مشاهدات من مسيرة النازحين الفلسطينيين إلى جنوب القطاع
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • أول أمس الأحد، تجمّع في شارع صلاح الدين الواقع على أطراف مدينة غزة، مئات اللاجئين الذين هربوا من شمال القطاع. حالة الطقس كانت سيئة، غبار، ورمال كانت تدخل في عيون الذين وقفوا في صف طويل جداً. بعضهم حمل أعلاماً بيضاء، وآخرون رفعوا فقط بطاقات الهوية الخضراء الخاصة بهم. ومن مكبّر الصوت، جاء صوت بالعربية "أسرع، أسرع، في صف منظّم". وأضاف "لينظر الجميع إلى اليسار، احضروا لي بطاقة الهوية. الواحد تلو الآخر. تعال إلى هنا، إلى هنا أقول لك".
  • قبل ذلك بوقت قصير، بعضهم وقف في مجموعة مكتظة، الواحد إلى جانب الآخر، على بُعد أمتار قليلة شمالي مدينة غزة. وإلى جانبهم، وقفت دبابة، بالقرب من مبنى مليء بثقوب الرصاص، بعد قصف جزء منه. وفي جزئه السفلي، يمكن الانتباه إلى وجود شبابيك جميلة على شكل أقواس، يبرز منها المشهد الكارثي. وبين الفينة والأُخرى، كان يخرج صوت الرصاص الخفيف، الذي سيقول لنا الضابط عنه إنه "إطلاق نار بهدف الردع"، يطلقه الجنود في الهواء عندما لا يسمع السكان الأوامر.
  • الطريق التي ساروا فيها كانت الشارع الرئيسي للقطاع، لكن الجيش هدمه للبحث عن عبوات. وعلى بُعد بضعة أمتار، كان هناك سواتر ترابية يبدو أن الجيش أقامها، وتحتها كان يتمركز الجنود لحماية الصحافيين الذين دعاهم الجيش إلى المكان في اليوم نفسه. كثيرون من الجنود كانوا يصوبون بنادقهم نحو المجموعة، عن بُعد لا يسمح لهم فعلاً برؤية وجوه الناس الذين يسيرون.
  • نُظّمت المجموعات في صف واحد حين عبرت نوعاً من أنواع الحاجز الحديدي. لم يكن من الممكن رؤية ما يحدث داخل الحاجز من موقع الصحافيين. ومن قلب هذا الحاجز، خرج رجال ونساء وأطفال، بعضهم يحمل أكياساً، وآخرون يحملون حقائب. وفي الوقت الذي كان يخيّم لون الحرب والدمار الرمادي، برزت بشكل خاص طفلة تحمل حقيبة زهرية، وجميع ملابسها زهرية بشكل واضح، من الرأس حتى أسفل القدمين. بدأ المطر يغسل الموجودين، جنوداً ولاجئين معاً، وتحولت الرمال والغبار إلى وحول. ومن هناك، تقدم النازحون قليلاً إلى الأمام، وفي الخلفية، تستمر الأصوات بالعربية من الجنود، أو "الشاباك"، عبر مكبّر الصوت.
  • "أنت الذي تحمل كيساً أزرق، ضعه هناك إلى جانب الحقائب وتعال. الآخرون، استمروا، استمروا"، هذا كان الصوت الخارج من مكبّر الصوت. أبناء عائلة الرجل الذي طلبوا منه الذهاب إليهم، تلقوا التوجيهات بالاستمرار وعدم انتظاره. الجنود الذين كانوا ينادون من موقع مرتفع بضعة أمتار عن النازحين، استمروا في المناداة بين الحين والآخر، والطلب من بعض السكان الخروج من الصف، والاقتراب منهم. ومرة أُخرى، جاء الصوت "العجوز مع الأطفال، اتركهم وتعال إليّ". ومَن تم سحبه من الدور إلى الاستجواب، طُلب منه ترك الحقائب جانباً في مكان لتجميع الحقائب والأكياس، والاقتراب من الموقع المرتفع قليلاً.
  • في كل لحظة، كان يتم استدعاء نحو 20 شخصاً إلى الاستجواب. كم من الوقت بقوا هناك، وهل سُمح لهم بالاستمرار والعودة إلى الصف المتوجّه جنوباً - لا يمكن معرفة ذلك. أحياناً كانوا شباناً، وأحياناً نساءً، وأحياناً رجالاً. يبدو أن هؤلاء مروا بفحص أولي، لذلك، تم سحبهم من الصف بشكل دقيق. يبدو أن المواقع التي مروا منها في البداية هي مواقع التنسيق التابعة لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHA)، مثل "حواجز من دون جنود"، وهناك توجد أنظمة للتعرف إلى الوجوه. وبحسب الأمم المتحدة، فإن النازحين شهدوا أنهم حصلوا على توجيهات بتمرير بطاقات الهوية الخاصة بهم، وأيضاً وضع الوجه أمام أجهزة التعرف إلى الوجوه. ويبدو أن الموقع الذي طُلب منهم التوجه إليه كان مزوداً أيضاً بكاميرات متطورة.

زيارة برعاية الجيش

  • الطريقة الوحيدة التي يمكن للمراسلين غير الفلسطينيين رؤية سكان القطاع عن قُرب، فيما يسمى "الممر الإنساني" - مسار الهرب وإجلاء سكان شمال القطاع إلى الجنوب - هي عبر مبادرات من المتحدث باسم الجيش. وبالطريقة نفسها أيضاً، دخل الصحافيون الأجانب والإسرائيليون إلى مناطق القتال خلال الأسابيع الماضية. دخول الصحافيين برفقة قوات الجيش، يسمح للجيش بأن يقرر ما هي المنطقة التي يمكنهم الوصول إليها، وعلى الرغم من أنه لا توجد مناطق نظيفة في الحرب، كما يسمح للجيش بالسيطرة أيضاً على المشاهد التي يمكن للصحافيين رؤيتها.
  • قرار الانضمام إلى هذه الجولة لم يكن خالياً من معضلات أخلاقية، فالتغطية ليست كاملة - إنها محدودة جداً، وموجّهة، ومراقَبة من طرف الجيش الذي لا يسمح للصحافيين بالتحدّث مع السكان، ويفرض أيضاً قيوداً على موضوع المقابلات مع الجنود. وفي جميع الأحوال، من الصعب أن يتحدث الفلسطينيون بحُرية في هذه الظروف. مُنع المصورون من الانضمام إلى الجولة، وأيضاً التزم الصحافيون، خطياً، بتمرير جميع الصور، التي وثّقها المراسل خلال الجولة، إلى الرقابة العسكرية، وأيضاً النص المكتوب. الدمج ما بين الجنود والصحافيين بات واضحاً أكثر حين وجّه أحدهم، عبر مكبرات الصوت، توجيهات إلى السكان بشأن كيفية التصرف، وفي لحظة، نادى مراسل القناة 13 بالعربية، تسفي يحيزقئيلي بالقول: "أخينا، يحيزقئيلي".
  • قرار الجيش استقدام مجموعة من الصحافيين إلى المكان يعكس بشكل محسوس الفجوة بين السردية الإسرائيلية والفلسطينية - ففي الوقت الذي يتم التعامل مع الممر، إسرائيلياً، على أنه خطوة إنسانية واضحة، الهدف منها الدفاع عن المدنيين كي تستطيع القوات قتال "حماس" في الأماكن الآهلة الكثيفة، فإن السردية الفلسطينية تتحدث عن نكبة ثانية. وفي جميع الأحوال، يبدو أنه لا يمكن النقاش في هذا الواقع المذل جداً.
  • بدأت الرحلة إلى غزة من موقف سيارات بالقرب من كيبوتس "بئيري". ومن هناك، خرج الصحافيون من عدد من وسائل الإعلام الإسرائيلية، في مركبات "هامر" عسكرية إلى داخل القطاع، بمرافقة الجنرال نتاي عوكشي. الجولة أُجِّلت ساعتين تقريباً، بعد أن تبين أن قناصاً متمركزاً في أحد المباني، أطلق النار في ذلك الصباح. لدى عبور الجدار إلى داخل القطاع، برزت بقايا مزروعات في المكان قبل الحرب. وبعد ذلك، باتت مظاهر الحرب أكثر وضوحاً: بنايات مهجورة كلياً في قرية جحر الديك، تبدو كأنها أكوام من الأسمنت المقصوف. مكان يبدو أنه كان في يوم من الأيام محطة وقود ضاعت صورتها كلياً، وكثير من الأشجار المرمية إلى جانب الطريق.
  • بعد جولة قصيرة، تم الإعلان عن الوقفة الأولى: مبنى سكني للقوات، عُثر فيه قبل ذلك على عبوات تحت الدرج، وقنابل في غرفة أُخرى. وقال الجنرال عكشي "يبدو بيتاً بسيطاً، وعندما تدخلون إليه، تكتشفون أنه ليس بسيطاً البتة". وقبل ذلك بلحظات، شرحت إحدى المصورات العسكريات أن أكثر اللحظات سعادة، بالنسبة إليها، كانت لدى توثيق إجلاء الجنود للحيوانات الأليفة التي بقيت هنا. وطوال الوقت، كانت تُسمَع أصوات من سلاح خفيف، وأيضاً مدرعات. المبنى كان مليئاً بآثار الرصاص على الجدران الخارجية والنوافذ المحطمة. وإلى جانبه، حفرة كبيرة - من غير الواضح ما إذا كانت نتيجة قصف مدفعي، أو تخريب، أو مطرقة.
  • بحسب الجنود، كان المبنى فارغاً حين وصلوا. وشددوا على أن "مَن بقي في المنطقة هو "مخرب". جميع الأشخاص هنا ليسوا أبرياء. وفي جميع الهجمات التي قمنا بها، لم يكن هناك مدنيون، إنما "مخربون" - مراقبون، وآخرون أطلقوا علينا النار"، بحسب عوكشي. وأضاف أنه تم إيجاد خرائط ومواد استخباراتية أيضاً. وعلى الرغم من ذلك، فإننا عندما دخلنا إلى المنزل، لاحظنا أنه منزل عادي؛ في الحديقة الداخلية توجد بركة سباحة، يبدو أن أحداً لم يستعملها منذ وقت طويل، ودراجة هوائية، وأيضاً نارجيلة، وأشجار حمضيات، وعرائش. وفي إحدى زوايا الساحة، على وسادة زهرية، كان هناك سلاح - يُذكر أن هذه منطقة حرب. وعلى أحد الجدران الداخلية، كتب الجنود على الجدران "طاقم حسون"، و"إلى متى". الجنود قالوا إنهم ترددوا بشأن النوم في منزل كان يحتوي على عبوات. وبحسب أحدهم، فإنه "توجد حسنات وسيئات". مضيفاً أن "حالة الطقس هي التي حسمت الأمر.

"وداعاً غزة"

  • من هناك، تابعنا إلى محور صلاح الدين، مسار الهروب. وبحسب الجيش، فإن 25 ألفاً من الأشخاص عبروا ما يسمى باللغة العسكرية "القطارة"، حيث يمر السكان بعملية فحص قبل أن يتابعوا نحو الجنوب. وبحسب أرقام الجيش، هرب ما يعادل 360 ألفاً من سكان شمال القطاع من هذه النقطة، ومن الممر الإنساني الآخر على الشاطئ. الجيش يسمح بالعبور في اتجاه واحد بين الـ9:00 و 16:00- من شمال القطاع إلى الجنوب.
  • بحسب معطيات منظمة OCHA، فإن نحو 1.7 مليون شخص تحولوا إلى نازحين داخل القطاع منذ بداية الحرب، 900 ألف منهم يسكنون في ملاجئ خاصة بالأونروا، ومكتظة. وبحسب المنظمة، فإن الكثافة العالية في هذه الأماكن وصلت إلى حد أن بعض النازحين ينام خارج الملاجئ. وأضافوا أنه يوجد مكان واحد للاستحمام لكل 700 شخص، وحمام لكل 150 شخصاً. وهو ما يساهم في انتشار الأوبئة. وفي الوقت الذي يقول الجيش إن إجلاء السكان موقت، فإنه لدى النظر إلى مواقع الهدم في مدينة غزة - وأيضاً المخطط الإسرائيلي بشأن الحفاظ على الوجود العسكري المستمر في القطاع - يدفع إلى الشك في ذلك.
  • قائد الكتيبة 8119، الجنرال لوتام فرن - فرح، قال إنه في الأيام الأولى للقتال، سُمح للسكان بالمرور على العربات والأحصنة، لكن هذا غير ممكن الآن، لأن الطريق هُدمت. وأضاف أن "الاستثناء الوحيد هو سيارات الإسعاف التي يتم التنسيق بشأنها إنسانياً، فتمر بعد الفحص، وفتحنا لها الطريق". وفي نظر الجيش، جاء إجلاء السكان بهدف السماح باستمرار القتال. وبحسب فرن - فرح، فإن "مجرد إخلاء المناطق من السكان يسمح بالقتال من دون قيود. أنا أقاتل هنا بحرية، استخدم نيران المدفعية كما علمّوني أن أقاتل". وبحسبه، فإن ما دفع السكان إلى الانتقال من بيوتهم في الشمال، هو تقدُّم القوات إلى داخل الأحياء.
  • وعن سؤال ما إذا كانت "حماس" تحاول منع إجلاء السكان، أجاب فرن - فرح أنه في الأيام الأخيرة، شاهد الجيش مسلحين يحاولون التحقيق مع السكان الهاربين إلى الجنوب. وعلى الرغم من ذلك، فإنه شدد على أن "حماس" لا تملك، اليوم، الإمكانات لمنع السكان من التحرك جنوباً. وخلال المحادثة، سُمعت نداءات بالعبرية: "إن كان هناك ولد أو بنت يفهموني، ويفهمون العبرية، عليهم أن يتقدموا إلى هنا ركضاً، لا تخافوا، تعالوا إليّ". وشرحوا في الجيش أن هذه محاولة لرصد الأولاد المخطوفين الذين من الممكن أن يكونوا ساروا مع المجموعة التي تحاول الوصول إلى الجنوب. وعن سؤال إلى أين سيهرب الناس الذين هربوا إلى خانيونس في جنوب القطاع، في حال استمر القتال البري وتمدّد إلى هناك، رفضوا الإجابة في الجيش.
  • وخلال الجولة، كان صف النازحين يمتد أكثر: شاب يلبس كنزة سوداء ويرفع يديه إلى الأعلى؛ أطفال آخرون يمسكون بأيادي أمهاتهم، ورجل آخر يرفع كرسي مقعد عالياً في الهواء. وإلى جانبهم، يوجد كثير من القمامة، بعضها يبدو أنه أغراض تركها الناس على جانب الطريق. وفجأة، سُمع صوت انفجار كبير ودخان كثيف. قبل ذلك بيوم، حمّل الصحافي الغزي معتز عزايزة بعض "القصص" على "إنستاغرام" محاولاً إظهار الواقع من وجهة نظر السكان. لقد وثّق أشخاصاً يأتون من اتجاه مدينة غزة، بعضهم من مناطق أبعد، مثل بيت لاهيا، على الأقدام، أو على مقاعد متحركة، وعلى عربات الحمير، أو المركبات، وخلفهم دخان كثيف جداً. وكتب "وداعاً غزة، أتمنى أن نلتقي قريباً، وأن أسير في طرقاتك مرة أُخرى، وأن آكل الأكل الجيد الموجود في المطاعم مرة أُخرى، وأن أزور الأصدقاء وأستمتع. إلى اللقاء غزة".
  • طريق عودة الصحافيين الإسرائيليين من شارع صلاح الدين إلى إسرائيل، لم تكن طويلة. خلال دقائق معدودة، باتت أصوات الحرب أقل كثيراً. وبعد عبور الجدار الفاصل بين القطاع وإسرائيل، استمر السفر على طول الشريط حتى الوصول إلى كيبوتس بئيري، حيث يمكن، بسهولة، رؤية بقايا المنازل التي حُرقت خلال "المذبحة" في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.