العلاقات الأميركية – الإسرائيلية في ضوء استمرار المعركة في غزة
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • تواصل الإدارة الأميركية، حتى بعد مرور شهرين على القتال، تقديم الدعم إلى إسرائيل، وتتجنب إطلاق أي تصريح علني تستشف منه الدعوة إلى وقف إطلاق النار، بل وتحول أيضاً دون اتخاذ قرار في مجلس الأمن الدولي بهذا الشأن. ولقد أكد نائب مستشار الأمن القومي الأميركي، جوناثان فاينر، في 7 كانون الأول/ديسمبر، أن الأميركيين لم يعطوا الإسرائيليين "موعداً نهائياً لإنهاء العمليات القتالية الرئيسية في المعركة"، مضيفاً أنه "إذا ما انتهت الحرب اليوم، فإن حركة ’حماس‘ ستستمر في تشكيل تهديد على إسرائيل، وبالتالي، فإن الولايات المتحدة لا تطلب من إسرائيل التوقف." وأضاف قائلاً: "إننا نعتقد أن هناك كثيراً من الأهداف العسكرية المشروعة المتبقية في جنوب قطاع غزة." ومن جهتها، أكدت نائبة الرئيس، كامالا هاريس، لدى استعراضها سياسة الإدارة في الثاني من كانون الأول/ديسمبر خلال مشاركتها في مؤتمر المناخ الذي عُقد في دبي، أن الرئيس بايدن متمسك بنهجه الذي يقول إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد السلوك "الوحشي والمروع" الذي تمارسه حركة "حماس"، وبذلك، فإن الإدارة تؤيد "الأهداف الإسرائيلية الشرعية المتمثلة في القضاء على تهديد ’حماس‘."
  • ومع ذلك، فقد كررت هاريس بلهجة أكثر حدة الشروط الأساسية التي وضعتها الإدارة منذ بداية الحرب، والمتمثلة في التزام قواعد القانون الدولي في كل ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية والمحافظة على حياة المواطنين "الأبرياء". وفعلاً، ومنذ استئناف القتال، وعلى خلفية القلق الأميركي من أن يؤدي التحرك البرّي في جنوب قطاع غزة إلى إلحاق ضرر واسع بالمدنيين، فقد تصاعدت بصورة كبيرة النداءات التي وجهها كبار المتحدثين الأميركيين إلى إسرائيل لتجنُب المس بـ"الأبرياء". وقد قام وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستين، في معرض تطرُقه إلى الدراسات المستفادة من الحرب في المناطق الحضرية في العراق، بالقول: "في إمكانك الانتصار في الحرب المدينية [داخل المناطق المبنية]، عبر حماية المدنيين"، وأضاف قائلاً: "إن كنت تدفع بـ[مواطني قطاع غزة] إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل نصراً تكتيكياً بهزيمة استراتيجية."
  • لكن الأميركيين، بمن فيهم وزير الخارجية بلينكن، يؤكدون أيضاً أن إسرائيل تصغي إلى الدعوات الأميركية إلى تقليص المساس بالأبرياء، على الرغم من كون ذلك غير كافٍ بعد، ومن هذه التصريحات يُشار إلى تصريح الناطق باسم مجلس الأمن القومي الذي كال المديح لجهود إسرائيل في تنفيذ هجمات دقيقة الإصابة، ونشر خريطة المناطق الآمنة، واستعرض هاتين الخطوتين بوصفهما إجراءين استثنائيين إذا ما قورنا بمسلكيات الجيوش المعاصرة الأُخرى. وقد أتى تصريح الناطق المذكور بعد أن قام مستشار الأمن القومي، جاك ساليفان، قبل ذلك باتهام حركة "حماس" بخرق وقف إطلاق النار عقب رفض التنظيم إطلاق سراح النساء المختطفات اللائي بقين في قبضته في إطار الصفقة.
  • وتحرص الإدارة أيضاً، في كل فرصة، على استعراض المبادئ التي تفترض أنها تشكل الأساس لصوغ "اليوم الذي يتلو الحرب"، والتي تم صوغها في بداية الحرب في سياق حوار داخلي أميركي، ومع شركاء في الإقليم والساحة الدولية، والتي ترتكز على الأمور التالية: لن يُسمح بتهجير السكان، ولن يتم فرض حصار، أو أن يكون هناك احتلال جديد، ولن يُسمح بتقليص المناطق، ولن يعود قطاع غزة منصة لـ"الإرهاب". وعلى ذلك، تؤكد الولايات المتحدة أنها تسعى إلى رؤية كل من قطاع غزة والضفة الغربية موحدتين تحت سلطة فلسطينية "مجددة". أمّا في الحوار الذي خاضته نائبة الرئيس مع جهات إقليمية، فقد أكدت وجوب التوصل إلى توافق ودعم إقليمي لثلاثة مجالات رئيسية سيؤدي تطبيقها إلى إنهاء الصراع، بحيث لن تعود "حماس" إلى السيطرة على قطاع غزة، وستصبح إسرائيل آمنة. وفي المقابل، سيتمتع الفلسطينيون بأفق سياسي كامل، وأمل بوجود فرص اقتصادية وحرّية، وهذه المجالات هي:
  • إعادة الإعمار: يجب على المجتمع الدولي تخصيص موارد كبيرة لدعم عملية إعادة إعمار قطاع غزة، على المديين القصير والبعيد.
  • الأمن: يجب تعزيز قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية إلى أن تصبح، في نهاية المطاف، قادرة على تولي المسؤولية الأمنية في قطاع غزة، وحتى ذلك الحين، هناك حاجة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية مقبولة لكل من إسرائيل وسكان قطاع غزة، والسلطة الفلسطينية والشركاء الدوليين. كما أنه لن يُسمح لـ"الإرهابيين"، بأي طريقة، "مواصلة تهديد إسرائيل."
  • الحوكمة: يجب إعادة تجديد السلطة الفلسطينية (Revitalized) بحيث تخدم إرادة الشعب الفلسطيني بطريقة تتيح له التمتع بسيادة القانون وحكومة تعمل بشفافية من أجل مصلحته. وفي نظر الإدارة، فإن هذه السلطة الـ"مجددة" ينبغي أن تكون قادرة على السيطرة على قطاع غزة والضفة الغربية.
  • بالاستناد إلى تحليل كل التصريحات الرسمية الصادرة عن ناطقين باسم الإدارة (يشمل المقال الذي نشره الرئيس بايدن في الواشنطن بوست في 18 تشرين الثاني/نوفمبر)، يتضح أن الإدارة الأميركية لا تزال تعتقد أن النهج العسكري الذي تتبعه إسرائيل ضد حركة "حماس" قادر، عملياً، على هزيمة الحركة، وبالتالي، على فتح فرصة لإعادة صوغ الوضع في القطاع، وفي الشرق الأوسط أيضاً، حتى لو قامت الإدارة في بعض الأحيان بتوجيه الانتقادات إلى سلوك الجيش الإسرائيلي في المعارك. ويضاف إلى ما تقدم أن بايدن يدرك أهمية التطورات التي تحدث، وهي أحداث من المتوقع أن تترتب عليها نتائج استراتيجية فيما يتعلق بموازين القوى في الساحة الدولية على مدار السنوات المقبلة، ويبدو أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أنه من دون إلحاق الهزيمة بـ"حماس" وتدمير قدرتها على السيطرة على قطاع غزة، فإن "محور الشر"، بحسب مفهومه، والذي يشمل كلاً من الصين، وروسيا، وإيران، وحليفاتها، سينتصر. وهذه نتيجة لن تتمكن الولايات المتحدة من التسليم بها.
  • إن الإدارة الأميركية على علم بالانتقادات العديدة الموجهة إلى سياساتها، سواء من جانب أعضاء الكونغرس الديمقراطيين أم من جانب القطاعات التي تدعم، تقليدياً، الحزب الديمقراطي في صفوف الشعب الأميركي، فضلاً عن التحفظات التي تبدو متزايدة لدى بعض المسؤولين الأميركيين في كل من وزارة الخارجية والبيت الأبيض. وفي هذا الصدد، تم تناقل تقارير تفيد بأن 500 من أعضاء الإدارة الأميركية أرسلوا رسالة انتقادية استثنائية بهذا الشأن، ويظهر هذا الانتقاد أيضاً في الاستطلاعات المثيرة للقلق المتزايد لدى الحلقة المحيطة ببايدن. كما أن الإدارة الأميركية على وعي بالهجمات المتصاعدة الموجهة إلى كل من إسرائيل والإدارة الأميركية في الصحف الأميركية الرائدة، وخصوصاً على صفحات كل من "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" التي تصعّد، بدورها، من حدة الانتقادات في الكونغرس وفي أواسط الشعب، وعلى الرغم من ذلك، فإن الرئيس يواصل إطلاق رسائل توضح اقتناعه بصدقية موقفه. ومن المعقول افتراض أن الإدارة معنية بإحداث حسم سريع في المعركة ضد "حماس" (وقد ورد في وسائل الإعلام بأن وزير الخارجية أنتوني بلينكن قد تحدث عن مدة قتال تستمر إلى بضعة أسابيع، لا عن أشهر). ومن جهة أُخرى، فإن الإدارة الأميركية هي التي تطالب إسرائيل باتباع الحذر، وهو ما يلزم الجيش الإسرائيلي بالعمل مع أخذ القيود التي تطلبها الإدارة الأميركية بعين الاعتبار. وقد ظهرت الاستجابة الإسرائيلية الجزئية لمسألة إدخال المساعدات الإنسانية، بما فيها الوقود، وتلافي الإضرار بالأبرياء قدر الإمكان ميدانياً، وهو ما يساعد الإدارة في التمسك بدعمها للخطوة العسكرية الإسرائيلية.
  • يشكل موقف الإدارة الأميركية فرصة حقيقية لإسرائيل، لأن قوة هذه الإدارة وإصرارها على تقديم الدعم إلى الأخيرة ينطويان على إيصال رسالة رادعة وواضحة إلى خصومها، وخصوصاً إيران. وإلى جانب ذلك، فإن الرؤية التي تضعها الإدارة الأميركية بشأن "اليوم الذي يتلو الحرب"، إلى جانب طموحها في استمرار الترويج لتوسيع التطبيع بين إسرائيل والسعودية، يتطابقان مع مصالح إسرائيل، ويبدو أنهما يتسقان مع مصالح الرياض أيضاً، التي تنتظر رؤية كيفية انتهاء الحرب في غزة. ويتمثل الهدف الإسرائيلي المتعلق بـ"اليوم الذي يتلو الحرب" في تحقيق الأهداف العسكرية، لكنه أيضاً ينبغي أن ينطوي على إجراءات تضمن تمسُّك الإدارة الأميركية بموقفها المذكور، وهو ما يؤدي إلى إجراءات لإعادة ترسيم الواقع الاستراتيجي في الإقليم، والذي من المفترض أن يتمثل هدفه النهائي في إضعاف أعضاء "المحور" وتعزيز الدافعية والاهتمام لدى الجهات العربية المعتدلة في تحسين علاقاتها بإسرائيل.
  • وعلى الرغم من إدراك أن الإدارة الأميركية لديها مصلحة واضحة وراء دعم إسرائيل إلى أن تحقق الأخيرة أهدافها العسكرية، إلاّ إنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن هناك تغييراً جارياً في الموقف الأميركي، وهناك علامات أولية لذلك وإن تغييراً كهذا ربما يكون سريعاً، وتترتب عليه آثار بعيدة المدى في حيز المناورة السياسية والعسكرية الإسرائيلي، ويبدو أن التحول في الموقف الأميركي يمكن أن يحدث بسبب تشكيلة من التطورات الجارية على محورين رئيسيين: الأول؛ إدراك أن إسرائيل تلاقي مصاعب في تحقيق الأهداف العسكرية في ظل إطار زمني محدود، وخصوصاً إذا أدت المسلكية الميدانية الإسرائيلية إلى حدوث أزمة إنسانية كبرى إضافية أو إلحاق أذى كبير بالمدنيين و/أو اتساع حلقة الحرب نحو الجبهة الشمالية، ونشوء واقع تنجر الولايات المتحدة في سياقه وبصورة مباشرة إلى المعركة. وتحاول الإدارة اليوم التحلي بضبط النفس في مواجهة التوسع الملحوظ في الهجمات التي تنفذها ميليشيات مؤيدة لإيران في كل من العراق وسوريا ضد أهداف أميركية، بالإضافة إلى النشاط "الإرهابي" المتزايد الذي يمارسه الحوثيون في البحر. كما أن الإدارة واعية بشأن التحدي الأمني الذي تواجهه إسرائيل على الحدود الشمالية، لكنها حتى اللحظة معنية بحل هذا الصراع بوسائل دبلوماسية.
  • إن القدرة على ضمان استمرار الوقوف الثابت للإدارة الأميركية إلى جانب إسرائيل ستتطلب من الأخيرة مواصلة الانتباه إلى مصالح الولايات المتحدة فيما يتعلق بالواقع الأمثل في قطاع غزة، ودَمْجِه في ترتيب أوسع داخل إطار الحل السلمي الشامل للقضية الفلسطينية. ومن الواضح، حتى الآن، أن الإدارة الأميركية تشعر بالإحباط من غياب الاستعداد الإسرائيلي لمناقشة مسألة "اليوم الذي يتلو الحرب" بصورة جدية. وفي نهاية المطاف، فإن الأهداف البعيدة المدى بين البلدين هي أهداف مشتركة؛ القضاء على التهديدات، وضمنها التهديدات في الجبهة الشمالية أمام حزب الله، واستقرار محيط إسرائيل وضمان الاستقرار الأمني لفترة طويلة. ولهذا الغرض، فإن الإدارة ستحتاج إلى تعاون من جانب إسرائيل في مسألة صوغ طريقة دمج جهات فلسطينية رائدة، وهي جهات تصفها الإدارة بقولها "سلطة فلسطينية مجددة"، وفي الدفع قُدُماً في اتجاه عملية سياسية توصل في نهاية المطاف إلى تطبيق رؤية دولتين لشعبين. إن التعاون في تحقيق هذه الأهداف سيسهل على الإدارة تجنيد دعم جهات إضافية في الحلبتين الدولية والإقليمية، من أجل ضمان تدخُّلها الفعال في الإجراءات التي ستكون لازمة من أجل تحقيق استقرار قطاع غزة، وإعادة إعماره على مدار السنوات المقبلة.
 

المزيد ضمن العدد