الهجوم في عمق سورية يلمّح إلى استراتيجيا إسرائيلية-أميركية جديدة في إدارة الحرب
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- الهجوم الذي وقع يوم الثلاثاء ضد أهداف إيرانية في عمق سورية، والمنسوب إلى إسرائيل، أثار القليل من الاهتمام، كما لو كان أمراً عادياً. ووفق تقارير في وسائل الإعلام السورية، قُتل في الهجوم 6 أشخاص "يحملون جنسية غير سورية" و4 مواطنين سوريين. أشارت وكالات الأنباء إلى أن الهجوم استهدف ضرب خط تهريب السلاح من إيران إلى لبنان، لكن هذه الوكالات تحدثت أيضاً عن أن الهجوم لم يكن عادياً، لأن إسرائيل، عموماً، تهاجم أهدافاً في وسط سورية وجنوبها، ويبدو هذه المرة أن هدفها لم يكن إرسال رسالة عسكرية إلى إيران فقط، بل أرادت أيضاً إظهار قدرتها على مهاجمة موقع يبعد 700 كلم عن إسرائيل. بيْد أن هذه الأهداف التي تقع في ضواحي مدينة دير الزور، هي أيضاً موجودة في قلب ما يمكن تعريفه بأنه ملعب الألعاب العسكرية لإيران والولايات المتحدة وتركيا وسورية، ومن الممكن أن تنجرّ إسرائيل إلى عمق تدخُّل جديد في المنطقة.
- تُعتبر محافظة دير الزور معقلاً استراتيجياً يقع على المحور الذي يربط بين العراق وسورية. ويتنافس على السيطرة عليها كلٌّ من تنظيم "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) الذراع العسكرية للحكم الذاتي الكردي في سورية، والمدعومة والممولة من الجيش الأميركي؛ وقوات النظام السوري؛ وإيران التي توسّع تمركُزها العسكري هناك منذ سنة 2019. وهي أيضاً محافظة مهمة اقتصادياً، إذ يوجد فيها أكبر حقل غاز في سورية هو حقل العمر، بالإضافة إلى آبار نفط كبيرة كانت تحت سيطرة النظام حتى سنة 2017، قبل سقوطها في يد الأكراد، بمساعدة أميركية؛ ومداخيل هذه الحقول تنتقل إلى الأكراد وتمول عملياتهم التجارية والعسكرية والمدنية. إلى جانب هذه الحقول، أقام الأميركيون قاعدة عسكرية تقدم الحماية للشركات الأميركية المشغِّلة لهذه الآبار. وهذه المغانم الكبيرة يحصل عليها الأكراد في مقابل مشاركتهم الفاعلة والجوهرية في محاربة تنظيم داعش الذي طُرد من المحافظة في سنة 2019.
- لكن الأكراد سرعان ما فهموا الفارق بين الاحتلال الناجح للمحافظة وبين القدرة على إدارتها. في البداية، حصل الأكراد على التعاون الكامل من السكان المحليين، وهم في أغلبيتهم، من العرب، وينتمون إلى 4 عشائر كبيرة. طوال الحرب الأهلية، أظهر السكان معارضتهم الشديدة للنظام السوري، وحتى اليوم، لا يزال هؤلاء يعارضون تطلُّع النظام إلى السيطرة على المحافظة. لكن اتضح للأكراد أن السيطرة على سكان عرب من العشائر يشاطرونهم معارضة الأسد، تفرض عليهم إشراك هؤلاء السكان في الإدارة، وفي اقتسام الموارد.
- على هذه الخلفية، نشبت في السنوات الماضية خلافات ومواجهات بين القيادة الكردية المحلية وبين زعماء العشائر الذين رأوا أنهم لم يحصلوا على حصتهم من الغنائم، ولم تتحقق مشاركتهم في عملية اتخاذ القرارات، وتبدد أملهم بعد القضاء على داعش وانتقال السلطة إلى الأكراد بحصول المحافظة على إعادة إعمار مدنية واجتماعية. كانت ذروة هذه المواجهات في نهاية آب/أغسطس، عندما قررت القيادة العليا للقوات الكردية، ومركزها مدينة الحسكة شمال شرق سورية، أن تتحرك ضد رشيد أبو خولة المعروف بعدة أسماء، والذي تعتبره مسؤولاً عن الخلافات والمواجهات بين مجلس المحافظة الواقع تحت سيطرتها وبين العشائر.
تهديد استراتيجي
- أبو خولة هو زعيم إحدى أكبر العشائر في دير الزور. عندما نشبت الحرب الأهلية، سارع إلى الانضمام إلى الجيش السوري الحر، لكن عندما سيطرت داعش على المحافظة في سنة 2014، انضم إلى صفوفها، لكنه سرعان ما فرّ إلى تركيا، بعد أن أعدم التنظيم شقيقه. بعد عامين، عاد إلى سورية وأنشأ ميليشيات خاصة انضمت إلى القوات الكردية. وبسبب علاقاته الوثيقة مع العشائر العربية وزعامته لعشيرته، ضغط الأميركيون على القيادة التركية لتعيينه، بخلاف إرادتها، قائداً عسكرياً لمجلس دير الزور. واعتقد الأميركيون أن أبو خولة قادر على منع إعادة تجنُّد أبناء عشيرته والعشائر العربية الأُخرى في صفوف داعش.
- الدعم الأميركي والموقع العشائري زادا في طموحات أبو خولة، وفاقما المواجهات بينه وبين القيادة الكردية المحلية... في 27 آب/أغسطس، دُعيَ أبو خولة إلى اجتماع عمل مع قائد القوات الكردية في المدينة، وعندما وصل مع بعض مساعديه اعتُقل، الأمر الذي أدى إلى مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين القوات الكردية في دير الزور وبين قوات العشائر، ذهب ضحيتها، بحسب التقديرات، 150 شخصاً، قبل أن يجري التوصل إلى وقف إطلاق النار.
- لكن ما يبدو مواجهة داخلية أو مناوشات، على خلفية عرقية بين العرب والأكراد، يمكن أن يشكل تهديداً للاستراتيجيا الأميركية في شمال سورية. فالنزاعات القومية والعشائرية والداخلية سمحت لإيران باستغلالها، ومحاولة الوصول إلى العشائر لتجنيدها لمصلحتها. وبالإضافة إلى القواعد التي أقامتها إيران على طول المحور الذي يربط البوكمال على الحدود العراقية في دير الزور، ونقل الصواريخ القصيرة المدى من منطقة حمص إلى دير الزور، والهجمات المتفرقة بالصواريخ على القاعدة الأميركية في العمر، القريبة من حقل الغاز، تسعى إيران للاستثمار في الخدمات المدنية، مثل فتح صفوف لتعليم الأولاد في المحافظة، وشراء الكتب، ودفع رواتب الأساتذة السوريين الذين استقالوا من وظائفهم في التعليم الرسمي السوري بسبب ضآلة رواتبهم.
- في غضون ذلك، تقوم إيران بتجنيد مواطنين، وحتى نساء، في صفوف ميليشياتها. وتحدثت عدة مواقع سورية إخبارية عن إقامة سرية من النساء تحمل اسم "الزهراء"، ستكون مهماتها استخباراتية. معظم أفراد السرية من السوريات، لكن يوجد أيضاً عراقيات ولبنانيات، وتحصل الواحدة منهن على راتب يتراوح بين 250 و450 دولاراً...
- هذه التطورات، إلى جانب جهود إيران لتوسيع نفوذها وسيطرتها على المناطق الشرقية في سورية، يجب أن تُقلق إسرائيل أكثر من شحنات سلاح تشق طريقها من سورية إلى لبنان. في حال فقدت القوات الكردية سيطرتها على المحافظات الشرقية في سورية، فإن التواصل الجغرافي بين إيران والعراق، مروراً بسورية، وصولاً إلى لبنان، سيتحول إلى "مسار سباق" من دون عوائق، وسيكون كله تحت سيطرة رسمية للنظام السوري، لكنه عملياً، سيكون في قبضة الميليشيات الإيرانية والحرس الثوري. في مثل هذه الحال، ستضطر إسرائيل إلى القيام بتدخّل عسكري أكبر بكثير من الهجمات المتفرقة التي تقوم بها ضد أهداف عرضية. ويبدو أن هذا التوقع بدأ يتحقق، سواء في إسرائيل أم في واشنطن. صور الدمار الذي تسبب به هجوم يوم الثلاثاء، والذي استهدف بنى تحتية مدنية، وفُجِّر خلاله جسر، تدل على الاستراتيجيا الجديدة التي تتجاوز العمليات التكتيكية.
- ويمكن الافتراض أن تغيير أسلوب الهجمات وأهدافها يجري بالتنسيق مع الإدارة الأميركية. فالعمليات العسكرية الأميركية ضد أهداف إيرانية محدودة بسبب القيود السياسية، باستثناء الحالات التي تتعرض فيها القواعد الأميركية للهجوم، فتردّ بقوة ردع خاصة بها. وإذا كان هذا هو التوجه، يبدو أن إسرائيل لم تعد "ضيفاً" طارئاً في سورية، بل هي مَن يعمل على صوغ استراتيجيا إسرائيلية – أميركية مشتركة لإدارة المعركة هناك.