عندما تغيب الاستراتيجيا، يبقى الانتقام
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- لا يمكن أن تكون هناك عملية غير ضرورية، وخطِرة ومهددة أكثر من انتقام أعمى تنوي الحكومة القيام به ضد إيران. ومن المهم التذكير بأن إسرائيل هي من بدأت سلسلة الانفجارات عندما اغتالت الجنرال رضى زاهدي، قائد فيلق القدس في سورية ولبنان. والأهم هو الاعتراف بحقيقة أن هذا الاغتيال، مهما يكن مهماً، فإنه لم يكن ليخرج إلى الحيز التنفيذي لولا أنه لم يستند إلى الرؤية الاستعلائية بأن إيران هي "دولة تضبط نفسها"، فها هي قد تجاهلت قتل العلماء النوويين الخاصين بها؛ كمحسن فخري زادة، رئيس البرنامج النووي، ورئيس الاستخبارات التابع للحرس الثوري في سورية، والمسؤول عن العلاقات بين إيران وحزب الله في كانون الثاني/ يناير، وعشرات العلماء والمسؤولين الإيرانيين على مدار سنوات طويلة.
- طبعاً، إيران متهمة، وهي التي دفعت إسرائيل إلى الاعتياد على فكرة أنها "مرتدعة"، أو تضبط نفسها على الأقل، بالضبط كما دفعت "حماس" إسرائيل إلى الاعتقاد بأنها "مرتدعة" أيضاً، وكما لا يزال حزب الله يلتزم معادلة متبادلة مريحة، ولن يشن حرباً شاملة. ومرة واحدة فجأة، حدث ما حدث، بحسب مقولة نائب الرئيس الأميركي السابق، سبيرو أغنيو، عندما قال: "السفلة غيّروا القواعد ولم يُعلموني." إسرائيل تعرف بالضبط أين ينام كل مسؤول إيراني، وبأي مركبة يسافر أبناء وأحفاد إسماعيل هنية، وتتصرّف كالعمياء عندما يدور الحديث بشأن تحليل وفهم نيات الأعداء.
- لقد عرفت إسرائيل أن "حماس" تخطط لهجوم، لكنها لم تكن تعتقد أنها ستنفذه، وسمعت قيادات إيران يقولون بصوتهم إنهم ينوون الرد هذه المرة وبقوة، وعلى الرغم من ذلك، فإنها لم تفهم إلاّ في اللحظة الأخيرة أن الحديث يدور بشأن ضربة مباشرة عليها، وبحجم غير مسبوق. والآن، يبدو أن الغضب الكبير الذي تراكم منذ يوم السبت غير نابع من الضربة التي تم اعتراضها بنجاح فائق، إنما بسبب وقاحة الإيرانيين، وأساساً الفشل الاستخباراتي مرة أُخرى، إذ لم تقدّر إسرائيل بصورة سليمة ما ستكون إسقاطات تصرفاتها في سورية.
- يجب الرد على الشعور بالذل وكأن علينا أن نرد من دون استراتيجيا. إذاً، فإن الانتقام هو البديل المغري؛ فمن دون الانتقام، ستفقد إسرائيل قدرة الردع، وسينهار الشعور بالفخر القومي والدولي، وهناك فرصة أيضاً بتوجيه ضربة لا تُنسى إلى إيران. لكن عن أي ردع وأي مشاعر فخر تتحدث هذه الحكومة؟
- على الرغم من الكارثة الصعبة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والفشل الذي كشفته، فإن إسرائيل لا تزال مقتنعة بأن صورة الدولة المجنونة، تلك التي تُخرج الزبد وتضرب في كل الاتجاهات بصورة غير مسيطَر عليها، فتهدم وتقتل من دون تفرقة، ستشكل ضمانة لأمنها. لكن هذا الجنون الانتقامي هو ما حوّلها إلى دولة معزولة، وضعفها الداخلي، الذي صنعه وَرَعَاه من يُسمّى برئيس حكومتها، هو ما فكك قدرتها على الردع. إن الحكومة والدولة مدينتان بدين كبير جداً، ليس للردع أو المكانة، إنما للولايات المتحدة والغطاء الكبير والمفاجئ للدول العربية، التي شاركت في العملية من أجل إحباط هجوم إيران. والآن، يبدو أنهم يفهمون أنهم دخلوا الحلقة المفرغة التي تخطط لها إسرائيل.
- لكن في نظر الحكومة وأجزاء من القيادة العسكرية، فإن الدفاع الناجح والإحباط المذهل للضربة الإيرانية هو أمر للضعفاء، ولا يمكن اعتبار هذه الأمور إنجازات إن لم يكن هناك إلى جانبها عرض آخر من العقاب والانتقام. بينما الحقيقة هي العكس؛ فالدفاع الفعّال هو جزء جوهري من الردع والأمن، أكثر بكثير من الانتقام المجنون. فلو كان لدينا في 7 تشرين الأول/أكتوبر جزء صغير من الدفاع، وقدرة الإحباط التي كانت في يوم السبت الأخير، فإن تاريخ إسرائيل كان سيبدو مختلفاً. والشيء المثير للسخرية أنه على الرغم من أن الانتقام في غزة لم يحقق أهداف الحرب، فإن الجمهور الذي لديه جاهزية لبلع الإذلال ووقف الحرب في غزة من أجل تحرير الرهائن، لا يتردد في تصديق الأكاذيب نفسها، والاقتناع بأن الانتقام من إيران هو وحده الذي سيضمن أمن الدولة.