تحليل نتائج الاستطلاع الذي أجراه معهد INSS ثقة الجمهور الإسرائيلي بجيشه خلال حملة السيوف الحديدية
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • لقد حُفرت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر في الوعي العام الإسرائيلي، بصفتها إخفاقاً فادحاً، كبّد الدولة والجيش الإسرائيليَين أبهظ الأثمان: أكثر من 1200 قتيلاً، نحو 240 مخطوفاً، إلى جانب نجاح حركة "حماس" في "احتلال" بلدات مدنية لفترة وجيزة. لقد تم إلقاء الجزء الكبير من الفشل على كاهل الجيش الإسرائيلي، سواء بسبب عدم وجود إنذارات استخباراتية محددة، أو بسبب انعدام قدرة الجيش على حماية بلدات "غلاف غزة" في الوقت المناسب، والحؤول دون وقوع المجزرة. إن شعور المواطنين الإسرائيليين بأنهم متروكون لمصائرهم، من شأنه تقويض ثقة المواطنين بالجيش الإسرائيلي.
  • وعلى الرغم مما تقدم، فإن استطلاعاً للرأي أجراه معهد دراسات الأمن القومي منذ بداية الحرب، يشير إلى أن الجمهور يواصل إبداء ثقته العالية بالجيش الإسرائيلي. فخلال الأسابيع الخمسة التي مرت منذ نشوب الحرب، كانت نسبة من الذين شملهم الاستطلاع ممن يجزمون بثقتهم العالية بالجيش الإسرائيلي، عالية ومستقرة، بلغت 90%. مقارنةً بنسبة منخفضة جداً من الذين عبّروا عن ثقتهم بالحكومة (نحو 24%)، في حين عبّر 68% عن ثقتهم العالية بجهاز الشرطة (وهو معطى أعلى كثيراً من ثقة الجمهور بالشرطة في الأيام العادية). وعلى المستوى الشخصي أيضاً، لنقُل خلال الأسبوع الرابع من الحرب، حظيَ رئيس هيئة الأركان بثقة عالية في نفوس 69% من المستطلعة آراؤهم، مقارنةً بوزير الدفاع، الذي حظي بثقة عالية من 58% من هؤلاء، ورئيس الحكومة الذي حظيَ بثقة عالية في صفوف 28% فقط. كما أن ثقة الجمهور بأهلية ضباط الجيش والجنود في صفوف الضابطية الميدانية، مرتفعة أيضاً، وقد بقيت مرتفعة على حالها على امتداد الاستطلاعات التي تم إجراؤها منذ بداية الحرب (ما يتجاوز الـ80%). وإلى جانب ذلك، تحظى التقارير الدورية للناطق بلسان الجيش الإسرائيلي بنسبة تصديق عالية، وآخذة في التصاعد (بلغت 86% في الأسبوع الخامس من الحرب).
  • علاوةً على كل ما تقدّم، أعرب المشاركون، منذ بداية الحرب، عن ثقتهم العالية بأن الجيش الإسرائيلي سيحقق النصر في حربه، إنْ في قطاع غزة، أو على الجبهة الشمالية، في حال اندلعت الحرب هناك (نحو 90% أجابوا بالإيجاب عن السؤالين). وتفترض أغلبية المستطلَعة آراؤهم أن أهداف الحرب في قطاع غزة سيتم تحقيقها، إما إلى حد كبير، وإما بصورة كاملة (76% في الاستطلاع الخامس، بما يمثل ارتفاعاً في القيمة الإيجابية عما تم حصده في استطلاع الأسبوع الرابع من الحرب، الذي بلغ آنذاك 70%، وهو ارتفاع أكبر كثيراً من النسبة في الاستطلاع الذي أُجريَ في الأسبوع الثالث من الحرب، إذ افترض 56% فقط إمكان تحقيق الجيش أهدافه المعلنة)، كما أن مَن افترضوا أن التهديد الأمني في منطقة "غلاف غزة" سينتهي بالكامل، أو يتقلص على أقل تقدير، قد كانوا أغلبية (نحو 79% في الاستطلاع الخامس، وهو يمثل ارتفاعاً إضافياً عن قيم الاستطلاع الذي أُجريَ في الأسبوع الرابع، الذي افترض فيه 71% فقط نجاح الجيش، وهذا يمثل أيضاً ارتفاعاً في القيم الإيجابية من نتائج الاستبيان الذي أُجريَ في الأسبوع الثالث من الحرب، إذ افترض 65% فقط من المستطلعة آراؤهم نجاح الجيش).
  • بالاستناد إلى المعطيات أعلاه، يبدو أنه لا يوجد، ظاهرياً، مشكلة في ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلي، ولذا، ظاهرياً أيضاً، لا حاجة إلى التعامل مع هذا التحدي. إلا إن الصورة معقدة أكثر بكثير. فالتمحيص العميق للمعطيات، ودمجها في النظريات المتعلقة بموضوع الثقة، إلى جانب التقارير الإعلامية، أمور تؤشر إلى أن الثقة العالية التي يبديها الجمهور تجاه الجيش الإسرائيلي، من شأنها ألا تعكس، بالذات، انعدام الثقة بالجيش نتيجة أحداث السابع من تشرين، بل ربما تكون نتاجاً لإحدى ظاهرتين مهمتين، أو نتاجاً لتضافرهما معاً:
  • تعبّر المعطيات العالية عن الارتباط العاطفي الواضح للجمهور بالجيش الإسرائيلي خلال أوقات الحرب الصعبة؛
  • يحشر الجمهور الإسرائيلي أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر فيما يشبه "الكبسولة" المعزولة، وهو بذلك يؤجل تأثير هذه الأحداث في مواقفه بشأن الجيش، حتى انتهاء الحرب. وهذا ينطبق أيضاً على المطالب المتعلقة بإجراء تحقيقات مع الجيش، واستنفاد الإجراءات التحقيقية، وهو ما سيؤثر في مقاييس الثقة العامة بالجيش. من شأن هاتين الظاهرتين أن توضحا الفجوة القائمة بين الشعور العميق بتضرُّر الثقة الأساسية بالجيش، وبين إبداء الثقة العالية بقدرات الجيش الإسرائيلي على "تحقيق الانتصار" في هذه الحرب.
  • من المهم هنا الإشارة إلى أن منطلق الثقة بالجيش الإسرائيلي، ومن يقودونه، بحسب الاستطلاعات التي تُجرى في المجتمع الإسرائيلي في الأوقات الروتينية، لطالما كانت عالية، وهي تفوق الثقة بالحكومة والجهات السياسية المختلفة. وبناءً عليه، فمن المتوقع دائماً أن يكون هناك فجوة بين مؤشرات الثقة بهذه الأطراف.
  • في هذا السياق، ينبغي التركيز على التمييز بين "الروح المعنوية" و"الثقة". إن استعداد الجمهور لتأجيل مواجهته لمشاعر الخذلان إلى أن ينقشع غبار المعارك، لا يشير إلى أن الثقة بالجيش الإسرائيلي وأدائه لم تتضرر، بل لا يشير إلى أن منسوب الثقة بالجيش سيظل عالياً، بالضرورة، حتى ما بعد الحرب، بل إنه يعكس، بصورة أساسية، الحاجة المعنوية القائمة لدى الجمهور إلى عيش هذا الشعور. أسباب ذلك كثيرة، ومنها أنه يمكن استبدال مَن هم في مناصب سياسية عُليا، إذا لم يقوموا بأداء مُرضٍ، على عكس الحال مع الجيش الذي لا يمكن استبداله. لذلك، يعمل الأمر، كما لو كان آلية بقاء، ولذا، نشعر بالحاجة إلى التعبير عن ثقتنا بالجيش. واستكمالاً للتشخيص الذي أشار إليه الحاخام الراحل يوناتان زاكس، الذي يميز بين الحلف والتعاقد، يمكن القول إن هناك حلفاً قائماً بين الشعب والجيش، وليس تعاقداً. إن الحلف، على عكس التعاقد، فهو غير محدود بشروط معينة، وظروف زمنية، كما أنه لا يستند إلى الهيئة التي يكون التعاقد، في إطارها، هو الرابط الوحيد بين طرفين. إن الحلف القائم بين الشعب والجيش الإسرائيليَين، يخلق وحدة مصير، وهو لا يتيح للجمهور، عملياً، التشكيك في الجيش. هذه هي البنية الأساسية الثابتة والدائمة والقوية التي تنبع منها الثقة العالية بالجيش.
  • نضيف إلى ما تقدّم، أنه من المناسب الاهتمام بالفجوة القائمة بين أولئك الذين يعبّرون عن ثقتهم بأن الجيش الإسرائيلي سينتصر في المعركة، وبين الذين يفترضون أن الجيش سيحقق أهداف الحرب، أو يفترضون أنه سيتم القضاء على التهديد المحيق ببلدات "غلاف غزة"، إما بصورة تامة، أو أنه سيتقلص على الأقل. هذا الفرق بين الموقفين هائل ومهم، على الرغم من أنه تقلص قليلاً في استطلاع الرأي الخامس، وهو ما قد يشير إلى أن الثقة العامة للجمهور الإسرائيلي بانتصار الجيش لا تستند، بالضرورة، على إدراك قدرات الجيش، بل على الحاجة النفسية والمعنوية إلى الإيمان بذلك، بناءً على الحاجة إلى الحفاظ على الذات. إن كانت هذه هي الحال، فإن الحاجة إلى الإيمان بقدرات الجيش على الانتصار ستنخفض، عندما ينخفض الشعور الحاد بالتهديد الوجودي.
  • مزيد من التعزيز لفكرة أن الجمهور الإسرائيلي يضغط أحداث السابع من تشرين في كبسولة معزولة عن الحرب، متأتٍ من حقيقة أن ما يقارب نصف المستطلعة آراؤهم (48%) قيّموا أداء سلاح الاستخبارات حتى اندلاع الحرب، بصفته سيئاً، لقد قام أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم (54%) بتقييم أداء جهاز الاستخبارات بصفته جيداً جداً. ذلك بأن الجمهور يملك معلومات قليلة جداً عن أداء سلاح الاستخبارات خلال الحرب، يبدو أن هذا الفرق الشاسع بين ثقة الجمهور بالاستخبارات قبل الحرب وفي أثنائها، قد لا يستند إلى معرفة حقيقية، بل إنه يرتكز، بصورة أساسية، إلى الحاجة المعنوية إلى الإيمان بقدرات الجيش، وضمنها سلاح الاستخبارات، على القيام بدوره بأفضل وجه خلال الحرب.
  • يمكن تقصّي آثار انعكاس آخر مثير للاهتمام، فيما يخص مسألة تأجيل الجمهور لمحاكمة أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، في رسالة كتبها سكان كيبوتس نير عوز إلى قائد لواء الجنوب، الذين عبّروا فيها، من جهة، عن شعورهم بأنهم كانوا متروكين لمصائرهم في أحداث ذلك اليوم، بصورة واضحة ومؤثرة جداً، ومن جهة أخرى، عن مطلبهم بألّا يفكر، هو أو جنوده، بما حدث في الماضي، لكي يتمكن من تركيز جهوده على مسألة استرداد المخطوفين أحياء، وفي مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر. وفي نهاية هذه الرسالة، أكد كاتبوها أنه سيتم، بعد انتهاء الحرب، تحديد وقت للقاء يجمع قادة الجيش بسكان الكيبوتس، للإجابة عن أسئلتهم، وتقديم واجب العزاء لهم، ومشاركتهم مصابهم. إن كون هذه الرسالة حظيت بنسبة مشاركات واسعة، وأثارت أصداء شعبية كبيرة، يشير إلى أنها لا تمثل فقط سكان كيبوتس نير عوز أنفسهم، بل تعكس موقفاً سائداً في نفوس الجمهور عموماً، وفي نفوس المتضررين المباشرين من أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر على وجه الخصوص.
  • في حين ركّزت وسائل الإعلام الإسرائيلية، على مدار الأسابيع الأولى من الحرب، على مشاعر الخذلان التي شعر بها سكان "غلاف غزة"، قلّ الاهتمام الإعلامي بالأمر في الأسابيع التي تلت، وتم منح الصدارة لمسألة المخطوفين. إن هذا الانخفاض في تغطية الجانب الأول، من شأنه أن يخلق انطباعاً وهمياً أن شعورَي الخذلان والتخلي قد خبيا، وهو ما يجعل من الفائض عن الحاجة، ظاهرياً، مقاربة هذين الشعورين. إلا أنه من المشكوك فيه أن يكون هذا الأمر صحيحاً. ففي محادثات ولقاءات عُقدت مع سكان منطقة الجنوب، والمهجرين من بلدات الغلاف، يواصل هذا الموضوع الظهور، وهو ما يعكس الأذى اللاحق بالثقة بالجيش، حتى بعد شهر من الأحداث. إن عُمق الصدع المتخلّق في النفوس، يخلق شعوراً مفاده "يجب أن نتولى المسؤولية عن مصائرنا بأيدينا" [المقولة المناهضة للمهدوية، المنسوبة إلى بن غوريون، والتي في أصلها، تتحدث عن انعدام ثقة اليهود بالخلاص الإلهي، وهو ما أدى إلى الدفع في اتجاه بناء "وطن قومي"، بدلاً من انتظار المسيح]، وهو عملياً يعكس انعدام الثقة بقدرات الجيش على توفير الأمن، بأبسط مفاهيمه، بالاستناد إلى التعاقد القائم بينه وبين الشعب.
  • بناءً على ما تقدم، من المهم هنا التمييز بين أداء الجيش في الساعات والأيام الأولى من الحرب، والضرر اللاحق بالثقة به، في أعقاب هذا الأداء، من جهة، وبين الثقة التي يعبّر عنها الجمهور الآن، فيما يتعلق بالآتي من أيام الحرب، وبنتائجها. يتعلق هذا التمييز بتحليل مؤشرات الثقة، إلى جانب التدابير التي ينبغي اتخاذها من أجل ترميم الثقة بالجيش بعد انتهاء الحرب. من المحتمل، بمرور الوقت، وخصوصاً مع انتهاء الحرب، أن يستدخل الجمهور فكرة هول الكارثة والإخفاق، بحيث يتيح لنفسه توجيه أسئلة صعبة تؤثر إجاباتها في ثقته بالجيش أيضاً.
  • إن التحمل المباشر للمسؤولية عن الفشل من جانب المؤسسة العسكرية، هو خطوة أولى حاسمة وضرورية لاستعادة الثقة. وفي المقابل، فإن كون المستوى السياسي يمتنع بأسره تقريباً من تحمّل المسؤولية، من شأنه أن يمثل واحداً من أسباب انحطاط ثقة الجمهور به بصورة غير مسبوقة. إن الإنجازات الحربية التي ستحدث في ميدان المعارك، ستؤثر غالباً في القدرة على استعادة الجيش لثقة الجمهور بصورة كبيرة، في حين أن الجيش سيكون مطالباً بتوفير إجابات للمواطنين عن السؤال الذي لا يزال معلقاً: ما الذي حدث صبيحة السبت، السابع من تشرين الأول/أكتوبر؟ من المفهوم أن الإجابة عن هذا السؤال ستتضمن إغراقاً في سلسلة من الإخفاقات والإغفالات، لكن الإجابات الصادقة هي أفضل كثيراً من الفراغ، والفجوة التي لا يمكن جَسرها، بين النظر إلى الجيش على أنه جيش ذو قدرات عملياتية هي الأعلى في العالم، وبين إخفاقه في توفير الحد الأدنى من الأمن للمواطنين في منازلهم. بناءً عليه، تتمثل الخطوة الأولى في ترميم قدرات الجيش، بالاعتراف بالإخفاقات والفشل، وإصلاحها. إن الاعتراف والإصلاح هما أيضاً شرطان أساسيان لاستعادة الثقة، ولذا، لن يكون هناك خيارات أخرى، باستثناء الإجابة بصورة شافية عن الأسئلة الملحة في هذا الصدد.
 

المزيد ضمن العدد