تأثير المعركة بين الحروب في جاهزية الجيش للحرب
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– نشرة خاصة عن المعركة بين الحروب
  • المعركة بين الحروب هي التعبير الأوضح عن القدرات المتقدمة لإسرائيل - الجيش وأجهزة الاستخبارات - للحصول على استخبارات دقيقة وتحويلها إلى عملية دقيقة. في الأعوام العشرة الأخيرة، تحدثت تقارير عن ضرب أهداف بنوعيات مختلفة، بدءاً من قافلات نقل أسلحة، وصولاً إلى حقائب وصلت إلى مطار دمشق الدولي، مع التشديد على إلحاق الضرر بالهدف ذاته والامتناع من إلحاق الضرر بحياة الناس، إذا اتُّخذ قرار بشأن ذلك - بهدف الحفاظ على الخطوط الحمراء التي وضعها الطرفان بمرور الوقت.
  • هذه الضربات ساعدت على تحقيق الهدف المركزي كما تم تعريفه - إلحاق الضرر بقدرات العدو وإحباط نياته، من دون الانجرار إلى حرب كبيرة. من الواضح أن "عضلات" المنظومات العملياتية التي تعمل في إطار المعركة بين الحروب - وحدات الاستخبارات، سلاح الجو، والمسؤولون عن تفعيل السلاح الدقيق، وحتى الذين يعملون في مجال التنسيق لمنع الاحتكاك (deconfliction) مع جهات أُخرى، مثل روسيا- كلهم تطوروا جداً، حتى باتت لديهم القدرة على تنفيذ عدة ضربات، ومع ثقة كبيرة من متّخذي القرار بقدرات الجيش على تنفيذ المهمة.
  • ولكن ما حدث في المقابل، هو أن الفجوة توسعت بين "جيش المعركة بين الحروب" و"جيش الحرب". والحديث هنا لا يدور فقط عن الاستثمار الهائل للموارد بالمال والقوى البشرية، إنما تركيز القيادة بطبيعة الحال على "المعركة التي تجري الآن". وبصورة لا تقل أهمية، جرى التعود على معايير السيطرة الاستخباراتية المطلقة، والقدرة على العمل بصورة دقيقة وجراحية، وذلك بالاستناد إلى عمليات خالية من خطورة الاشتباك القريب (stand in)، مع التشديد على صفر مصابين من قوات الجيش. إلاّ إن هذا كله لم يحدث في سيناريو معركة واسعة، والسؤال هو كيف، وهل سيستطيع الجيش وقياداته أن يلائموا أنفسهم في الوقت المناسب عندما تكون المهمة أكبر وأكثر أهمية.
  • أغلبية جنود الجيش وبناه لا تتدخل في المعركة بين الحروب. وعلى عكس الأمثلة السابقة - التي أظهرت معايير عالية وقدرة قتالية وعدم قبول عدم تنفيذ المهمة، وهي المعايير التي قُرِّرت في الوحدات الصغيرة في عمليات انتقامية ضمن إطار المعركة بين الحروب، تغلغلت سريعاً في الجيش برمته- يوجد في المعركة بين الحروب نوع من أنواع "الدلال" التكنولوجي والاستخباراتي والعملياتي، وهو ما يعمّق الفجوة بين الجهات التي تعمل في إطارها، وبين تلك التي لا تشارك فيها ، وعلى رأسها سلاح البر.
  • وفي هذا السياق، من المهم التذكير بأقوال كلٍّ من رئيس قسم العمليات السابق في الجيش الجنرال نيتسان ألون والباحثة في مركز أبحاث الجيش دانا فريزلر - سويري، إن من "حسنات المعركة بين الحروب قدرتها على شحذ قدرات عملياتية معينة، وفي ظروف خاصة تراكم الخبرة في الاشتباك. لكن أغلبية القوات في الجيش لا تتدخل فيها. أولاً، في المعركة بين الحروب، تعمل مجموعات محددة داخل سلاح الجو، ومن وحدة الاستخبارات العسكرية أيضاً، ومن هيئة الأركان، بالإضافة إلى مجموعات صغيرة جداً من سلاحيْ البحر والبر. لذلك، يمكنها خلق وهم معين بأن الجيش يعمل، وينجح، ويتطور ويتعلم، ولكن هذا كله محصور بفئات صغيرة ومحددة جداً داخل الجيش؛ وثانياً، أيضاً في أوساط الفئات التي تعمل في إطار المعركة بين الحروب، حتى في أوساط الجهات الفاعلة، لا يوجد تشابه بين الانشغال والتركيز في أوساط سلاح الجو وشعبة الاستخبارات المركزية بالتحضير لضربة محددة، حيث التحضيرات المستمرة، ويكون كل التركيز والقدرات موجهاً للحصول على نتيجة مثالية، وبين ظروف الحرب".
  • هناك عدة أمثلة تعكس هذا التخوف. خلال الانتفاضة الثانية، وفي سنوات قتال الجيش ضد "الإرهاب"، تجاهلت قيادات الجيش كل مَن سأل متى تدرب الجيش والمقاتلون والضباط فيه على تنفيذ عمليات واسعة، أو حتى متى كانت آخر مرة قاد فيها جنود المدرعات دباباتهم في إطار تدريب. حينها، ادّعت قيادة الجيش أن المواجهة في الضفة جعلت الكثيرين من الجنود تحت النار، وهو ما خلق جاهزية للحرب تفوق تلك التي يمكن تحقيقها في التدريبات. وعندما طُلب من الجيش أن ينتقل إلى "جو الحرب"، حتى لو كانت حرباً محدودة نسبياً، كحرب لبنان الثانية [حرب تموز/ يوليو 2006]، برزت صعوبات كبيرة على مستوى الأفراد، والطواقم وأيضاً في أطر أوسع.
  • وفي سياق مختلف، لكنه قريب، فإن حقيقة أن سلاح الجو لا يتعامل مع أسلحة جو منافسة منذ عشرات الأعوام، واعتاد العمل في إطار صفر مشاكل وصفر إصابات، خلقت هالة حولت أي ضرر يلحق بطائرة من دون طيار إلى حدث يمكنه تغيير مسار اتخاذ القرارات، وحتى أنه يخلق للعدو "صورة انتصار". خلال حرب لبنان الثانية، عمل سلاح الجو في ظل قيود كبيرة، ألحقت الضرر بقدرته على مساعدة القوات البرية بصورة جدية؛ سقوط مروحية "يسعور" في الوقت الذي كانت تنقل القوات خلال المرحلة الأخيرة من الحرب، أوقف المناورة برمتها. وحتى في سياق الحرب الروسية - الأوكرانية، فقد جاء (على لسان مسؤولين كبار) أن إمكانية إسقاط طائرة تابعة لسلاح الجو على يد الروس هي خطر يجب أن يؤثر في سياسة إسرائيل في حدث دولي له إسقاطات سياسية بعيدة المدى.
  • المعركة بين الحروب شجعت على التفكير في أن التفوق التكنولوجي سيحل كل المشاكل، ولذلك، يجب دمجه أيضاً في الظروف التي هناك شك فيما إذا كان سيعمل فيها بصورة مثالية، وعلى رأسها المناورة البرية. وكما عبّر ضباط الجيش بعد حرب لبنان الثانية عن الصعوبة التي واجهوها عند الانتقال من العمل في الضفة إلى قتال العدو في معركة، يقوم الجيش الآن بالبحث في حلول تكنولوجية سحرية للمناورات العسكرية، إذ ثمة شك فيما إذا كانت ستعمل أصلاً في ظروف فوضى الحرب.
  • أما على الصعيد المادي، فإن "معركة التسلح" التي تطورت خلال المعركة بين الحروب - حيث يزيد الجيش في نوعية التسليح المكلف والبعيد المدى كلما ازدادت قدرة العدو  في مجال اعتراضها، حتى بات الجيش يستعمل الآن وسائل كانت تُستعمل سابقاً لإصابة الطائرات ذاتها - تم ذكرها كعامل مهم أدى إلى ما أُطلق عليه اسم "أنوراكسيا" لدى الجيش، تلحق الضرر بإنتاج المخزون المطلوب من التسليح للحرب. ومن دون الدخول إلى أرقام محددة، فإن مضاعفة الرقم الذي طرحه الجنرال في جيش الاحتياط أمير إيشل (ثلاثة أصفار) إلى الكميات المطلوبة للتأكد من إصابة الأهداف، كي نفهم أن الحديث يدور عن أرقام يجب أخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن الكمية التي يحتاج الجيش إلى تخزينها، تحضيراً لسيناريو الحرب الذي يستعد له.
  • أخيراً، والأهم من كل شيء أيضاً، فإن التعليمات العليا (غير المعلنة، ولكن الواضحة عملياً) للمعركة بين الحروب، وتنص على "كل شيء إلا الحرب" يمكنها أن تضر بقاعدة صاغها كلٌّ من ألون وفرايزلر - سويري، وبحسبها، فإن "مَن يريد المعركة بين الحروب، عليه أن يتجهز للحرب". حتى أنه تم توسيعها بالقول إنه "من الضروري خلق ردع يفهم من خلاله الطرف الآخر أنه في حال تطور التصعيد إلى مستوى حرب، فإن إسرائيل ستنتصر فيها. فكرة المعركة بين الحروب هي التوقف قبل الانجرار، ولكن من موقع قوة. لذلك، في حالة التصعيد، يجب على الطرفين الاقتناع بأن إسرائيل ستنتصر في نهاية المطاف (في حالة حرب، وفي حالة تصعيد محدود)... الهدف المركزي للمعركة بين الحروب يجب أن يكون الاستعداد  للتصعيد، وللحرب الشاملة". ولكن، يبدو من التحليل السابق أن هناك شكوكاً لدى الأطراف اليوم في أن هذه فعلاً ستكون نتيجة المواجهة الممكنة.
  • ليس فقط قيادات الجيش تعتاد على أن منع الحرب هي الأوامر العليا وراء كل عملية، إنما العدو أيضاً يفترض أن إسرائيل ستقوم بكل شيء ممكن للامتناع من القيام بها، ويجد طرقاً خاصة به لإحباط جزء من أهداف المعركة بين الحروب، وحتى أنه يتجهز للحرب برعاية الخطوط الحمراء التي تقبلها إسرائيل. المثال الأفضل لذلك هو نقل عملية تصنيع الصواريخ الدقيقة إلى داخل لبنان؛ التزود بمنظومات دفاع جوي تصعّب العمل جوياً (stand in) في وقت معركة كبيرة؛ والجرأة الآخذة بالازدياد لدى حزب الله في استعمال القوة، كإطلاق مسيّرة في اتجاه منصة الغاز "كاريش" قبل توقيع الاتفاق البحري بين إسرائيل ولبنان. بكل هذه الأبعاد، النظرية والمادية، هناك تأثير سلبي للمعركة بين الحروب في جاهزية الجيش للحرب. 
 

المزيد ضمن العدد