الوحشية تحولت إلى نمط سائد، في وسط الخريطة السياسية، وإلى يسارها أيضاً
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • يُعتبر غيورا آيلاند واحداً من "الضباط المفكرين" الذين انبثقوا من صفوف الجيش الإسرائيلي. إنه رجل دمث الخلق، ولبِق الحديث، وهو تعبير مكثف عن الاعتدال ورجاحة العقل؛ لديه سيرة عسكرية مثيرة للإعجاب، ترأس قسم العمليات، وقسم التخطيط، إلى جانب مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، دائماً ما تُجرى معه مقابلات، وهو ابن الحركة العمالية. إنه لا بالكسول، ولا بالجاهل، كما هي حال اللفتنانت كولونيل أمير أفيفي، وليس متعطشاً للدم كحال بن غفير. إنه وسطي، منتمٍ إلى اليمين المعتدل. إن آيلاند، المعروف بأنه مصاب بأمراض عديدة، وألّف كتاباً عن معاناته، لديه فكرة: انتشار الأوبئة في قطاع غزة، في مصلحة إسرائيل. يقول الرجل "الأوبئة الخطِرة في جنوبي القطاع، ستقرّبنا من النصر، وستقلل من الأضرار في أوساط جنود الجيش الإسرائيلي"، حسبما كتب هذا المفكر الاستراتيجي هذا الأسبوع في صحيفة "يديعوت أحرونوت". كل ما علينا فعله، الآن، أن تصاب بنات زعماء حركة "حماس" بالوباء، وهذا ما سيكفل لنا الانتصار.
  • لم يفصّل آيلاند الأوبئة التي يفضّلها، هل يقصد الدمامل، الكوليرا، أو ربما يقصد كوكتيلاً من الجدري الأسود والإيدز؛ ربما أيضاً تجويع مليوني إنسان. هذا ضمان لتحقيق نصر لإسرائيل بأبخس الأثمان. لقد أكّد الرجل في مقاله التالي: "لا، نحن لا نمارس القسوة من أجل ممارسة القسوة". لقد أقحم هذه العبارة، كأن هناك مَن تجرأ على طرح هذه الفكرة أصلاً. طبيعي! هذا الرجل ينضح بطيبة قلب وإنسانية نادرة، لن تسفر إلّا عن إنقاذ حياة البشر. ها هو آيلاند يتقمّص شخصية الأم تيريزا، إنه ضابط، إنه جنتلمان، وهو آتٍ من الجيش الأكثر أخلاقية في هذا العالم.
  • لقد تقدّم آيلاند باقتراح نازي، من دون أن تثور عاصفة بعد قيامه بذلك. لأن من يتهم إسرائيل بالقيام بأعمال الإبادة الجماعية، ليس سوى معادٍ للسامية. علينا فقط أن نتخيل جنرالاً أوروبياً يقترح تجويع شعب ما، أو قتله بواسطة الأوبئة، لنتخيل أنه يقول ذلك عن اليهود مثلاً. من شأن نشر الوباء أن يوفر الجهد الحربي. كما هي العادة في الحرب، بات الآن اقتراح أي شيء مقبولاً، كل ما حلمتم به، ولم تجرؤوا على اقتراحه في الماضي، بات شرعياً الآن. لقد انقلبت الصوابية السياسية. وبات في إمكان أي شخص أن يتحول إلى مئير كهانا، ولم يعد من المسموح به أن يظل المرء إنسانياً. صار من المسموح به أن يقترح الإنسان تنفيذ عملية إبادة جماعية، لكن من المحظور الشعور بالرأفة تجاه أطفال قطاع غزة. بات من المقبول اقتراح تنفيذ عمليات التطهير العرقي، لكن بات من المحظور على المرء أن يصاب بصدمة شديدة إزاء معاقبة قطاع غزة.
  • لم يعد الأمر مقصوراً على اليمين فحسب، بل أصبح يمثل رأي التيار الرئيسي. صار رام بن باراك مؤيداً للترحيل الجماعي الطوعي، والوزيرة المعتدلة غيلا غامليئيل هي الأُخرى تؤيد. وزارة الخارجية قالت إن غامليئيل لا تمثل الحكومة في موقفها هذا. لكن علينا أن نعترف بأن موقف الوزيرة يمثل الحكومة وغيرها بصورة كبيرة. لقد تحولت الوحشية إلى أمر معياري عادي، والشيطانية تحولت إلى تيار وسط، وبلغ مداها يسار الوسط أيضاً. دعونا نخوض حرباً أُخرى، أو اثنتين، وسيصبح الجميع كاهانا.
  • لم نكد نستفيق بعد من "وحشية حركة حماس"، ليحطّ في أحضاننا مزيد من هذه البركات. ليس فقط من اليمين المتطرف والمستوطنين، بل من قلب الوسط الإسرائيلي. ها قد اتضح أن هناك وحشية مروعة، وأن هناك وحشية مقبولة ومعيارية. عناصر حركة "حماس" هم "حيوانات بشرية"، لكن، وفي المقابل، فإن اقتراح نشر وباء وسط الناس، هو أمر شرعي. تتخلق أمام أنظارنا واحدة من أخطر الظواهر التي انبثقت من هذه الحرب: إنها ظاهرة تحويل الشر إلى معيار، وتطبيعه أيضاً.
  • هذا الشر ينمو من تربة التجاهل اللا معقول، واللامبالاة المَرَضية الإسرائيلية أمام ما يحدث الآن في قطاع غزة. لا يكاد الصحافيون الأجانب، الذين يأتون إلى هنا، يصدقون أعينهم: معاناة قطاع غزة غير قائمة أصلاً. إسرائيل لا تقوم بقتل آلاف الأطفال، وهي لم تطرد مليون إنسان من منازلهم. لا توجد ضحية اسمها غزة في المطلق، وهي غائبة، ليس فقط عن الخطاب الإسرائيلي العام، بل أيضاً عن النشرة العامة للأخبار. إن النشرات الإخبارية في التلفزيون الإسرائيلي هي الوحيدة في العالم التي لا تعرف أننا قتلنا أطفالاً. والإعلام الإسرائيلي هو الوحيد في العالم الذي لا يعرف أن الجيش الإسرائيلي ارتكب في هذه الحرب جريمة حرب صغيرة واحدة.
  • إن مجتمعاً يتجاهل مثل هذا الواقع، ولا يبالي بمعاناة الذين يكتوون بنار الحرب، يُنبت طفرات أخلاقية، على غرار السيد آيلاند. يمكن للمرء أن يكون مقتنعاً بأن آيلاند يعتقد أن اقتراحه غير ملوث بأي اتهام من الاتهامات المذكورة أعلاه، فكل ما فعله الرجل هو تقديم اقتراح منطقي، يخدم المصلحة الإسرائيلية. فهل يوجد أصلاً في هذا العالم أمر سوى المصلحة الإسرائيلية؟ القانون الدولي مخصص للضعفاء، أما الأخلاقيات فهي للمتفلسفين، والإنسانية هي للمترفّعين المتظاهرين بالنبل. ودعونا نتساءل حقاً: ما هو السيئ في نقل الأوبئة إلى قطاع غزة؟ هناك أمر واحد سيئ، أن تنتقل العدوى إلى إسرائيل أيضاً. دعونا نعترف: لقد أصابونا بالعدوى منذ زمن.
 

المزيد ضمن العدد