حرب التوافق التام، حرب الصمت المطبق
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • تاريخنا بأسره، لم يشهد حرباً مثل هذه الحرب. إنها حرب التوافق التام، حرب الصمت المطبق، حرب الدعم الأعمى. هي حرب بلا معارضة، وبلا احتجاج، وهي حرب من دون رفض، وبلا كتلة برلمانية رافضة، لا في بدايتها، ولا في ذروتها. إنها حرب بالإجماع، حرب بتأييد الجمهور الإسرائيلي الشامل، الجمهور من أقصاه إلى أقصاه (وهذا لا يشمل المواطنين العرب الذين حُظرت المعارضة عليهم). هي حرب بلا علامات استفهام، بل هي حرب بلا ذرّة تشكيك.
  • هل الحرب التي أسفرت عن مقتل نحو 20 ألف إنسان في قطاع غزة، هم، في معظمهم، من الأبرياء، الحرب التي أسفرت عن تدمير بيوت، وحيوات سكان قطاع غزة، بأسره تقريباً، هي الحرب الأكثر عدالة في تاريخ إسرائيل؟ هل الحرب التي تتسبب بمثل هذه المعاناة المروّعة لأكثر من مليونَي إنسان، هي الحرب الأكثر أخلاقيةً في حروب إسرائيل؟ إن كانت الإجابة لا، فكيف لا نسمع هنا صوتاً يدعو إلى وقف حمّام الدم؟ بل، كيف لا نجد صوتاً يرفض الحرب، نظراً إلى نزيف الدم المتزايد من جنود الجيش الإسرائيلي، وكيف لم ينبثق بعد السؤال التالي: حتّام وإلى متى؟
  • حروب إسرائيل، في معظمها، كانت حروباً اختيارية. في البداية، لاقت تأييد معظم المجتمع الإسرائيلي، تقريباً، لكن سرعان ما بدأت المعارضة بالظهور، بعد اتّضاح الأثمان الفظيعة، وعدم جدوى التحرك العسكري. وعندما انتهت هذه الحروب، بات الكثيرون جداً ممن في صفوفنا يقفون ضدها. وأصبح المعارضون لهذه الحرب، بمفعول رجعي، أكثر من أن يُعَدّوا. هذا ما حدث في حربَي لبنان السخيفتَين، وهذا ما حدث في جميع الهجمات ضد قطاع غزة والضفة الغربية. هذه الحروب، جميعها، كانت أقصر من الحرب الراهنة التي لا يمكن لأحد أن يتنبأ بنهايتها. وها نحن في حربٍ يؤيدها الجميع، وما من أحد يطرح التساؤلات بشأنها. إن وسائل الإعلام تقوم بغسل الأدمغة بكثافة لم نشهد لها مثيلاً: يبدو الإعلام كجوقة من مدّعي النزاهة، هذا إن لم أرد أن أصفهم بأنهم جوقة أناشيد الجيش الأحمر السوفياتي. هذه الجوقة التي تصل الليل بالنهار في الأستوديوهات، أمّا مَنْ بدأت الشكوك تتسرب، ربما، إلى قلبه، فلن يجرؤ على التحدث عنها علناً. حسناً، "معاً سننتصر!" [الشعار الذي ترفعه إسرائيل لهذه الحرب].
  • هذا مسار حرب اندلعت في إثر هجوم "بربري وإجرامي"، لكن هذه الحرب، لا شيء يلجمها منذ اندلاعها. لا حدود لهذه الحرب، وفي المقابل، ما من جدل بشأنها، ولا معارضة لها. إن صدقية هذه الحرب في بدايتها، في نظر الإسرائيليين اليهود، تبرّر كل ما سيحدث في أثنائها. أما الآن، بعد مرور شهرَين فظيعَين، ربّما بدأت الشكوك بالتسلل إلى الأنفس.
  • لن تجدوا في أوساط المجتمع العربي مَن لا تصدمه المشاهد الفظيعة الآتية من قطاع غزة، فضحاياها هم إخوتهم وأبناء عائلاتهم، وهم، بعكس اليهود، يشاهدون ما يجري في قطاع غزة، وهو انكشافٌ يُحرَم اليهود منه بفضل الإعلام البائس والدعائي. لكن "عرب إسرائيل" ليس في إمكانهم الاحتجاج. إذ إن الحكومة الراهنة تهدد العرب أكثر من جميع سابقاتها، وتقوم بتكميم الأفواه بوحشية، وتزج بالمواطنين في السجون. الآن، يعيش "عرب إسرائيل" في ظلّ رعب، الرعب من السلطة، والرعب من الشارع اليهودي، وهو رعبٌ لم نشهد مثله منذ نكبة 1948.
  • في الشارع اليهودي أيضاً، وعلى الرغم من التوافق التام والساحق على تشريع الحرب، بكل ما تنطوي عليه من جرائم، هناك بالتأكيد مَن بدأوا يدركون الفظائع التي ترتكبها إسرائيل، لكن الخوف من الانتقام كبير هنا أيضاً، بسبب الرعب الذي تفرضه الحكومة الراهنة، والشارع الإسرائيلي و"المستيقظون" [التوصيف السائد للشخصيات "اليسارية" الإسرائيلية التي أعلنت أنها "استيقظت" من أوهام التعايش، بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى]. والنتيجة: حرب بلا معارضة.
  • حتى في روسيا بوتين، هناك مظاهر معارضة للحرب في أوكرانيا أكثر من تلك الموجودة في إسرائيل، التي يُفترض أنها ديمقراطية. هذا لا يعني أننا نساوي بين الحربين من ناحية عدالة مساعيهما، فالجريمة في أوكرانيا كانت أفظع بلا حدود، لكن الوسائل المستخدَمة في الحربين، ونتيجتهما، جعلتهما أكثر تشابهاً من ذي قبل. نحن نشهد مظاهر الفظاعة في كلتيهما، ومعاناة لا حدّ لها لملايين الأبرياء، وكل ذلك في سبيل تحقيق أهداف عبثية.
  • ليس من شأن المعاناة في قطاع غزة أن تحقق أي إنجاز لإسرائيل. لقد اقترب فصل الشتاء، وهذه المعاناة ستتضاعف مرتين وثلاثاً أكثر مما هي عليه الآن. لم تزرع إسرائيل، على امتداد وجودها، دماراً مثل هذا الدمار، ولم تُقتِّل في حياتها كلها مثل هذا العدد من الأطفال والمسنين، كما فعلت في هذه الحرب. وفي الوقت الذي يركّز الخطاب الإسرائيلي العام على الإنجازات العسكرية، سواء أكانت حقيقية، أم متخيّلة، إلى جانب الإصرار على التمرغ بصورة لا نهائية في المعاناة الإسرائيلية، والإصرار على التركيز على معاناة الإسرائيليين وحدهم، لا غيرهم، وإلى جانب هذا كله، الانقضاض على أي مظهر من مظاهر معارضة الحرب، تصبح النتيجة واضحة: من ناحية الإسرائيليين، يمكن الاستمرار في هذه الحرب إلى ما لا نهاية، ويمكن قتل جميع سكان قطاع غزة، وتدميره بأسره، وإلى الأبد. هكذا، يصير هذا الفعل هو الفعل الأكثر أخلاقيةً، والأكثر عدالةً.
 

المزيد ضمن العدد