لا تكذبوا علينا، فحقّنا في العيش في البلدات الحدودية يهدّده الخطر
تاريخ المقال
المواضيع
فصول من كتاب دليل اسرائيل
مهند مصطفى
أسامة حلبي, موسى أبو رمضان
أنطوان شلحت
المصدر
- عندما انطلق أولمرت في شهر تموز/يوليو 2006 إلى حملة "راتب مكافئ" [التسمية العسكرية الإسرائيلية لعملية الرد على خطف المقاومة للجنديين إلداد ريغف وأوهاد غولدفاسر. لم يصمد هذا الاسم طويلاً، بعد اتضاح مدة المعركة، ولاحقاً، أُطلق اسم "حرب لبنان الثانية" على ما ظنّه الإسرائيليون حملة اقتصاص عسكرية إسرائيلية روتينية وعابرة]، لم يكن أحد يعلم بأن هذه الحملة ستتحول سريعاً إلى حرب. على أي حال، فمع التحرك الدراماتيكي الهادف إلى الرد على هجوم حزب الله على السياج الحدودي، وعلى عملية الخطف، لم تكتفِ حكومة أولمرت بالتصريحات الهجومية فحسب، بل وضعت أهدافاً حقيقية يمكن قياس نجاحها من عدمه: إطلاق سراح الجنديين المخطوفَين، وإبعاد حزب الله عن الحدود، واستعادة قدرة الردع الإسرائيلية. لم تكن هذه الأهداف شديدة الذكاء من ناحية سياسية: واعتبرت الحرب إخفاقاً، وواصلت حكومة أولمرت التعثر إلى أن سقطت عن عرشها قبل أوانها. ومن منظور أبعد، هذه الحرب الفاشلة بالذات كانت ناجحة، فقد ضمنت هدوءاً طويلاً على الحدود الشمالية.
- أما اليوم، وبعد مرور ما يزيد عن شهر على الحرب التي بدأت كردٍّ على حدث دراماتيكي وشديد الخطورة، إلى حد يمكن اعتباره خطراً وجودياً، لم تقم الحكومة الإسرائيلية، حتى الآن، بصوغ أهداف واضحة للجيش الإسرائيلي، أو إنجازات يمكن قياس نجاحها من عدمه. وتتسع الفجوة، أكثر فأكثر، بين التصريحات الحماسية في استوديوهات التلفزة وبين النشاط العسكري على الأرض. أما الجدل العام، فيتركز على قطاع غزة، وما الذي سيحدث فيه: هل علينا احتلال القطاع بأسره، أم تدمير جميع القرى والبلدات الفلسطينية الغزية القريبة من الحدود، أم يجب إقامة حزام أمني يشبه الحزام الأمني الذي كان قائماً في الجنوب اللبناني حتى سنة 2000؟ كل هذا، طبعاً، يأتي قبل مناقشة القضية الأكثر إشكالية: مَن سيسيطر على الأرض، بعد أن تضع الحرب أوزارها؟
- في مواجهة هذه المخططات جميعها، يتعين على إسرائيل طرح أسئلة أُخرى على نفسها، وهي أسئلة لا تكتفي بالتركيز على قطاع غزة وحده، بل عليها، قبل كل شيء، النظر إلى بلدات "غلاف غزة"، أو ما بقي منها، وبعد ذلك، عليها أن تنظر إلى بلدات الحدود الشمالية، أو لنقُل، عملياً، إلى كل المستوطنات الواقعة على حدود إسرائيل: هل البلدات الحدودية في الدولة اليهودية لها حق في الوجود اليوم؟ هل في استطاعة إسرائيل، مع كل ما تملكه من أذرع ومؤسسات، توفير الحماية الأكثر أساسية وبساطة للمدن، والبلدات التعاونية، والكيبوتسات الواقعة قرب المناطق القريبة من أراضي العدو؟
- من هذه النقطة، يجب أن يبدأ أي نقاش أمني وسياسي، وإلى هذه النقطة ينبغي تصويب جميع التقييمات، والتقديرات، والبرامج، والنشاطات الخاصة بنا، على مدار الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة.
الحدود مهجورة، والسكان تحولوا إلى لاجئين
- تاريخياً، يتعين علينا أن ندرك أن هذا الاستيطان هو الذي مكّن من ترسيم حدود الدولة. قبل أكثر من 100 عام، قال يوسف ترومبلدور مقولته الشهيرة "في المكان الذي سيخطّ فيه المحراث اليهودي الثلم الأخير في الأرض، سنضع الحدود"، وعلى هذا الأساس، صاغ العلاقة الجدلية القائمة بين الاستيطان والأمن. لم يكن الإصرار على إقامة كيبوتسات وبلدات تعاونية على حدود قطاع غزة بالذات أمراً عبثياً، ولم يكن من قبيل العبث أن مدينة "كريات شمونة"، وبلدة "شلومي"، موجودتان حيث هما الآن: لقد مثّل الأمر المهمة الصهيونية الأسمى، وربما الأكثر أهمية.
- على امتداد عقود طويلة من الزمن، ووصولاً إلى اليوم، لم تكن الحياة على الحدود أمراً سهلاً في المطلق: فالابتعاد عن المركز هو أيضاً ابتعاد عن أماكن العمل، ومؤسسات التعليم العالي، والمؤسسات الثقافية والرياضية، والخدمات الطبية المثلى، كما أنه يمثل ابتعاداً أيضاً عن القفزة التكنولوجية والتطور الاقتصادي الأكبر في إسرائيل. يتطلب الاستيطان على الحدود موارد نفسية، ومواجهات لا تتوقف، حتى في ظل عهد السلام، أو لنسمِّها، فترة الروتين الطويل، من دون أزمات أمنية، وبذا: لا يوجد هامش أكثر هامشية وابتعاداً عن "المركز" من المناطق الحدودية. وطبعاً، فإن مواجهة المصاعب في هذه المناطق، في فترات الحرب والتوترات الأمنية، أصعب بأضعاف: فالصور والأخبار المنتشرة المتعلقة بالفظائع التي جرت في ذلك السبت الأسود في بلدات "غلاف غزة" قد جعلتنا جميعاً تحت وطأة الصدمة (التي لم نتجاوزها حتى اليوم)، لكن هذا الرعب، بالنسبة إلى البلدات الحدودية، كان قائماً على الدوام. إن معرفة المرء أن هناك أشخاصاً يكمنون على مسافة غير بعيدة عن منزله، بانتظار لحظة الصفر، لأذيته بأفظع الطرق اللا إنسانية، هي عبء يضطر سكان المناطق الحدودية إلى حمله على أكتافهم طوال حياتهم، حتى في الفترات التي يبدو خلالها أن الأمر بعيد التحقق، أو غير ممكن.
- وها نحن الآن، بعد مرور أسابيع طويلة، أصبحت حدودنا مهجورة تقريباً، لا يوجد بشر، وهذه الحال لا تقتصر على "بئيري" و"نتيف هعسراة" [مستوطنات تقع في "غلاف غزة"]، بل تشمل كلاً من "مرغليوت"، و"أفيفيم"، ورأس الناقورة، والمطلة، و"كريات شمونة"، التي تحولت إلى بلدات أشباح، يحييها العدد القليل الذي بقي فيها من فرق تأهُّب وقوات عسكرية. طبعاً، هذا القرار منطقي: فقبل أن تبلّغ الدولة سكان هذه المناطق ضرورة إخلائها، كان عدد كبير جداً من سكانها قام بإجراء الحسابات بنفسه، وقرر التحول إلى لاجئ، بانتظار مرور زمن الغضب. وعلى الرغم من المنطق، وعلى الرغم من الاهتمام بحياة السكان، فإن الأمر ينطوي على رسالة صعبة التصديق: إن إسرائيل ترسل إلى سكان مناطقها الحدودية العبارة التالية "نحن غير قادرين على حمايتكم". إن التنظيمَين "الإرهابيَين"، اللذين يخرجان من تحت عباءة إيران، واللذين يعمل أحدهما في الشمال، والآخر في الجنوب، حوّلا البلدات الحدودية إلى رهائن أبدية في الصراع مع إسرائيل. فهل يُفترض بي، بصفتي أحد سكان "كريات شمونة"، أن أعيش دائماً وحقيبة أمتعة الطوارئ الخاصة بي، تحتل صندوق سيارتي، بما يشبه "حقيبة لاجئين"، تحسّباً لأيّ مشكلة قد تحدث؟
- ربما علينا إعادة التفكير في مفهوم الاستيطان والحدود في إسرائيل بالكامل، وربما لم تعد مصطلحات، مثل "قاعدة متقدمة للدولة"، و"الطلائعيين الحقيقيين"، و"جدارنا الواقي جميعاً"، وكل هذه المصطلحات والمدائح التي أبدعوا في إغداقها علينا طوال أعوام، لم تعد ذات صلة، أو راهنة. وربما تحوّلنا نحن أيضاً، من رصيد إلى عبء.
- بغض النظر عن كيفية انتهاء هذه الحرب، فإن إسرائيل ستظل موجودة هنا، وعلى أمل أن تقوم أيضاً بإصلاح كثير من أوجه التقصير والمشاكل التي كشفتها صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والأيام التي تلتها. لا بد من أن الساسة سيتحدثون، آنذاك، أيضاً عن "تغيير قواعد اللعب"، وربما يوغلون في الغي، فيتحدثون عن "التحول الاستراتيجي في الشرق الأوسط"، لكن إسرائيل ستضطر إلى مواجهة اختبار واحد بسيط، وصعب للغاية: إعادة الأمن، مع كل ما يحمله هذا المصطلح من معانٍ، إلى بلداتها الحدودية.
- لقد قامت هذه الدولة على أساس الوعد القائل إن اليهود سيكونون قادرين على الدفاع عن أنفسهم في أي موقف، وأننا، كيهود، لن نكون عاجزين في مواجهة "الوحشية القاتلة" التي يتصف بها أعداؤنا. لقد تم النكث بهذا العهد في صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وها نحن الآن نصبح، مجدداً، بلدات مع وقف التنفيذ، بلدات تحلّق في سمائها علامات استفهام بشأن وجودها المستقبلي. وتماماً كما كانت عليه الحال في حرب لبنان الثانية، علينا أن نحاكم الحرب الراهنة بمقياس زمني طويل، وأحد المعايير الأهم لمحاكمة هذه الحرب، سيكون حال بلدات "غلاف غزة"، وبلدات الحدود الشمالية، بعد عدة سنوات. سيمثل الأمر الاختبار الأكبر لإسرائيل، ويُحظر علينا في المطلق، الإخفاق في هذا الاختبار.