معركة قوى التيار الديني الأرثوذكسي اليهودي [الحريدي] لا تُحسم في المحكمة العليا، بل في انتخابات المجالس المحلية
تاريخ المقال
المواضيع
فصول من كتاب دليل اسرائيل
مهند مصطفى
أسامة حلبي, موسى أبو رمضان
أنطوان شلحت
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- نظرت محكمة العدل العليا صباح أمس (الاثنين) في التماسَين مرتبطَين بإحدى القضايا الرئيسية المطروحة على جدول أعمال المجتمع الإسرائيلي خلال الحرب. رفضُ الحكومة تجنيد 66 ألف تلميذ من تلاميذ المدارس الدينية اليهودية الأرثوذكسية (الحريدية) في الجيش، على الرغم من أن الترتيبات المتعلقة بتأجيل خدمتهم انتهى مفعولها قبل 8أشهر تقريباً، إلى جانب مواصلة تخصيص الميزانيات للمدارس الدينية من أموال الضرائب التي يدفعها العلمانيون الذين يخدمون فعلاً في الجيش. يبدو، في الظاهر، أن هذا مجرد نقاش إداري آخر تناقشه المحكمة، إذ قال الملتمسون ما لديهم، وردّ ممثل الدولة عليهم، أمّا القضاة، كعادتهم، فقاموا بتوجيه الأسئلة والملاحظات، وعند اقتراب المساء، أصدر القضاة أمراً احترازياً، كما جرت العادة.
- في الواقع، كانت هذه المداولة، عملياً، مناقشة من جانب واحد. إذ لم يحضر أي من الحريديين، الذين تتعلق المداولة بهم، إلى قاعة المحكمة. أمّا الملتمسون، وهم أعضاء في النيابة العامة والقضاة، فهم جميعاً من جمهور الذين يخدمون في الجيش (العلمانيون). كان هؤلاء يتناقشون فيما بينهم في كيفية التعامل مع فئة مجتمعية غير مستعدة لتحمُّل عبء الأمن المشترك، لقد كانت هذه الحرب من جانب واحد.
- لم يقتصر الأمر على أن ممثلي الجمهور الحريدي لم يأبهوا بالحضور إلى المحكمة، بل إنهم يرفضون أيضاً إلحاح منتجي البرامج الإخبارية في التلفاز والراديو لإجراء مقابلات في هذا الشأن. إنهم يكفرون بسلطة الدولة في مناقشة هذا الموضوع، وهم يعرفون أنهم لا يملكون أي ذرائع قد تقنع مذيعاً، أو صحافياً ينتمي إلى الجمهور العلماني، ويخدم في الجيش. إنهم يعتمدون على رب العالمين وبنيامين نتنياهو، لكي يبقى إعفاؤهم من أداء الخدمة العسكرية على حاله. ونتنياهو يقف إلى جانبهم منذ 26 عاماً وحتى الآن، أي منذ أول مرة قررت فيها المحكمة العليا، في سنة 1998، أن إعفاءهم من الخدمة العسكرية لا يتفق مع مبدأ المساواة بين المواطنين الإسرائيليين.
- صحيح أن الحرب الدامية الدائرة في غزة لا تخص هؤلاء، لا من قريب، ولا من بعيد، لكنهم في المقابل، يبدون سعداء للتجند في انتخابات المجالس المحلية. عملياً، يبدو أن الحريديين هم الوحيدون القادرون على أن يجدوا في أنفسهم الحماسة المطلوبة من أجل القتال، سعياً للحصول على رئاسة بلدية، أو مقعد في مجلس بلدي. بل إنهم يطلقون دعواتهم إلى الشبان الحريديين، الذين يتعلمون في المدارس الدينية [التي عادةً ما تكون مدارس داخلية وبعيدة عن أماكن سكنهم] لكي "يهبّوا من أجل المعركة المصيرية" [بمعنى العودة إلى منازلهم من أجل التصويت للأحزاب الحريدية]. غابت انتخابات المجالس المحلية عن وسائل الإعلام العامة، حتى في آخر أيام الحملات الانتخابية، وتتراجع أخبارها إلى الصفحات الأخيرة من الصحف، وإلى الدقائق الأخيرة من النشرات الإخبارية. وفي المقابل، يمكن للمرء أن يرى حجم الحضور الهائل لهذه الانتخابات في الأحياء الحريدية من خلال المنشورات والملصقات الموزعة على كل جدار، فضلاً عن أن هذه الإعلانات تُعد مصدر رزق ممتاز للصحف الحريدية الحزبية، وهي الفرع الوحيد المزدهر، حتى الآن، في الصحافة المطبوعة الإسرائيلية.
- هناك معارك ضخمة تدور حول رئاسة بلديات المدن الحريدية في "بني براك"، و"إلعاد"، و"بيتار عيليت". أمّا في "بيت شيمش" التي أصبح الحريديون أغلبية فيها، فمن شأن النزاعات الداخلية أن تمنح عليزا بلوخ، ابنة حزب الصهيونية الدينية [وهو تيار ديني غير محسوب على الحريديين]، فترة ولاية أُخرى. كشفت أخبار القناة 12 هذا الأسبوع عن مخطط سري لدى أحد المرشحين الحريديين لتزوير الانتخابات في المناطق التي يقطن فيها المتطرفون من الطائفة الحريدية الذين لا يشاركون في الانتخابات. يبدو أنهم لن يتخلوا عن صوت واحد. وفي سبيل رفعة اسم الله، من المسموح للمرء خرق قوانين التوراة.
- هذا الاندفاع الهائل الذي تمارسه الأحزاب الحريدية، والهادف إلى القتال من أجل كل مقعد في المجالس المحلية، ليس شاهداً على تعلّق المجتمع الحريدي بميزانيات الدولة و"كوتا" الوظائف المخصصة في المجالس المحلية، التي تمولها أموال الضرائب التي يدفعها الجمهور العلماني الذي يخدم في الجيش فحسب، بل إنها تشهد أيضاً على انهيار التراتبية الهرمية الداخلية لدى الحريديين، وفقدان جيل الحاخامات، الذين يبلغ عمر الواحد منهم 90 عاماً، صلاحياته وسلطته، فهؤلاء لم يعودوا قادرين على السيطرة على مقاولي الأصوات الوقحين الحريديين، ولا حتى على الاتفاق فيما بينهم على موقف موحد، كحاخامين.
- لم يعد الأمر متعلقاً بالخصومة التاريخية بين التيارات الحسيدية الليتوانية، وبين السفارديم فحسب، بل إن الحسيديم أنفسهم لم يعودوا يعملون معاً، وفي تيارات معينة، مثل تيار "غور" الحسيدي الذي بدأ يفقد تأثيره، جرى انشقاق داخلي بين زعيم التيار وبين ابن عمه الكاريزماتي. ومن جهة أُخرى، يتصارع رؤساء مدارس دينية متنافسة مع تلاميذ هذه المدارس، فيما بينهم من جهة، كما يتصارعون معاً ضد الجمهور الحريدي السفاردي [الشرقي]. منذ عقد من الزمن، أي منذ وفاة الحاخام يوسف [زعيم التيار الديني الشرقي، الذي أنتج حزب شاس الديني] سقطت السلطة المركزية لدى الأرثوذكس الشرقيين. وفي الوقت ذاته، تتآكل قدرة الحاخامين المسنين على السيطرة على مئات الآلاف من الشباب الحريدي. أمّا على المستوى الوطني، فما زال في إمكان رجال الأعمال العمل معاً من أجل ضمان الحصول على الميزانيات، والحفاظ على إعفاء الحريديين من الخدمة العسكرية، لكن الحرب الدامية التي يخوضونها فيما بينهم على المستوى المحلي، بدأت بالتمدد إلى الأعلى، وتدل على ما يُتوقع حدوثه في المستقبل، عندما يختفي من فوقهم ظل نتنياهو الحامي، بعد انسحابه من الحياة السياسية.
- لا يزال الجمهور الحريدي، على ما يبدو، يعيش في عالم موازٍ، حيث لا توجد حرب في غزة، ولا قتلى، ولا جرحى، ولا أشهر طويلة من الخدمة في صفوف قوات الاحتياط. إنهم ما زالوا يعيشون في عالم موازٍ، لا قيمة للدولة فيه إلا من ناحية القدرة على تحويلها إلى مصدر للميزانيات وإدارة الانتخابات. وعلى الرغم من هذا، فإن الاشمئزاز داخل المجتمع الحريدي يبدو أنه بدأ بالاتساع بسبب الطريقة التي يدير فيها رجال الأعمال الحياة اليومية، وبسبب ضُعف الحاخامين المتنازعين...
- لا تزال القيادة الحريدية تعتقد أن في إمكانها تجاهُل الغضب المتصاعد لدى الجمهور العلماني الذي يخدم في الجيش، نتيجة تهرُّب الحريديين من الخدمة العسكرية. في المقابل، نرى أن السعي للتوصل إلى تسوية زائفة أُخرى معهم، تُبقيهم في المدارس الدينية، وتعفيهم من الخدمة العسكرية، ليس محصوراً في نتنياهو وحده، بل إن بني غانتس يفعل الأمر نفسه.
- ويبدو أن الأمر الذي قد يحسم المعركة لدى الحريديين، هو اشمئزاز أبناء المجتمع الحريدي نفسه مما يحدث. فهذا الاشمئزاز يدفع منذ اليوم الشبان والشابات الحريديين والحريديات إلى البحث عن طرق لكي يصبحوا جزءاً من المجتمع الإسرائيلي.