إسرائيل تورطت في كمين إنساني
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
- بعد انتظار طويل، أدى إلى اهتراء أعصاب دولة كاملة، بدأ وقف إطلاق النار هذا الصباح (الجمعة). بالنسبة إلى كثيرين من الإسرائيليين والإسرائيليات، ومن ضمنهم عائلات النساء والأطفال الذين من المفترض أن يعودوا بعد أن أمضوا خمسين يوماً في الجحيم، فإن السبت المقبل سيكون هو السبت الأول الذي يحمل معه أسباباً للفرح، منذ أحداث سبت "فرحة التوراة" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. لكن، من ناحية أُخرى، فإن دخول وقف إطلاق حيز التنفيذ، يعني أيضاً سقوط إسرائيل في الكمين الإنساني الهائل الذي نصبه لها يحيى السنوار.
- يمكننا أن نفترض أن زعيم حركة "حماس" في قطاع غزة، والذي لم يتردد لحظة، وعرقل الصفقة، حتى بعد أن قام رئيس الحكومة و"وزير الأمن"، وبني غانتس، بالاحتفاء بها في المؤتمر الصحافي، لديه مخطط منظم للتسبب بوقف تام للنشاط الهجومي الإسرائيلي في قطاع غزة. تتمثل الخطوة الأولى في هذا المخطط، على ما يبدو، في صفقة متناهية الصغر، لكن ما تنطوي عليه من احتمالات، لا يقتصر على استعادة قواته المقاتلة النشاط، بعد ضغط هائل مورس عليها منذ نحو ثلاثة أسابيع ونصف، بل سلسلة من النشاطات التي قد تؤدي إلى إنهاء الحرب.
- واحدة من هذه الخطوات، على سبيل المثال، ستتمثل في إدخال وسائل الإعلام العالمية، مع التركيز على وسائل الإعلام الأميركية، ليكشف أمامها ما لا يعرفه أيضاً الجمهور الإسرائيلي: غزة المقفرة والمدمرة، بعد عمليات سحق هائلة مارسها سلاح جو متوتر وعصبي. مئات الجثث فوق الأرض وتحتها، ومعها المصابون. يجب ألّا يتملّكنا الشك: فبغض النظر عن شعورنا بصدق طريقنا، فإن العالم سيصاب بالصدمة. حتى المستشفيات الميدانية الموقتة التي ستقام في قطاع غزة، إلى جانب المساعدات التي ستدخل عبر مصر، ومن دول أُخرى، ستُراكم المصاعب أمام الجيش الإسرائيلي في المناورة في المنطقة، إلى جانب أنها ستؤدي إلى تصعيد الضغوط الدولية لوقف إطلاق النار بصورة تامة.
- ومن هنا، فإنه في غياب تحرُّك في خانيونس في جنوب قطاع غزة، قد يتعرض شعار "تقويض سلطة حماس" لخطر محقق. إن التصريحات الحازمة الصادرة عن كلّ من نتنياهو وغالانت وغانتس ورئيس هيئة الأركان، جيدة وجميلة في هذه الأثناء، إذ يتوق الجمهور إلى رؤية المخطوفات والمخطوفين، وهم يعودون إلى منازلهم. لكن الحكومة قامت بمخاطرة هائلة بموافقتها على صفقة صغيرة. حتى لو صدر الإذن الأميركي بمواصلة النشاط البري، فمن شأن هذا النشاط أن يخلص فقط إلى احتلال الأحياء الشرقية لشمال قطاع غزة (جباليا والزيتون)، ومناطق أُخرى، لكن جنوب القطاع سيظل معقلاً لكبار مسؤولي حركة "حماس" الذين فرّوا من شماله.
- يحدد المستوى السياسي أهداف الحملة، ويقوم بترسيم حدود القطاع الذي يعمل الجيش فيه، لكن الجيش أيضاً ارتكب خطأً فادحاً، بالاستناد الخاطئ إلى أن الساعة السياسية غير موجودة أصلاً: ففي موازاة العمل في شمال القطاع، كان يمكن الزجّ بفرقة إضافية في المعركة لضمان عدم تبديد الوقت، وتحقيق إنجازات في خانيونس أيضاً. لكن القيادة العليا للجيش احتفظت بهذا الخيار كخيار أخير، بناءً على عدة أمور، من ضمنها الخشية التي اعترت المستوى السياسي بشأن قدرات الذراع البرية: فحسبما هو معروف، بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، نجح أشخاص، على غرار الجنرال احتياط إسحق بريك، في الهمس في أذن رئيس الحكومة، وإقناعه بأن الجيش لن يكون على قدر التحدي. لكن، ابتداءً من تحقيق الفرقتين 162 و36 نجاحاً فائقاً (وقد كُشف الأمر منذ الأيام الأولى للاجتياح البري)، كان من الواجب الزجّ بمزيد من القوات إلى الجنوب، ولو بصورة محدودة، تضمن موطئ قدم يحول دون الوقف التام للنشاط البري. وليس غنياً عن القول إن سلاح الجو كان قادراً على توفير الغلاف الإسنادي للقوات بصورة لم تشهد الحملات مثلها في السابق، في حال جرى هذا.
- تقرأ المستويات الضابطية الميدانية الموقف، ولديها مصاعب في استيعابه. يقول أحد الضباط الكبار إن "لا أحد سيمنعنا من الوصول إلى خانيونس، وإلّا فإننا لن نحقق النصر على حركة ’حماس’". ويقول أحد قادة الفرق بلهجة أكثر حدة: "إن لم ندخل إلى خانيونس، يمكننا أن نعلن زوال الدولة". هذا الضابط ليس الوحيد الذي يعبّر بهذه اللهجة عن رأيه خلال اليوم الماضي. وعلينا أن نأمل بأن المصادقة على العمل البري في الجنوب ستصدر، لكن المخاطرة التي أخذتها القيادة السياسية على عاتقها، في ظل دعمها المطلق لقيادة المنظومة الأمنية (الجيش، والشاباك، والموساد)، تضع الإنجازات الكثيرة في موضع الشك، وتلقي ضوءاً غير إيجابي على عدم صدور قرار محاصرة خانيونس.
- نقطة أُخرى طرحها ضابط كبير يعرف قطاع غزة جيداً، في لقاء أجرته معه "يديعوت أحرونوت": يقول الرجل إن هناك حاجة إلى نشاط هجومي في منطقة لا يتحدث عنها أحد حتى الآن، وهي حدود رفح الفاصلة بين قطاع غزة ومصر، إذ إن حركة "حماس" أقامت تحت الأرض أنفاقاً تشبه الأوتوسترادات تماماً، واستخدمتها في عملية تسليحها ومراكمة قوتها خلال الأعوام الماضية، وذلك من خلال تهريب الوسائل القتالية. "لن يمكننا إنهاء الحرب هذه من دون معالجة هذه الأنفاق"، قال الضابط، "ولذا، علينا إدخال القوات، وتدمير الخط الأول من المنازل على الحدود، ومعالجة مسألة الأنفاق وتدميرها تماماً، وإلّا فإن حركة "حماس" ستعود لتسليح نفسها خلال وقت قصير".
- في هذا السياق، يقدّم معلومة لا تقل دهشةً: فالأنفاق الواقعة في شمال قطاع غزة، في النقطة الأقرب إلى الحدود مع إسرائيل، هي أنفاق عميقة، وطويلة، وعسكرية، بصورة تختلف تماماً، في جوهرها، عمّا قدّرته معلوماتنا الاستخباراتية. لم يتخيل أحد أن هذا ما سنعثر عليه هناك. لهذا السبب أيضاً، يُعدّ إنشاء منطقة عازلة أمنية، تحبط عمل الأنفاق من اتجاه رفح، إنجازاً عسكرياً رائعاً، وحلاً واجباً لهذه الحدود الإشكالية: هذه الأنفاق هي التي توصل الأوكسيجين إلى حركة "حماس".
- إن الإدراك السائد في صفوف الجيش الإسرائيلي، أن فترة وقف إطلاق النار، لن تقتصر حقاً على أربعة أيام، بل ستصل إلى عشرة أيام على الأقل (وتتلوها الحاجة إلى مصادقة الحكومة على العودة إلى النشاط العسكري)، بعكس ما تم نشره بالأمس، وهذا يتطلب مواجهة عدة تحديات غير بسيطة. فهذا الوقت طويل جداً بالنسبة إلى المقاتلين الإسرائيليين، الذين سيتوجب عليهم مواجهة مستوى مختلف من التوتر، مع إبداء الحد الأقصى من التأهب في مواجهة أي مشكلة قد تحدث. إن مهمة الضباط الإسرائيليين، الآن، تكمن في الحفاظ على الحصانة العقلية للمقاتلين، لكي يكونوا جاهزين للتحرك من جديد، في حال تطلّب الأمر ذلك.
- يضاف إلى ما تقدّم أن هناك تأهباً لحدوث أعمال إخلال بالنظام العام في شمال القطاع، ينفّذها غزيون هربوا إلى الشمال، ويرغبون في العودة، وقد تم تجهيز المقاتلين بالوسائل القتالية المناسبة للسيطرة على الجموع. لقد أوضح رئيس هيئة الأركان، الذي زار القطاع بالأمس، لضباط الميدان، أن عليهم مواصلة القتال بكثافة أعلى، حتى يصدر القرار "من فوق" بوقف القتال، كما عليهم الاستعداد لتجدُّد وقف إطلاق النار بصورة فورية، في حال حدثت خروقات كبيرة لقرار وقف إطلاق النار.
- ومهما يكن من أمر، وبغض النظر عن الطريقة التي سيستمر التحرك البري وفقها، فقد مثّلت الأسابيع الماضية أيضاً فرصة استثنائية لكي نرى الجيش الإسرائيلي عن قُرب، من عدة اتجاهات وزوايا، ابتداءً من المستوى التكتيكي الذي يقوم به قائد سرية بالتنسيق لهجمة دقيقة مع المقاتلات الجوية، ومروراً بقصص البطولة الاستثنائية للجنود في الميدان، ووصولاً إلى ما تحقق على المستوى المجتمعي في إسرائيل. لا بد من أنكم ستُسرّون، مثلاً، لسماع أن السلام لم يتحقق بعد بين إسرائيل والفلسطينيين، لكن يتضح أن مقاتلي لواء غولاني، والمظليين، صاروا يرفضون أن يكونوا أعداء [على مدار العام الماضي، جرت عدة مناكفات بين اللواءين، بلغت قمتها في شهر نيسان/أبريل الماضي، حين فرّ جنود سرية تابعة للكتيبة 51 في غولاني، من قاعدة "تصئليم" العسكرية، تاركين أسلحتهم فيها، احتجاجاً على نقل قائدهم من منصبه، واستبداله بضابط في سلاح المظليين]، إذ تتموضع مقرات اللواءين القيادية إلى جانب بعضها في مكان ما في جنوب البلد، وترفع رايات اللواءين متقاربة بصورة غير مسبوقة، وباتت العلاقة بين المقاتلين من اللواءين تسودها علاقات أخوية، كأنه لم تمر سنوات بينهما من الصراعات الداخلية، وصلت إلى أعلى المستويات.
- في الأحاديث التي تدور حول القتال هناك، يتضح أن حادثة تبادُل إطلاق نار من الجانبين، هي موضوع ساخن يتم التحقيق فيه بعناية، حتى في ظل المناورة البرية. وإلى جانب ذلك، يتعين على سلاح البر مواجهة تهديد متعدد الأبعاد: إذ إن حركة "حماس" تقوم بتشغيل طوافات مسيّرة متفجرة في الجو (إلى جانب الطوافات المسيّرة العاملة على جمع المعلومات الاستخباراتية التكتيكية)؛ وعلى الأرض، يقاتل "المخربون" بضراوة، إلا إن الواضح الآن أن اليد العليا هي لمقاتلي الجيش الإسرائيلي، بوضوح شديد؛ أما تحت الأرض، فهناك تحدّ كامن، ما من جيش في هذا العالم بأسره اضطر إلى مواجهته، ولم يُطلب منه القتال في هذا البُعد، فضلاً عن أن المعلومات الاستخباراتية لم تتوقع إلى أي حد سيكون الأمر معقداً.
- إليكم هذه القصة التي توقف شعر الرأس حقاً، والتي تكشف كيف كان يمكن أن يتلخص كل ما سبق في قرار واحد مصيري: في بداية الحرب، حسبما اتضح، وقعت ناقلتا جند مصفّحتان إسرائيليتان من طراز "نمر"، وهما تسيران جنباً إلى جنب، في كمين، وتمت مهاجمتهما من جانب "مخربي" حركة "حماس" الذين خرجوا جماعات من فوهات الأنفاق. ودارت في الموقع معركة شديدة، أطلق خلالها "المخربون" صواريخ مضادة للدروع، وحاولوا اقتحام المدرعتين. لقد أطلق مقاتلو غولاني النار عليهم من رشاشات الماغ (250)، ومن سلاحهم الشخصي، حتى انتهت ذخائرهم، وعندها صدر القرار بقصف "المخربين" مدفعياً، على الرغم من المسافة الضيقة التي تفصلهم عن المدرعتين. إن التوجيه الجديد المعمول به في صفوف الجيش الإسرائيلي، يفيد بأنه في مثل هذه الحالات يمكن إطلاق النار على المشتبه فيهم، حتى لو كان ذلك ينطوي على خطر إصابة قواتنا، القريبة من المكان.
- في هذه الحالة، صدرت الموافقة على القرار من أعلى المستويات: إذ أصدر قائد السرية توجيهاته للمقاتلين بالدخول إلى عرباتهم المدرعة كيلا يصابوا، أما القيادة المتقدمة في غولاني، فقد أصدرت أمرها بإطلاق القذائف (من المدفعيات، والراجمات، وطائرات الهليكوبتر العسكرية، وهو ما أسفر عن هروب "المخربين" وإنقاذ حياة المقاتلين. أوردُ هنا توصيفاً قصيراً وملخصاً لهذه القصة، لأسباب مفهومة، لكن ما جرى في تلك الحادثة كان أمراً درامياً حقيقياً، وانتهى من دون إيقاع إصابات في صفوف قوات الجيش الإسرائيلي. لقد قامت قواتنا حقاً بإطلاق النار على قواتنا.
- في أحيان أُخرى، يكون هناك أيضاً حوادث مسلية. لدى زيارة موقع القيادة المتقدمة من سلاح المظليين، أمسك ضابط الاستخبارات في اللواء بيده وثيقة تم العثور عليها في أحد مقرات حركة "حماس"، يصف بنية لواء المظليين، بما يشمل صور قائد اللواء السابق، وضباط آخرين أنهوا خدمتهم منذ وقت ليس ببعيد. وقد ورد في الوثيقة وصف للّواء يقول إنه "يتكون من 90 في المئة من الأشكيناز، و10 في المئة من اليهود الشرقيين".
- حسناً، يسعدني أن أعلن أن معلومات حركة "حماس" الاستخباراتية ليست دقيقة في هذا الجانب على الأقل، فإذا ما رغبت في التوقف عن المزاح، علينا أن نتعلم من هذه القصة، مدى الدقة الاستخباراتية التي وصل إليها عدونا، وإلى أي حد هو قادر على العثور على كعب أخيل لدينا.