إسرائيل تستخدم الإغاثات كما لو كانت سلاحاً استراتيجياً، من دون أن يكون لديها استراتيجيا
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
__
- ليس هناك حرب في العالم، تقريباً، لم تصبح فيها الإغاثات الإنسانية أداة استراتيجية تُستخدم لخوض الحروب، بل في بعض الأحيان، أصبحت الإغاثات سبباً لإطالة أمدها. إن جبهة القتال في غزة لا تحمل جديداً في هذا الشأن. يفيد الادعاء الإسرائيلي الرئيسي بأن المساعدات الإنسانية، والغذاء والأدوية والمياه والوقود، جزء لا يتجزأ من شروط الرخصة التي تتيح لإسرائيل مواصلة الحرب؛ وبعبارة أُخرى: ليس للمساعدات الإنسانية، بحد ذاتها، الحق في الوجود من دون المزايا الاستراتيجية المتصلة بها. المفارقة في هذا الادعاء تكمن في أن المساعدات الهادفة إلى إنقاذ حياة البشر ضرورية، لكي تتمكن إسرائيل من الاستمرار في قتل الناس، سواء أكانوا أعداء، أم "غير ضالعين في القتال".
- لكن إسرائيل، في هذا الصدد، لم تخترع العجلة. فالإدارة الأميركية هي التي فرضت وتفرض عليها هذه المعادلة، سواء من أجل صد الضغوط الدولية التي تضطر واشنطن إلى الوقوف في وجهها، وخلف إسرائيل، على غرار قرارات مجلس الأمن الدولي، أو محكمة العدل الدولية في لاهاي، أو من أجل تخفيف المعارضة الداخلية الأميركية، ليس من جانب الجمهوريين فحسب، بل أيضاً من جانب الديمقراطيين الذين يرون في سياسات بايدن، الذي لا يزال يدعم استمرار الحرب، كارثة سياسية.
- هناك ادعاء آخر أقل أهمية، هو أن المساعدات التي تدخل إلى القطاع تذهب إلى "حماس" وتساهم في تقويتها، إذ تستخدمها الحركة كوسيلة تُلحقها باتفاقية التبادل لكي تحدد قواعد اللعبة، إلى جانب تهدئة الضغط الشعبي الفلسطيني ضدها. لكن، كما تجري العادة، يموت الغزّيون جرّاء الجوع والمرض ونقص الأدوية، في المساحة القائمة بين مَن يعارضون استمرار إرسال الإغاثات، وبين مَن يطالبون بتوسيع نطاقها، كما يموت الغزّيون أيضاً نتيجة القصف.
- لا تقتصر المساعدات الإنسانية على مجمل الحمولات، وعدد الشاحنات، وكمية المال المخصصة لتمويل شراء المعدات ونقل الحمولات. بل إنها تستوجب أيضاً ترسيم طرقات وصول محمية، وممرات تنقّل، ومناطق آمنة تستند إلى اتفاقيات وتفاهمات مع الأطراف المقاتلة، لكي توافق هذه الجهات على السماح بنقل الشحنات وضمان أمن القوافل ومَن يشغلونها. هذه الاتفاقيات لا تقدَّم مجاناً. يجبي الأطراف ثمنها في مقابل إنجازات سياسية، أو عسكرية، أو تكتيكية، أو استراتيجية، تتيح لهم مواصلة القتال.
- هنا أيضاً، لا تمثل غزة حالة استثنائية. فما جرى خلال حرب البلقان هو أحد أكثر الأمثلة مأساويةً وخزياً لاستخدام المساعدات الإنسانية كورقة ضغط استراتيجية (وبالمناسبة، هي ليست حالة فريدة في العالم). هناك تقرير مرعب كتبه مارك كاتوس للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) في سنة 1999، يعرض شبكة متسقة وشاملة من الإخفاقات الخطِرة التي رافقت نشاط قوات حماية السلام التابعة للأمم المتحدة (UNPROFOR) والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، والتي نُشرت في البوسنة، من أجل تشغيل منظومة المساعدات الإنسانية في الدولة الممزقة. كاتس الذي عمل عشرات السنوات في مجال المساعدات الإنسانية، تشمل سيرته الذاتية، من ضمن ما تشمله، منصب منسّق النشاطات الإنسانية في سورية، يروي في تقريره كيف اعتادت القوات الصربية في البوسنة نهب قوافل الغذاء والأدوية الموجهة إلى السكان المدنيين في البوسنة، وفرض شروط لتوزيع المساعدات، من ضمنها التوزيع بصورة متساوية بين الصرب والسكان المعرّضين للهجوم. في حالة واحدة على الأقل، في سنة 1995، خطفت القوات الصربية في البوسنة المئات من قوات حفظ السلام، بعد غارات نفّذها حلف الناتو على قواعد تابعة للصرب. وقام هؤلاء بربط المخطوفين بالمواقع التي كان من المتوقع قصفها، لكي يتم استخدامهم كدروع بشرية.
- أمّا في سورية، فإن النظام هو الذي يحدد شروط دخول قوافل المساعدات. تشمل شروط النظام ضرورة العمل من خلال منظمات إغاثة تابعة للنظام، وتحويل بعض المساعدات إلى المقاتلين السوريين، أو الميليشيات العاملة في خدمة الأسد. وبحسب التقديرات، نحو نصف المساعدات الإنسانية أخذت طريقها إلى مخازن النظام، أو ميليشياته. وعلى مدار سنوات الحرب في سورية، خصصت الإدارة الأميركية وحدها نحو 16 مليار دولار لحاجات المساعدات الإنسانية في الدولة. وفي ضوء عمليات "النهب والنصب"، التي وفرت للنظام نحو مئة مليون دولار من أموال المساعدات، فقط في الفترة 2019 - 2020، طالب الكونغرس الإدارة بوضع سياسة جديدة تساهم في توزيع المساعدات بطريقة ناجحة، وتحول دون تحويل أجزاء منها إلى "جيب النظام"، ولا تزال هذه الاستراتيجيا بانتظار صوغها.
- تُعد غزة مثالاً باهتاً، مقارنةً بنِسب القتل والكارثة الإنسانية التي ضربت سورية، لكن الفارق بين غزة وبين ما حدث في البوسنة، أو سورية، هو أنه كانت في هذين البلدين، على الأقل، جهة ما يمكن التفاوض معها بشأن نقل المساعدات الإنسانية، بحيث تصل كمية معقولة من المساعدات إلى هدفها، حتى بعد أن قام النظام السوري، أو القوات الصربية في البوسنة، "بنهب" حصتها من المساعدات.
- أمّا غزة، فهي لا تفتقر فقط إلى حُكم محلي يتولى هذه المهمة، بل لا تتوفر فيها قوة دولية، أو عربية، أو فلسطينية، مستعدة لتحمّل هذا العبء، وعلى الرغم من أن إسرائيل ترفض السماح للسلطة الفلسطينية بالدخول إلى القطاع، حتى من أجل إدارة توزيع المساعدات، فإن السلطة، من جهتها، أيضاً لديها شروط سياسية لكي تدخل إلى غزة، إذ أوضحت أنه من دون بدء عملية سلمية، أو على الأقل، عقد مؤتمر دولي رمزي يضع على جدول أعماله حل الدولتين، فإنها لن تعمل في غزة.
- من جهتها، تضيف الولايات المتحدة شروطاً قاسية حين تطالب السلطة الفلسطينية بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات السياسية والإدارية كشرط لدعمها وجود السلطة في غزة، وتشمل هذه الإصلاحات تقليص صلاحيات محمود عباس، وتأليف حكومة تكنوقراط، تعمل من أجل اجتثاث الفساد، ولا علاقة لها بـ"حماس"، أو "فتح"، وهو شرط غير واقعي. ويجدر بنا أن نتذكر أن شروطاً مماثلة لم تُطرح على نظام الأسد، أو اليمن، أو السودان، من أجل توفير المساعدات الإنسانية. المفارقة العبثية هنا، هي أن إسرائيل تفرض شروط دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، لكن "حماس" و"عصابات مسلحة" أُخرى تواصل تولّي مسؤولية توزيعها.
- في ظل غياب خطة عمل لإدارة الحياة المدنية ومنظومة توزيع المساعدات الإنسانية، وفي ضوء الحادثة المرعبة المتمثلة في مقتل 118 من السكان الفلسطينيين على الأقل، في شمال القطاع، يوم الخميس، وفي ضوء الفوضى "المعتادة" التي ترافق توزيع المساعدات، ستضطر الإدارة الأميركية، قريباً جداً، إلى اتخاذ قرار بشأن نشاط السلطة في غزة، حتى من دون تطبيق "شروط القبول" التي وضعتها. إن عروض إسقاط حصص من الغذاء والأدوية، والتي نفّذها حتى الآن كلٌّ من الأردن والإمارات، ثم انضمت إليهما الولايات المتحدة، لا تمثل حلاً حقيقياً. فالكميات التي يتم إسقاطها، حتى لو وصلت بصورة كاملة إلى غزة، من دون هبوطها في البحر، أو على الأراضي الإسرائيلية، لا تكفي من حيث حجمها إلا لملء شاحنة واحدة، بمعنى أنه لكي تتمكن الجهات المانحة من توفير الحد الأدنى المتفق عليه (نحو 200 شاحنة في اليوم)، هناك حاجة إلى قطار جوي غير مسبوق في التاريخ، يعمل في حيز جوي صغير نسبياً، و تكلفته هائلة.
- هناك طريقة أُخرى تتمثل في فتح معبرَي إيرز [شمال القطاع] وكارني [في وسطه]، بالإضافة إلى كرم أبي سالم ورفح، لكن، حتى لو تم فتح جميع المعابر، ستظل هناك مشكلة توزيع المساعدات، والتي تتطلب فتح معابر آمنة، وبصورة أساسية، قوة مرافقة عسكرية وشرطية فعالة، تضمن انتقال القوافل، وتؤمن نقاط التوزيع. إن رجال الشرطة في غزة ممن عملوا في السابق مع "حماس"، يرفضون الانضمام إلى جهود حماية القوافل، خوفاً على حياتهم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الموظفين في هيئات الإغاثة الذين قُتل عدد كبير منهم في الحرب. والسؤال الذي سيُطرح قريباً جداً هو: هل سيتحول جنود الجيش الإسرائيلي إلى عمال إغاثة، وتتضمن نشاطاتهم، ليس فقط مرافقة قوافل الإغاثة، بل أيضاً توزيع حمولتها؟ من المشكوك فيه ما إذا كانت هذه هي صورة "النصر المؤزر" التي يحلم بها نتنياهو.