيته من دون أمل، وهو مكشوف على التحريض المتفلت، وينضم بشغف إلى بنى "الإرهاب"، أو يؤسس بنى كهذه، التي بدورها تزعزع حُكم السلطة، وتعمّق الفوضى في مناطق الضفة الغربية.
- التوتر في جنين لا يستوجب دراسة أمنية فقط، بل استراتيجية أيضاً. الأحداث تعكس مشاكل أساسية خطِرة على صورة فراغ حكومي، وارتفاع في التهديدات "الإرهابية"، وتعزيز مكانة "حماس"، وفي الخلفية أيضاً محاولات تدخُّل إيرانية (التي لا يجب المبالغة في تأثيرها أكثر من اللزوم). كل هذه الأمور يمكن أن تتمدد إلى مناطق أُخرى في الضفة، وهو أمر يمكن ملاحظته منذ الآن بصورة واضحة في نابلس، وبصورة محدودة أكثر في طولكرم وأريحا، وفي الوقت نفسه، زعزعة مكانة السلطة وخلق واقع فيه العديد من التهديدات لإسرائيل في وقت قصير نسبياً.
- ولأن الحديث يدور عن تحدٍّ استراتيجي، فعلى إسرائيل تحليله مع أبعاده المختلفة. التهديد المتصاعد من جنين يدفع، كما يبدو، إلى عملية عسكرية واسعة أكثر، وتكون موجهة بالأساس ضد البنى العسكرية المنظمة في المنطقة، وخاصة تلك التابعة لـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي". وعلى الرغم من ذلك، وبالاستناد إلى خبرة الماضي، فإنه يجب الاستعداد لأن هذه الخطوة يمكن أن تتعقد: وأن تستغرق وقتاً أطول مما خُطط لها؛ وأن يكون هناك حاجة إلى ايجاد حلّ لمشكلات المجتمع في المدينة (تقريباً 65000 نسمة)؛ وأن تؤثر سلباً في مناطق أُخرى، وضمنها مناطق قابلة للاشتعال في الضفة، لكن في غزة أيضاً، وفي أوساط المجتمع العربي في إسرائيل، ومن الممكن أيضاً في لبنان.
- لذا، هناك حاجة إلى نقاش أساسي على المستوى الاستراتيجي. يمكن تعريف الاستقرار في الضفة اليوم بأنه محفوف بالمخاطر ويتعرض لتهديد كبير، لكنه ما زال يُعتبر رصيداً لإسرائيل العالقة في أزمة داخلية حادة، وعليها تركيز جهودها وانتباهها على التهديدات الخارجية الكبيرة، وعلى رأسها التهديد الإيراني. هذا الاستقرار النسبي يفرض الحفاظ على وجود السلطة الفلسطينية التي على الرغم من المشاكل التي تعانيها واستفزازاتها لإسرائيل، فإنها لا تزال الأفضل بين الخيارات السيئة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار البدائل التي ستفرضها الفوضى الواسعة في الضفة، وسيطرة "حماس" على المنطقة، أو سيناريو الرعب الذي يفرض على إسرائيل التدخل لملء الفراغ، لتتحول مرة أُخرى إلى الحاكم الفعلي المسؤول عن أكثر من مليوني فلسطيني، وهو ما يعني دولة واحدة عملياً.
- تقوية السلطة هو مصطلح واسع في التصريحات أو الكتابات، لكن ترجمته الفعلية معقدة. لأنها لا ترتبط فقط بإسرائيل، إنما أيضاً تتعلق بما تقوم به قيادات السلطة نفسها، التي لم تتغير منذ 20 عاماً تقريباً، ومعزولة عن شعبها، وفاسدة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يمكن لإسرائيل أن تساهم في استقرار السلطة في الوقت الحالي، من خلال 5 خطوات:
- الامتناع من فرض العقاب الاقتصادي الذي سيضرّ بأداء النظام الفلسطيني، صورته ومكانته وحاجة السكان إليه.
- الاستمرار، وحتى الإسراع في الخطوات الاقتصادية التي تساهم في إخراج أغلبية المجتمع الفلسطيني من دائرة "العنف"-بما معناه الحذر من "الإفراط في التمييز"-أي الدفع بتسهيلات تعزز حاجة المجتمع الفلسطيني المباشرة إلى إسرائيل، وذلك عبر دمج السوق الفلسطينية بالإسرائيلية.
- إعادة النظر في تسريع البناء الاستيطاني في الضفة حالياً، وهي خطوة يمكن أن تؤدي إلى أزمة في العلاقة بالمجتمع الدولي، وخاصة الإدارة الأميركية والدول الشريكة في "اتفاقات أبراهام "، وأيضاً إلى رد حاد من السلطة، وبصورة خاصة العودة عن اتفاقيات "أوسلو"، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى زعزعة إضافية في الواقع الأمني الصعب في الضفة.
- زيادة الجهود ضد "حماس"-فرض قيود على عمل الحركة في الضفة على كافة الصعد، وتدفيعها الثمن الحقيقي في مجال "التسهيلات" التي تدفع بها إسرائيل مقابل غزة، وهي الساحة التي منها تدفع "حماس" بخطوات "إرهابية"، وتحرّض بقوة في ساحات أُخرى.
- حتى الآن، لا حاجة إلى القيام بخطوات شبيهة بحملة "السور الواقي" (2002). في أغلبية مناطق الضفة لا يوجد توتر أمني شبيه بالموجود في شمال الضفة، والدخول الواسع لقوات الجيش إلى كافة المدن في الضفة سيعزز التهديدات الأمنية، ويمكن أن يؤدي إلى نهاية السلطة الفلسطينية.
- إذاً، يجب أن يكون التوتر الأمني في جنين بمثابة صافرة إنذار استراتيجية لإسرائيل، وليس فقط بسبب التهديدات الأمنية التي يمكن أن تتصاعد، بل بسبب التغيير الدراماتيكي الذي يمكن أن يحدث في الخريطة السياسية الفلسطينية برمتها، وينعكس على غزة، وعلى الوضع الداخلي الإسرائيلي، وإلى حد ما، على هويتها الأساسية. يجب تطوير نقاش اجتماعي سياسي وجماهيري عميق-غير موجود تقريباً-بشأن مستقبل العلاقات مع الفلسطينيين، وبصورة خاصة صوغ استراتيجيا معمقة وبعيدة المدى لهذه القضية الوجودية.