عدد القتلى في قطاع غزة أكبر مما تذكره التقارير، ولإسرائيل أسباب للقلق
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- عدد القتلى في غزة في الأشهر السبعة الماضية مرعب. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، هناك أكثر من 34 ألف قتيل في قطاع غزة، وأكثر من 77 ألف مصاب. إلى جانب وجود نحو 11 ألف قتيل تحت أنقاض منازلهم، ويُعتبرون من بين المفقودين. لكن هذا يُعدّ جزءاً من الصورة. ففي تقديرنا، أعداد المرضى والوفيات في غزة أكبر من هذه الأرقام. وهذا الاستنتاج يعتمد على التحديات الصحية للجمهور في مخيمات اللاجئين، بعد حرب سنة 1948 مباشرةً، كما يعتمد على معرفتنا بالمعطيات المتعلقة بالأمراض المعدية. العدد المباشر للقتلى، والإصابة بالمرض، والوفيات الناجمة عن غياب الشروط الصحية الأساسية، والغذاء، والمعالجة الطبية، وفي رأينا، هذا يتطلب بحثاً عادلاً في إسرائيل.
- ويظهر من مراجعة الوثائق التاريخية بعض أوجه الشبه المهمة وبعض الفوارق الجوهرية، مقارنةً بالوضع الحالي السيئ. في سنة 1948، اضطر مئات الآلاف من الناس إلى ترك منازلهم من دون القدرة على العودة إليها. توزع نحو 700 ألف لاجىء على الضفة الغربية، وعلى قطاع غزة ودول عربية. فعلى سبيل المثال، الضفة الغربية التي كان يبلغ عدد سكانها 400 ألف نسمة، استوعبت تقريباً 300 ألف لاجىء، وقطاع غزة الذي كان يسكنه 800 ألف شخص، استوعب عدداً من اللاجئين يفوق عدد سكانه بـ3 مرات. في الحرب الحالية، وفي ظل الحصار على غزة وإغلاق الحدود مع مصر، احتشد في رفح 1.5 مليون شخص في شباط/فبراير، في منطقة كان يعيش فيها في الأيام العادية عُشر هذا العدد، ولهذا الاكتظاظ تداعيات خطِرة على الحياة.
- في سنة 1948، تجندت المنظمات الإنسانية الدولية خلال أشهر الحرب نفسها لمنع ما وصفته، حينها، بأنه خطر على حياة الإنسان، وعلى حياة اللاجئين أنفسهم، وعلى كل سكان المنطقة. وكان أحد أهداف التدخل منع المجاعة، بواسطة توزيع الطحين والسمن والسكر والفاكهة المجففة، والحليب من أجل غذاء الأطفال. هذه المساعدات كانت فقيرة بالفيتامينات، لكنها اعتُبرت كافية لفترة زمنية قصيرة، إلى حين التوصل إلى حلّ ( كما هو معروف، لم يتحقق حتى الآن).
- في المقابل، وبحسب الصليب الأحمر الدولي، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، تم منع دخول الغذاء إلى القطاع بصورة حادة وغير مسبوقة في الجولات السابقة. كما أدى تدمير معظم الأراضي الزراعية في غزة إلى بقاء الناس من دون بدائل محلية. وأدى هذا أيضاً إلى ارتفاع أسعار الغذاء، وتفاقم الفقر في بداية الحرب، لقد تحول هذا في الأشهر التالية إلى مجاعة حقيقية في شمال القطاع في البداية، واليوم، هذا هو وضع أكثر من مليونَي نسمة. تتحدث التقارير عن عائلات يأكل أفرادها طعام الحيوانات والحشرات والحشائش غير الصالحة للاستهلاك البشري. كما أن دخول عدد محدود من الشاحنات لا يكفي لتلبية الطلب على الغذاء والحاجات الأساسية. وإنزال المساعدات من الجو غير مفيد، وأحياناً يكون قاتلاً، أو يسقط في البحر.
- وفي ظل غياب آليات للرقابة، وبعد التدمير الكامل لأجهزة الشرطة التي كانت تعمل في القطاع، سيطرت العصابات على المساعدات، وصارت تبيعها للمحتاجين بأسعار مرتفعة، ولهذا السبب، لا يصل الغذاء إلى السكان الجائعين، ولذلك، فإن عدد الوفيات جرّاء الجوع آخذ في الازدياد. وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، هناك نحو 31 % من الأطفال تحت عمر العامين في شمال القطاع، وتقريباً 10% من رفح، يعانون جرّاء نقص حاد في التغذية. حجم الوفيات بسبب الجوع لا يزال غير معروف، وكثيرون أصيبوا بأذى لا عودة عنه. مَن يتغذى بالأعشاب وبطعام الحيوانات منذ أشهر، لن يستطيع الصمود وقتاً طويلاً.
- في سنة 1948، جرى تدخّل آخر في مجال الصرف الصحي، انطلاقاً من الإدراك أنه من دون مياه صافية، ومن دون شروط صحية مناسبة، فإن الأمراض ستنتقل عن طريق المياه، كما أن الأمراض التي تنتقل عن طريق الحشرات ستكون قاتلة لسكان المنطقة. وحرصت منظمات الإغاثة على توفير مياه شرب نظيفة، ولقاحات ضد الأوبئة، وعزل المرضى، منعاً لتفشّي الأمراض والرش المتكرر لمبيدات الحشرات. وعلى الرغم من أنها كانت سامة في المدى البعيد، لكنها أنقذت تجمعات اللاجئين من تفشّي الأمراض القاتلة في المدى القصير.
- في المقابل، اليوم، لا توجد مياه نظيفة لدى أغلبية سكان القطاع. وتقدير منظمات الإغاثة هو أن كل الأمراض التي تنتقل من خلال المياه الملوثة منتشرة في قطاع غزة. ووفقاً لأرقام منظمة الصحة العالمية، فإن عدد المصابين بأمراض كان من الممكن الحؤول دون الإصابة بها، يمكن أن يفوق تقريباً أعداد المصابين بالهجمات العسكرية. كما أن عدم وجود مياه نظيفة وعلاج طبي يمكن أن يؤدي إلى انتشار أمراض قاتلة تنتقل عبر المياه، ومن بينها الكوليرا.
- وبالاستناد إلى الناطقة بلسان منظمة الصحة العالمية د. مرغريت هاريس في مقابلة أجرتها معها الغارديان، فإن معدل الأطفال المصابين بالإسهال في مخيمات غزة منذ بداية الحرب هو أكثر 100% من المعدل الطبيعي، ومن دون علاجات ملائمة، يمكن أن يؤدي هذا إلى الجفاف، وحتى إلى الموت. والإسهال هو السبب الثاني للموت وسط الأطفال ما دون الخمسة أعوام في شتى أنحاء العالم. كما ازدادت حالات الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي، وجدري المياه، والأمراض الجلدية المؤلمة. بالإضافة إلى ذلك، تشكل المناطق، التي تكثر فيها أعداد الجثث والأشلاء في منطقة مفتوحة، بيئة ملائمة لنمو البكتيريا وتفشّيها عن طريق الهواء والماء والغذاء والحيوانات. وفي ظروف الاكتظاط، من الصعب عزل المرضى والمصابين بأمراض معدية، كما أن مكافحة الحشرات مستحيلة، وفي ظل غياب البنى التحتية الصحية، من المستحيل منع تفشّي الأمراض التي تنتقل عبر المياه.
- تدخّل ثالث حدث في سنة 1948، كان إعداد بنية تحتية صحية من المستوصفات والمستشفيات. كما قامت منظمات الإغاثة بتوسيع المستشفيات المحلية، وأقامت مستشفيات جديدة، وفتحت مستوصفات في المخيمات ووسط تجمعات اللاجئين. وكل هذا غير متوفر اليوم. فالقصف والحصار المستمران أدّيا إلى تدمير كامل للمنظومة الصحية في غزة. والمستشفيات التي لا تزال تعمل تعاني نقصاً حاداً في المعدات الطبية والأدوية. وقبل نصف سنة، تحدثت تقارير عن إجراء عمليات ولادة قيصرية وبتر أعضاء، من دون تخدير. والمنظومة الصحية ليست قادرة على تأمين العلاجات الروتينية والإسعافات الأولية فحسب، بل أيضاً باتت غير قادرة على تأمين خدمة الطوارىء. ويستمر النقص في ثلاثة أنواع من العلاج: العلاج العادي، والطب الوقائي، وعلاج الحالات الطارئة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع مخيف في حجم الوفيات، وفي انتشار الأمراض. وبقي المصابون بالأمراض المزمنة، مثل مرضى القلب والكلى والسرطان والسكري وغيرها، من دون علاج، وثمة شك كبير في قدرة المصابين بأمراض مزمنة على الصمود شهوراً أُخرى من الحرب. المحظوظون فقط هم الذين نجحوا في الخروج من غزة وتلقّي العلاج الطبي في مصر.
- إن صمت الجمهور الإسرائيلي حيال هذا كله، يُدفع ثمنه من حياة البشر. حتى الذين يحذّرون من "نكبة ثانية"، يجب أن يعترفوا بأن أضرار الحرب الحالية وثمنها البشري أكبر كثيراً من "النكبة الأولى"، وكل يوم يمرّ من دون غذاء وشروط صحية والحصول على العلاج الطبي، يزيد في ارتفاع هذا الثمن البشري، وأيّ نقاش في الحرب يجب أن يأخذ في الاعتبار التداعيات الواسعة النطاق والبعيدة الأجل على كل سكان هذا البلد.