على الرغم من الضربة المحدودة، فإن إسرائيل وإيران لن تعودا إلى الستاتيكو الذي كان بينهما
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- تعرّض النموذج الأساسي، الذي طبع خلال العقد الأخير العلاقات في "الحرب الخفية" بين إسرائيل وإيران، لضربة في الأسبوعين الأخيرين، وعلى مستويَين مختلفَين. المستوى الأول، هو المستوى العسكري، لقد أدركت إسرائيل أنها لا تستطيع مهاجمة القنصلية الإيرانية في دولة ثالثة (سورية) من دون ردّ من طهران. وقرار إسرائيل اغتيال قائد فيلق القدس في سورية ولبنان، بالاستناد إلى تقارير أجنبية، هو تطبيق عملي للمبدأ المعروف بـ"التناسبية الاستراتيجية"، أي ضربة مباشرة وعلنية موجهة إلى إيران، وليس إلى أحد أذرعها من تنظيمات تابعة لمختلف "وكلائها".
- لكن، على الرغم من تحقيق مبدأ مشروع، فإن حساب التكلفة - الثمن والفائدة - والربح، على خلفية حرب غزة ومصالح وأرباح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وحتى في المحيط الهادىء، كان محاطاً بالشوائب. وفي أعقاب الرد الإيراني، يمكن القول إن العملية لم تؤدّ إلى زيادة الردع. وعملياً، عندما يحدث تصعيد من دون ردع فعلي متبادل، فإن احتمال الاشتعال المستقبلي يزداد بصورة تصاعدية.
- إن الردع مفهوم خاطىء يتردد كثيراً في إسرائيل. "حماس" مردوعة، حزب الله مردوع، إيران مردوعة، سنستعيد الردع، وسنرمّمه، ولا نتحمل المسّ بالردع، يتعين علينا الردّ من أجل تعزيز الردع. وإذا كان هذا المصطلح لم يفقد مغزاه بصورة مطلقة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، فإنه بالتأكيد فقد معناه في ليلة 13-14 نيسان/أبريل جرّاء الهجوم الإيراني على إسرائيل.
- إيران التي لم تردعها العمليات في سورية في السنوات الأخيرة، ولم ترتدع هذه المرة، وخرجت عن أسلوبها في الردّ من خلال إطلاق المئات من صواريخ أرض- أرض، وصواريخ كروز، والمسيّرات، على الأراضي الإسرائيلية. هذه المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا السيناريو، لذلك، هرعت إسرائيل "لترميم الردع" على طريقتها. وإذا كان هناك وجود للردع، فإنه كان من جهة الولايات المتحدة حيال إسرائيل وإيران، لأن محاولة منع نشوب حرب واسعة النطاق هي مصلحة أميركية أساسية منذ تشرين الأول/أكتوبر.
- المستوى السياسي أيضاً تعرّض لضربة كبيرة، فبينما كانوا في إسرائيل يتباهون بنجاح اعتراض الهجوم ومنع التصعيد في هذه الفترة الزمنية، رأت الولايات المتحدة ودول الخليج أن تبادُل الضربات يشكل خطراً تصعيدياً كبيراً، وذريعة مباشرة لبلورة وإنشاء "هندسة أمنية" جديدة في الشرق الأوسط، تشكل جزءاً مركزياً من مجموعة أفكار تسمى "خطة بايدن" التي تبدأ بمستقبل قطاع غزة، وتحتوي على مكوّن سياسي فلسطيني. لقد تجاهلت إسرائيل هذه الخطة، واستخفت بها، وبالربط الذي يقيمه العالم اليوم بين غزة وإيران.
- إن الانطباع السائد بعد الهجوم المحدود في منطقة أصفهان، المنسوب إلى إسرائيل، أن الدولتين عادتا، عملياً وجوهرياً، إلى الستاتيكو الذي كان قائماً قبل 1 نيسان/أبريل، اليوم الذي هاجمت فيه إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق، بحسب تقارير أجنبية، هو انطباع غير صحيح من أساسه. كُتب كلام كثير في الأيام الأخيرة بشأن الحسابات الخاطئة لإسرائيل والتقدير غير الصحيح أن إيران ستتلقى الضربة، وستضبط نفسها. الاعتراض الناجح لجزء كبير من المسيّرات والصواريخ هو إنجاز تكنولوجي باهر، لكن لا علاقة له بالردع. أولاً، لدى إيران قدرة على التعلم. ثانياً، الائتلاف الذي ساعد، عملياً، في الدفاع عن إسرائيل، وشمل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، والمساعدة الاستخباراتية من دول أُخرى، لن يكون بالضرورة موجوداً في الجولة المقبلة. ثالثاً، الهجوم لم يشمل حزب الله الذي نعرف حجم ترسانته الصاروخية ونوعها.
- وعلى الرغم من اعتبار إيران عدواً مركزياً للأمن القومي الإسرائيلي، واعتبار السلاح النووي الإيراني المحتمل خطراً وجودياً، فإن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لم يلجأ قط إلى تطوير استراتيجيا منهجية ومنتظمة في هذا الشأن. كان من المتوقع من شخص يعتقد أن التاريخ اليهودي يعيد نفسه، وأنه تجري كل مئة عام محاولة منهجية للقضاء على الشعب اليهودي، أن يضع استراتيجيا مُحكمة وبعيدة الأمد ضد هذا الخطر.
- لكن هذا يفترض تفكيراً سياسياً حكيماً وجذرياً، وتفضيل المصالح الوطنية، وبناءً صبوراً لتحالف دولي وإقليمي. ومثل هذه الاستراتيجيا تفرض تحديد أهداف عليا، وترسيم أهداف يمكن تحقيقها، ورؤيا جيو استراتيجية تساعد على تحقيق هذه الأهداف، وتعاوناً وثيقاً وحميماً، وثقة بالولايات المتحدة، وهذه المجالات لا يبرع فيها نتنياهو. كما في موضوعات أُخرى، الخطابات هي كل شيء، والكلام هو الهدف، والتخويف هو الأداة، والشفقة هي الموسيقى، ولا وجود لعمل سياسي لا يوجد مقابله ربح سياسي فوري.
- تاريخ نتنياهو في مواجهة الخطر الإيراني معروف. تشخيص صحيح، لكن العلاج غير موجود. الترهيب موجود، لكن لا وجود لسياسة. ونتنياهو، على الرغم من تباهيه بالموضوع، فإنه لم يكن أول مَن شخّص المشكلة، بل إن حكومة رابين هي التي وظّفت مجهوداً كبيراً، من دون مظاهر هستيرية وخطابات ترهيب من خراب قريب للعالم. يُسجّل لنتنياهو أنه نجح، إلى حد ما، في الفترة 2009-2015، في إقناع دول أساسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بأن السلاح النووي الإيراني ليس مشكلة إسرائيلية، وساهم في تدويل الموضوع، بعد تلميحه في الفترة 2011-2012 إلى أنه يجري الإعداد لعملية عسكرية ضد المنشآت النووية.
- نجح التدويل، وبدأت الولايات المتحدة بصوغ اتفاق نووي، إلّا إنه لم يكن اتفاقاً مثالياً، بل كان مليئاً بالفجوات منذ البداية، لكنه كان يجب أن يكون مقبولاً من شركاء الولايات المتحدة في المفاوضات، روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وأن يكون مقبولاً من إيران بصورة خاصة. ماذا فعل نتنياهو؟ لم يحاول التأثير في الرئيس الأميركي، حينها، باراك أوباما، ولم يطالب بأن يكون شريكاً في صوغ البنود، بل فضّل أن يخطب من على كل المنابر، بينها أمام الكونغرس في آذار/مارس 2015، قبل 3 أسابيع من الانتخابات الإسرائيلية، لافتاً إلى أي حد هذا الاتفاق سيئ. ووعد بأن هناك اتفاقاً أفضل كثيراً. بعد مرور 9 أعوام، لم يرَ أحد الاتفاق الأفضل لنتنياهو.
- خلال فترة 2017-2018، شجّع نتنياهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الانسحاب بصورة أحادية من الاتفاق (الذي كان مطبّقاً من دون انتهاكات كبيرة)، ومع انسحاب الولايات المتحدة في سنة 2018، أنهى نتنياهو انقلاباً استراتيجياً سلبياً، وحوّل التهديد الإيراني من مشكلة دولية إلى مشكلة "إسرائيلية". أيضاً محاولات الرئيس بايدن في سنة 2021، العودة إلى الاتفاق الأساسي، مع تعديلات صغيرة، عارضها نتنياهو. لأن هناك اتفاقاً أفضل طبعاً. بعد مرور 3 سنوات، أصبح لدى إيران كميات غير مسبوقة من اليورانيوم المخصّب (لم يصل بعد إلى 90%، وهي الكمية المطلوبة لتطوير سلاح نووي). واليوم، إيران دولة على عتبة النووي بكل معتى الكلمة، الأمر الذي يجعل الاشتباك الحالي أكثر خطراً بكثير.