لقد انهار "الجدار الحديدي"، وهذا ما يجب علينا فعله لكي نسترد السيادة الإسرائيلية
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- في عصب كل المفاهيم التي انهارت يوم "السبت الأسود" والرهيب، صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يكمن المفهوم الأكثر جوهرية من الرؤية الأمنية – والهوياتية - الإسرائيلية منذ بداياتها: مفهوم "الجدار الحديدي". هي تلك الفكرة الشهيرة التي صاغها زئيف جابوتنسكي في مقاله "حول الجدار الحديدي" و "أخلاق الجدار الحديدي"، والتي تبناها دافيد بن غوريون ومَن خلفوه في منصبه حتى اليوم، بصفتها أساس التصور الأمني الإسرائيلي.
- إن مفهوم "الجدار الحديدي" هو أولاً، وقبل كل شيء، مخيال مسيطر شكّل وعي إسرائيل وتصوراتها، وطرائق عملها. جدار مُحكم الإغلاق، قوي، مصبوب من فولاذ. هو ليس جداراً مرناً، ولا جداراً "قابلاً للتنفس". جدار لا يمكن اجتيازه، ولا يمكن اختراقه. جدار يحمي كل الذين يعيشون في داخله، وهو جدار يحجب، بالضرورة، إمكانية رؤية الآخر. هذا الجدار "غير القابل للاختراق"، الذي ادّعوا أنه قادر على حماية بلدات "غلاف غزة". الجدار الذي اخترقه "قتَلة حماس" صبيحة "السبت الأسود"، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وهو نتاج نظرية "الجدار الحديدي". إنه العائق السحري الذي يحل المشاكل، وهو الكفيل بأن يلغي، بالضرورة، كل ما هو خلفه، وهو القادر، عملياً، على إلغاء الفكرة غير القابلة للتصور، فكرة تعاظُم "حماس" على مرّ السنوات، للحؤول دون تحقيق أي فرصة لتغيير الواقع، وهذا كله متأتٍّ من التصور نفسه.
- من المهم أن ندرك الجوهر الرئيسي لهذا التصور، لهذا التشبيه. الأكيد أنه من الواجب على إسرائيل في هذه اللحظة التي تحارب خلالها اليوم، أولاً وقبل كل شيء، دفاعاً عن سيادتها، أن تعيد صوغ تصوُّرها الأمني، والحيز الذي يتحرك فيه هذا التصور. لقد كتب جابوتنسكي في "أخلاقيات الجدار الحديدي" التالي: "إن السذاجة السياسية التي يعانيها اليهودي هائلة، وهي غير قابلة للتصديق: إنه لا يدرك القاعدة البسيطة التي تقول أنه يُحظر عليك في المطلق ’مراعاة‘ إنسان لا يرغب في مراعاتك."
- وبعبارة أُخرى، فإن الجوهر الأساسي لمفهوم "الجدار الحديدي"، الذي صاغ المفهوم الأمني الإسرائيلي منذ الأزل، والذي انهار يوم "السبت الأسود"، هو ذاك الجوهر القائل "إنه يُحظر على إسرائيل مراعاة جهة لا ترغب في مراعاتها." إن الجدار الحديدي هو مقولة تعني الثبات في المكان. وقد أثبت "السبت الأسود" ما الذي قد يحدث لمجتمع ما، حين يدمن هذا المجتمع على وهم الثبات في المكان، ووهم القدرة على تجميد الواقع.
- في ظاهر الأمر، يبدو أن هناك منطقاً، بالمعنى النظري، لكلمة منطق، في القاعدة التي صاغها جابوتنسكي. فحين تعلم بأن من يقف قبالتك لا يرغب في مراعاتك، فلِمَ عليك أن تخاطر وتراعيه؟ سيكون هذا، ظاهرياً، "سذاجة سياسية"، كما سمّاها جابوتنسكي نفسه. لكن عندما يستثمر مجتمع ما كل جهوده في التموضع والكمون، ومحاولة تجاهُل الواقع، والبشر العاملين في المجتمع ذاته، فإنه يفقد قدرته على الالتقاء المباشر بهذا الواقع، كما أنه يفقد أصلاً إمكانية النمو، والتطور، والحفاظ على راهنية علاقته بالواقع.
- هذه الخسارة لها ثمن مكلف وحرج. إذ لا يمكن أن ينمو مجتمع ويتطور ويحافظ على راهنية علاقته بالواقع، وأن يحتفظ بقدرته على خلق الواقع، وأن يحتفظ بسيادته، من دون أن يملك القدرة أيضاً على الذهاب نحو المجهول، أي من دون أن يخاطر. وخصوصاً في زمنٍ كزماننا، زمن يسود فيه سؤال الـ "كيف". زمن يُعَد فيه المجهول معطىً يستوجب التفكير فيه، وزمن تتمثل الطريقة الوحيدة للبقاء فيه في أن نجرؤ على المعرفة، وأن نجرؤ على التغيّر.
- من خلال ترسيخ إدخال المجتمع تصوُّر "الجدار الحديدي"، يحكم هذا المجتمع على نفسه بالجمود، بل بالانحطاط الذي تبدو نهايته شبه مؤكدة تقريباً، نهاية متمثلة في الفساد والتفتت، سواء على المستوى القيمي، أو على المستويَين الأمني والمجتمعي. فنظرية "الجدار الحديدي"، مجدداً، بموجب الوصية القائمة فيها، في ظل هذا التوجه الفكري، تُلزم الإنسان، وتُلزم المجتمع، وتُلزم الشعب، أن يكون وعيهم وتكيُّفهم الداخلي مبذولاً بصورة شبه مطلقة في الصد، والمنع، والاحتماء، والحفظ الدائم للوضع القائم. في هذه الحالة، تتحول الرغبة في البقاء من مجرد أداة، إلى هدف بحد ذاته. هكذا يتحول العبد إلى سيد، والسيد إلى عبد. وقد كتب والتر بنيامين عن هذا الأمر، قائلاً إن "الوضع القائم هو لحظة مصيرية"، هي لحظة "تبقبق" حمم الكارثة تحت أرضها، في معظم الحالات تقريباً.
- فحين نجرّب محاولة إدراك الإخفاق الاستخباراتي المتمثل في حدوث "السبت الأسود" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وعدم القدرة على رؤية التهديدات، وإدراك مدى خطورتها، يبدو أن الدمج بين الإدمان على الوضع القائم، والإيمان بـ "الجدار الحديدي" الذي يحتضننا، كانا عاملاً رئيسياً في خلق هذا الإخفاق.
- إن مفهوم "الجدار الحديدي"، أو "العائق الذي لا يمكن تجاوُزه"، يفترض، بالضرورة، أن ما كان هو ما سيكون، بأنه لا يمكن حدوث تغيير، وأنه ما من بديل من الواقع. إنه يمثل الحديد الكامن في الجدار، إنه يتمثل في انعدام مرونة الجدار، وهذا هو الجوهر اللغوي الكامن خلف استخدام عبارة "غير قابل للاختراق". إن انعدام قدرة المجتمع الإسرائيلي ومنظومته الأمنية على إدراك كيفية تحوُّل "حماس" إلى حركة أكثر تطوراً مع السنوات، وإلى أي حد صارت قدراتها الاستراتيجية هائلة، وإلى أي حد باتت الحركة تعرف، بصورة معمقة، الجدار الحديدي الإسرائيلي وما يكمن خلفه، ينبع، من ضمن أمور أُخرى، من انعدام اللقاء [الإسرائيلي] الحقيقي والمباشر، مع الطرف الآخر.
- مَن يحيط نفسه بجدار حديدي، لن يتمكن قط من تقييم مَن يقف على الجانب الآخر من الجدار الأصم بصورة عميقة وحقيقية. هناك مَن يطلقون على أنفسهم توصيف "فيلا"، ويحيطون أنفسهم بالأسوار، ويؤمنون بأن المال قادر على شراء كل شيء، وأنهم لن يتفاجأوا مطلقاً بما يحدث في "الغابة"، بغض النظر عن مدى "مهنية" المعلومات الاستخباراتية التي في أيديهم. لم تسقط إسرائيل بسبب نقص المعلومات الاستخباراتية، بل بسبب عدم قدرتها على إدراك ما تعنيه هذه المعلومات.
- يجب على إسرائيل المولودة من جديد أن تكون مجتمعاً يخاطر من أجل تحقيق السلام، والاندماج في الإقليم، ويرفض الإدمان على الوهم الكامن في بناء الحواجز.
- بكلمات أُخرى، فإن أحد الأثمان الهائلة للجدار الحديدي يتمثل في فقدان قدرة المجتمع على تحديث وتغيير نظرية وجوده السياسي، وأن يكون أصلاً جاهزاً لمواجهة التحديات التي تحيط به (والفرص التي تحيط به كذلك). وإلى حد كبير، فإن أهم ما انهار في "السبت الأسود" صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، مع السيادة الإسرائيلية بأسرها، كان النظرية الأمنية والسياسية الإسرائيلية. كانت هذه النظرية هي ما انهار أيضاً في حرب "يوم الغفران"، حين كان خط بارليف تجسيداً لفانتازيا الجدار الحديدي غير القابل للاختراق. وعلى فكرة، فإن وهم القدرة على حل كل المشاكل من الجو في الحرب الراهنة، هو جزء من فانتازيا "الجدار الحديدي" المحمي والبعيد.
- لقد دفع المجتمع الإسرائيلي، صبيحة "السبت الأسود"، ثمناً باهظاً للتآكل الطويل الأمد الذي أحدثه تصوّر الجدار الحديدي في الروح والوعي الإسرائيليَين. لقد حال الجدار، بحكم المؤكد تقريباً، دون التشكيك في مفاهيم مختلفة. وتصوُّر الجدار الحديدي هذا، هو نفسه الذي يفرض علينا، بحكم تعريفه أيضاً، عدم معرفة الواقع، وبالتالي عدم الإدراك العميق للحيز الذي نعيش فيه، ولوعينا، ولكل ما يكمن في هذا الحيز المحيط من خير وشر.
- علينا التشديد هنا على التالي: إن المجتمع الذي تمت تربيته منذ الأزل، في أيام الهدوء، على مراوحة مكانه، وعلى التحصن، وعلى الإيمان بالجدار الحديدي، هو أيضاً مجتمع في أيام الحرب الحقيقية، الحرب التي تتطلب منه السعي للمواجهة، والانطلاق، والقتال، والانتصار بصورة فعالة وقادرة على تغيير الواقع، سيلاقي مصاعب في القيام بعمل حقيقي. يستوجب الأمر خلق تغيير عميق في الوعي. لأن وهْم التحكم الكامن في نظرية الجدار الحديدي، هذا الوهم الذي يخصينا، هذا الوهم الذي يضمن لنا اليقين، ظاهرياً، قد انهار هو أيضاً يوم "السبت الأسود". ويجب أن يمس صدى دوي هذا الانهيار أي مخططات استراتيجية يتم صوغها الآن بشأن استمرارية الحرب.
- إن انهيار مفهوم "الجدار الحديدي"، هو ما يجب علينا أولاً الاعتراف به، وأن ندرك عمقه وآثاره، وهو ما يستوجب خلق تغيير عميق في التفكير. ينبغي أن يحدث هذا حتى الآن، في عز الحرب، في هذه الأيام التي من الضروري اتباع نهج حذر ومدروس ورصين تجاه ما هو مجهول من العدو، لكي نتمكن من استعادة السيادة الإسرائيلية، لكن الأهم من ذلك هو أن يطال هذا التغيير في التفكير أيام الهدوء التي علينا أن نكون موقنين من أنها ستعود.
- إن إسرائيل التي ستولد من جديد، يجب أن تكون مجتمعاً قادراً على "المراعاة"، مجتمعاً يخاطر من أجل تحقيق السلام والنمو والاندماج في الإقليم، كما لو كانت تقوم بذلك من أجل الحرب وضمان سيادتها؛ يجب أن يكون هذا المجتمع مجتمعاً يجرؤ على المعرفة، ويطمح إلى صوغ الواقع، ويرفض الإدمان على الوهم المستند إلى بناء الحصون لا غير، ينبغي له أن يكون مجتمعاً لا يستهين بـ"سذاجة اليهودي"، وهي السذاجة التي تمكّن، بفضلها، من البقاء على مدار آلاف السنوات، بل يجب أن يتعلم هذا المجتمع من تلك السذاجة. ينبغي أن يولد مجتمع، على الرغم من مخاوفه المبررة، وصدماته الكبرى، قادر على الوفاء بالوصية اليهودية الأساسية التي أنزلها الله على إبراهيم: "سِر. سر."