الصين وحرب "السيوف الحديدية"
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

المؤلف
  • يُخصَّص قدر كبير من اهتمام الرأي العام الإسرائيلي لتصريحات ومسلكية الولايات المتحدة إزاء حرب "السيوف الحديدية"، وهو يتمحور حول الموقف الواضح والثابت لإدارة بايدن بالوقوف إلى جانب إسرائيل. إلّا إن انتباهاً قليلاً يُخصَّص لأقوال وأفعال الدولة التي ترى نفسها المنافِسة الأساسية للولايات المتحدة، أي الصين. صحيح أن الاهتمام الإسرائيلي بالصين بدأ قبل الحرب، حين أعلن نتنياهو في حزيران/ يونيو 2023 خبر زيارة مرتقبة له للصين، في حين سُربت تصريحاته في اجتماع اللجنة البرلمانية للخارجية والأمن، والتي مفادها أن دخول الصين إلى الإقليم هو أمر جيد لأنه سيفرض حضوراً أميركياً. أثارت هذه النيات انتقادات كثيرة، لأنها فُسّرت بأنها محاولة من نتنياهو لإعادة نظر إسرائيل في موقفها بشأن التوازن بين القوتين العظميَين المتخاصمتين. يُذكر أن إعلان الزيارة  لم يأتِ من دون سياق، بل صدر بعد بضعة أيام على قيام محمود عباس بزيارة للصين، ولقائه الرئيس الصيني شي جين بينغ.
  • في ذلك اللقاء بين عباس وبينغ، والذي عُقد قبل أقل من أربعة أشهر من اندلاع الحرب، صرّح الرئيس الصيني بأن "الصين كانت من ضمن الدول الأولى التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية وفلسطين... وأنها تؤيد منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة... وأن الصين ستواصل، بقدر استطاعتها، تقديم المساعدات لفلسطين، وستساعدها على مجابهة المصاعب الإنسانية"... بعد اندلاع الحرب، أعلنت الصين التزامها مساعدة الفلسطينيين بلا هوادة، في عدة مناسبات، منها بعد أقل من أسبوع على "مجزرة" السابع من تشرين الأول / أكتوبر، وقبل إطلاق إسرائيل العملية البرية في القطاع، ودعا المبعوث الصيني الخاص إلى الشرق الأوسط، جاي جون، إلى عقد اجتماع طارئ مع ممثلي جامعة الدول العربية، كرر فيه التزام الصين تجاه الفلسطينيين. في الشهر نفسه، زار هذا المبعوث الإقليم، ودعا إلى وقف إطلاق النار والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، مع رفضه الإشارة بصورة واضحة إلى منظمة "حماس الإرهابية"، ورفضه اعتبارها مسؤولة عن "المجزرة".
  • بيْد أن الكلام شيء والأفعال شيء آخر؛ ففي حين انحازت الصين، خطابياً، إلى جانب الحق الفلسطيني، إلّا إن "قدر استطاعتها"، بحسب الرئيس الصيني،عملياً، لم يكن سوى مبالغ صغيرة. فعلى سبيل المثال، قدمت الصين، حتى نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، مساعدات إنسانية لا تتجاوز المليونَي دولار، حوّلتها عبر مصر. يُعتبر هذا المبلغ ضئيلاً إذا ما قورن بإمكانات المساهمة الصينية، فضلاً عن كونه منخفضاً، مقارنةً بمساهمات الدول الأُخرى. في الوقت نفسه، تبرعت اليابان بنحو 7 ملايين دولار لوكالة "الأونروا"، وتعهدت المساهمة بمبلغ إضافي قدره 65 مليون دولار، في حين تبرعت الولايات المتحدة، التي تقف مع إسرائيل بالكامل، بعكس الصين، بمبلغ يصل إلى نحو 100 مليون دولار، عبر وكالات الأمم المتحدة المختلفة.
  • على الرغم من أن الصين وصفت موقفها من الحرب بأنه "موضوعي"، من خلال عدة تصريحات، من ضمنها تصريحات وزير الخارجية الصيني، وانج يي، وفي المحادثات مع وزير الخارجية الأميركي بلينكن، فإن الصين وضعت نفسها، عملياً، في المحور المناهض للغرب. وفي تشرين الأول / أكتوبر، تحدث الدبلوماسي الصيني الأعلى رتبةً مع نظيره الإيراني عبد اللهيان، وصرّح بأن الصين "تؤيد تعزيز وحدة الدول الإسلامية" إزاء الحرب. وقبل ذلك بيوم، وفي لقاء مع نظيره السعودي، تقدم وانج يي خطوة إضافية أبعد، حين قال إن نشاطات إسرائيل تجاوزت الدفاع عن النفس، وأن عليها وقف العقوبات الجماعية في غزة. حدث هذا كله قبل الاجتياح البري. وفي لقاء عُقد في قطر بين المبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط ونظيره الروسي، صرّح المبعوث الصيني بأن الدولتين شريكتان في موقفهما تجاه إسرائيل والحرب، وبعد أسبوعين، صرّحت الناطقة بلسان وزارة الخارجية بأن موقف الدولة الصينية يماثل موقف أغلبية الدول الإسلامية والأفريقية، وهذا الموقف كرره لاحقاً وزير الخارجية الصيني في لقاء عقده مع وزير الخارجية الإيراني.
  • تلقي هذه التصريحات بظلال من الشك على مدى موضوعية الصين فيما يتعلق بالصراع، وهي الموضوعية التي ادّعتها الصين، وطالبت "الدول الكبرى" بتبنّيها خلال النزاع. علاوةً على ذلك، وخلال الحرب، تبنّت الصين في تصريحاتها مصطلح "إسرائيل على وجه الخصوص". وهكذا، وتحت غطاء الموضوعية، دعت الصين في كثير من المناسبات "جميع الجهات" إلى خفض حدة التوتر والعنف، مضيفةً عبارة "وخصوصاً إسرائيل"، لكي توضح أي جهة تقصدها بتصريحاتها.
  • إن الافتقار إلى الموضوعية، والانخراط التام في الكتلة المناهضة للغرب، وجدا طريقهما أيضاً إلى مجلس الأمن الدولي، والصين عضو كامل فيه. هكذا، وابتداء من 18/10/2023، قبل إطلاق الحملة البرية في القطاع، صوتت الصين لمصلحة وقف إطلاق النار، وهو تصويت صدّته الولايات المتحدة باستخدام حق النقض. ولاحقاً، في الشهر نفسه، استخدم كلّ من الصين وروسيا حق النقض لمقترح أميركي تحدث عن حق إسرائيل في حماية نفسها، ودان "حماس"، ودعا إلى الإطلاق الفوري لسراح المخطوفين الإسرائيليين. وعلى الرغم من أن 10 دول (بريطانيا، وسويسرا، ومالطا، واليابان، وغانا، والغابون، وفرنسا، والإكوادور، وألبانيا، والولايات المتحدة) صوتت لمصلحة القرار، فإن الصين استخدمت حق الفيتو ضده لأن القرار لم يدع إلى وقف فوري لإطلاق النار، على الرغم من أن القرار نفسه لم يعارض وقف إطلاق النار. وفي تشرين الثاني / نوفمبر، إلى جانب عمليات التصويت على قرارات وقف إطلاق النار، تم عقد جلسة طارئة انصبّ تركيزها على حالة الأطفال والنساء في الحرب. في تلك المناسبة، طلب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة من روث قادري، عضو لجنة الأمم المتحدة لمحاربة العنف ضد المرأة، إحاطة المجلس بشأن العنف الجنسي الذي نفّذته عناصر "حماس" في السابع من تشرين الأول / أكتوبر، إلّا إن الصين، التي كانت تشغل منصب الرئاسة الدورية للمجلس، رفضت الطلب. وعملياً، منذ الأيام الأولى للحرب، كشفت الصين عن تصوُّرها بأن الحرب فرصة لكسب نقاط في المواجهة المستمرة بينها وبين الولايات المتحدة، إذ اتهمت واشنطن بتصعيد الحرب بصورة قد تؤدي إلى كارثة إنسانية. كما اتهمت الصين الدول الغربية بالنفاق المتمثل في الإكثار من الحديث عن حقوق الإنسان، لكنها تتجاهل الموضوع في الحرب الدائرة بين إسرائيل و"حماس".
  • كما هي الحال في دول أُخرى، منذ اندلاع الحرب، شهدت الصين ارتفاعاً في نسبة معاداة السامية، وكان هناك فجوة بين الأقوال والأفعال لمعالجة هذه الظاهرة الخطِرة. حين وجّه مراسل شبكة "بلومبرغ" سؤالاً إلى الناطق بلسان الخارجية الصينية عن "موجة معاداة السامية المنتشرة في شبكات التواصل الاجتماعي" في الصين، فأجاب بأن القانون الصيني يحظر نشر الكراهية العرقية، والتمييز، والعنف عبر الإنترنت. وعلى الرغم من أن سؤال المراسل لم يتطرق مطلقاً إلى الحرب في غزة، أو النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن الناطق افتتح رده بالتطرق إلى النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، قائلاً إن "الصين تدعو إلى وقف الحرب بصورة عاجلة، وإلى حماية المدنيين، وإقامة دولة فلسطين المستقلة، والتوصل إلى تعايُش ما بين فلسطين وإسرائيل، استناداً إلى حل الدولتين". لكن، وبعكس الرد القاطع الصادر عن الناطق بلسان الخارجية الصينية، فإن معاداة السامية سائدة في أوساط مستخدمي منصة تيك توك، شبكة التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية، المملوكة لشركة Bytedance الصينية.
  • تزامناً مع موجة التعاطف التي سادت الشبكة مع منشور "رسالة إلى أميركا" التي كتبها القاتل أسامة بن لادن، وإعلانات كثيرين من المؤثرين الإسرائيليين بشأن حذف مضامينهم بصورة غير عادلة من الشبكة، فإن التجربة التي نفّذتها Wall Street Journal أثبتت تحيُّز هذه المنصة. في إطار التجربة، قامت هيئة تحرير المجلة بفتح عدة حسابات وهمية في التطبيق، وخلال ساعات معدودة، تلقت هذه الحسابات مضامين تتعلق بالحرب في قطاع غزة، في أغلبيتها العظمى، مناهضة لإسرائيل. هذا التمييز دفع باراك هيرشكوفيتس، المسؤول عن القطاع العام في تيك توك إسرائيل، ومستشار رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت، إلى الاستقالة، بعد أن حذّر إدارة الشركة من تحيُّزها للمضامين العنيفة والمناهضة لإسرائيل. وبحسب تقرير صادر عن رابطة مكافحة التشهير اليهودية الأميركية (ADL)، فإن الحديث هنا لا يدور عن أحاسيس، بل عن خوارزمية خاصة بالتطبيق لا تقوم بمسح أو تقصّي المضامين اللاسامية المنشورة على هيئة صورة، وتسمح للوسوم (Hashtags) التي تتحدث عن نظرية مؤامرة يهودية بالبقاء. وعلى الرغم من أن شركة Bytedance هي شركة خاصة، فإنه في الإمكان الافتراض أنه لو أرادت الحكومة الصينية منع المضامين المناهضة للسامية، ولإسرائيل، وتلك العنيفة، لتمكنت من منع انتشارها. في تلك المرحلة، قام مذيع رسمي صيني باستضافة مناقشة قال فيها إن اليهود يسيطرون بصورة غير معقولة على المال الأميركي، كما قام أستاذ في جامعة حكومية صينية بالمقارنة بين أفعال إسرائيل وأفعال ألمانيا النازية، في حين قامت شركات الإنترنت العملاقة الخاضعة للرقابة الحكومية اللصيقة، على غرار Baidu وAlibaba بشطب إسرائيل عن خرائطها موقتاً.
  • السفير الصيني في تل أبيب تساي رون قال في مقابلة أُجريت معه مؤخراً، إن "الشعبين الصيني والإسرائيلي ساعدا بعضهما البعض في هذه المرحلة الصعبة، وشكّلا مثالاً يُحتذى به عبر تطبيق المثل القائل ’الصديق وقت الضيق‘، وتمنى أن تطوّر الدولتان ’فصلاً جديداً وأكثر مجداً‘ في علاقتهما". لكن في ضوء سلوك الصين فيما يتعلق بالمواجهة الحالية، يبدو أن الصين الرسمية لا تعرّف "المجزرة" التي لا تميز بين الضحايا، والحرب الدموية، بصفتها "وقتاً صعباً"، بحسب تعبير السفير. كما أن كلام السفير لم يكن دقيقاً، فالصين تبدي دعماً تقليدياً للفلسطينيين، وترى إسرائيل جزءاً من الغرب، وجسراً اقتصادياً نحو أوروبا، وفي الوقت نفسه، كيس ملاكمة، في إطار صراعها المستمر مع الولايات المتحدة.
 

المزيد ضمن العدد