السبيل إلى تدمير "حماس" هو سيطرة عسكرية ومدنية للجيش الإسرائيلي على شمال القطاع أولاً
تاريخ المقال
- عقد وزير الدفاع يوآف غالانت مؤتمراً صحافياً (15/5/2024)، تطرّق فيه إلى مسألة "اليوم التالي للحرب" في غزة. الخياران سيئان. قال غالانت: "لا أوافق على حُكم عسكري في غزة، وأدعو نتنياهو إلى الإعلان أنه لن يفعل ذلك". كما أشار إلى أن "نهاية العمل العسكري ستكون عملية سياسية.. ومسألة ’اليوم التالي للحرب’ لا تزال مطروحة على ’الكابينيت’، من دون جواب، وهذا يشكل خطراً على الإنجازات العسكرية... أطراف فلسطينية مدعومة من دول عربية تريد السيطرة على قطاع غزة، هذه مصلحة إسرائيلية من أجل تحقيق أهدافنا". لم يحدد الوزير في كلامه الأطراف الفلسطينية التي تريد السيطرة على غزة، وما هي الطريقة التي ستسيطر، من خلالها، هذه الأطراف على القطاع.
- من المؤكد أن العمل العسكري يجب أن يستمر من خلال عمل سياسي يمكن أن يحقق الاستقرار في القطاع، ويُنتج وضعاً لا يشكل فيه القطاع تهديداً أمنياً لإسرائيل بعد الآن. لكن الطريق إلى ذلك لا تزال طويلة، وذلك لعدة أسباب. أولاً؛ لا يزال القتال في غزة بعيداً عن نهايته. فالجيش يتحرك، في هذه الأيام، في كل أنحاء القطاع، حتى في الأماكن التي احتلها و"طهّرها" جزئياً. إن البنى التحتية "الإرهابية" التي بنتها "حماس" خلال أعوام في القطاع هي غير مسبوقة. حجم هذه البنى فوق الأرض وتحتها، وكميات السلاح الموزعة هائلة. و"تطهير" القطاع من هذه البنى سيستغرق وقتاً طويلاً، لذلك، سيظل القطاع منطقة قتال لفترة طويلة جداً.
- ثانياً؛ على الرغم من الضرر العميق الذي لحِق بـ"حماس"، فإنها نجحت، جزئياً، في استعادة قوتها في جزء من الأماكن. وبينما نجحت عمليات الجيش الإسرائيلي في تفكيك معظم المنظومة العسكرية للحركة، بحيث أن منظومة القيادة والتحكم والأطر التنظيمية لها (الألوية والكتائب والسرايا) لم تعد تعمل بتاتاً، أو أنها لا تزال تعمل بصورة جزئية، لكن عملياً، بقي بعض الكتائب المنظمة في مخيمات الوسط في رفح. لكن "حماس" تقوم أيضاً بتأهيل تنظيمات محلية لمهاجمة القوات الإسرائيلية، كما تقوم، من حين إلى آخر، بإطلاق القذائف على مستوطنات "الغلاف"، وحتى على أماكن أبعد. بالإضافة إلى ذلك، ونظراً إلى كون "حماس" مندمجة، بعمق، في السكان في غزة، هناك كثيرون من "المدنيين" يعملون ضد إسرائيل، مع أنهم ليسوا أعضاء في التنظيم العسكري. في ضوء هذا كله، المطلوب من الجيش العودة إلى مناطق واسعة في القطاع من أجل إحباط مثل هذه التنظيمات "الإرهابية".
- ثالثاً؛ تنجح "حماس"، ومن دون إزعاج، في الاحتفاظ بقدراتها المدنية والحكومية. ويجري هذا الأمر من خلال السيطرة على المساعدات الإنسانية التي تصل إلى غزة، واستخدامها من أجل تعميق سيطرتها على السكان، وبيعها بأسعار باهظة للسكان. وبذلك، ترسل "حماس" رسالة إلى الناس، مفادها أنها تنوي الاستمرار في سيطرتها، ومن الأفضل لهم التعاون معها. استمرار سيطرة "حماس" المدنية، حتى على المناطق التي هاجمها الجيش عسكرياً، هي أداة تنجح من خلالها في ترميم قدرتها العسكرية أيضاً. كما أن استمرار "حماس" في الحفاظ على قدراتها المدنية والحكومية يديم القتال إلى ما لا نهاية، ويفرض على الجيش العمل في مناطق سبق أن قام بـ"تطهيرها" جيداً. من هنا، فإن السبيل إلى تدمير قدرات "حماس" العسكرية يمرّ من خلال حرمانها من قدرتها على العمل المدني والحكومي في القطاع.
- الطريق نحو نشوء حُكم بديل آخر في القطاع غير "حماس" تمرّ بتدمير الحركة، عسكرياً ومدنياً وحكومياً. وفقط بعد فترة موقتة يدمر فيها الجيش "حماس" في القطاع، يمكن التوصل إلى بديل من الحكم في غزة. لن تختفي "حماس" طوعاً من غزة، بل يجب العمل على إخفائها من هناك. وحدها القوة العسكرية يمكن أن تطردها. عسكرياً، يعمل الجيش، ويواصل عمله في تدمير القدرات العسكرية، لكن لا يوجد أيّ طرف لا ينتمي إلى "حماس" مستعد لتحمُّل مسؤولية السيطرة المدنية على القطاع في هذه الفترة الانتقالية. والجهة الوحيدة القادرة على القيام بذلك هي الجيش الإسرائيلي. لذلك، المطلوب من الجيش الإسرائيلي أن يأخذ على عاتقه السيطرة المدنية على المناطق التي سيطر عليها عسكرياً، كجزء من الجهد العسكري، وذلك لفترة موقتة، يقوم خلالها بتدمير "حماس"، عسكرياً ومدنياً، وهو ما يسمح بنموّ أطراف في غزة ليست تحت إمرة "حماس". بعد هذه الفترة الموقتة، وبعد إقصاء "حماس" عن مراكز القوى المدنية في القطاع، يمكن فحص عدة بدائل من الحكم.
- أيّ بديل من حُكم "حماس" في غزة يجب أن يستجيب لعدة مبادىء. المبدأ الأول، أن يكون الطرف المسلح الوحيد في القطاع هو الجيش الإسرائيلي. وأيّ طرف مدني، عليه أن يعمل فقط في مجال الحفاظ على النظام العام والنشاطات الأساسية للشرطة. ويجب على إسرائيل أن تلتزم هذا المبدأ بصورة صارمة، لمنع الانزلاق البطيء نحو نشوء أجهزة "أمنية" ذات قدرة عسكرية حقيقية، كقوات الكوماندوس التابعة للسلطة الفلسطينية (مثل "قوة دايتون" التي أُنشئت بتمويل وتدريب وسلاح أميركي)، والتي أقيمت بعكس ما نصّت عليه اتفاقات أوسلو. المبدأ الثاني، هو أن يحتفظ الجيش الإسرائيلي بحُرية العمل العسكري الكاملة في مناطق القطاع كلها. وأخيراً، المبدأ الثالث، هو أن تكون كل المعابر في قطاع غزة تحت السيطرة الإسرائيلية، بما فيها معبر رفح ومنطقة فيلادلفي. بعد تطبيق هذه المبادىء، يمكن فحص البدائل المدنية في القطاع.
- البديل الأول، هو ظهور أطراف محلية تعمل بصورة عامة في كل مناطق القطاع، أو من خلال تقسيم القطاع إلى عدة مناطق سيطرة. هذا البديل يمكن أن يوجد بتوجيه ودعم من أطراف دولية، أو إقليمية. بديل ثانٍ يُطرح من وقت إلى آخر، وهو عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة. ومن دون التطرق إلى الشروط التي وضعتها السلطة لهذه العودة، يجب أن نتذكر أن السلطة نفسها غير قادرة على أن تتولى السيطرة على كل القطاع. كما أعرب بعض مسؤولي السلطة عن تأييدهم لأحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، وعدد منهم يعتبر "حماس" عضواً شرعياً في منظمة التحرير الفلسطينية... وفي الواقع، إن عودة السلطة إلى غزة هي بمثابة استبدال طرف معادٍ لإسرائيل بطرف معادٍ آخر.
- بديل ثالث يُطرح في النقاش العام أحياناً، وهو نقل السلطة إلى عناصر فتحاوية محلية في القطاع، أو الإتيان بمحمد دحلان للسيطرة على القطاع. هذا البديل خطِر جداً لأسباب عديدة. السبب الأول هو أنه من المؤكد أن عناصر "فتح" ستعمل تحت سيطرة "حماس". وسيقام نموذج شبيه بالنموذج الذي أقامه حزب الله في لبنان، إذ يبدو الحزب "غير متورط" في المنظومة المدنية، ظاهرياً، بينما يسيطر عليها فعلياً. وهذا بديل خطِر جداً بالنسبة إلى إسرائيل، لأنه سيجعل من الصعب عليها العمل ضد التنظيمات "الإرهابية" في القطاع، لأنه سيتم تصوير إسرائيل بأنها تعيق نموّ هيئة حُكم بديل في القطاع.
- بديل آخر، هو دخول قوات دولية (إقليمية، أوروبية، أميركية) إلى القطاع. هذا البديل إشكالي جداً، ويجعل من الصعب على الجيش الاحتفاظ بحُرية العمل العسكري في القطاع. وهو أيضاً سيخلق سبباً للاحتكاكات الدائمة بالحكومات والدول التي تشارك فرقها في هذه القوات.
- يبدو أن البديل الأكثر أهمية، والوحيد بالنسبة إلى إسرائيل، هو نشوء أطراف محلية في غزة، حسبما أشار وزير الدفاع غالانت، لكن من دون التطرق إلى شروط نموّ مثل هذا البديل. يجب أن نتذكر أن هناك إدارات عامة في غزة (بلديات ووزارات مختلفة) ليست جميعها مرتبطة بـ"حماس"، ويمكن لعناصر منها أن تتولى العمل في القطاع.
- كما يجب أن نتذكر أنه ليس مهماً ما هو البديل الذي سيجري اختياره في نهاية المطاف، لأن الشرط لأيّ بديل هو تدمير "حماس"، عسكرياً ومدنياً. وتحقيق هذا الشرط هو مرحلة موقتة، تتولى فيها إسرائيل السيطرة المدنية على القطاع. والأسلوب المطلوب هو توسيع الصلاحيات المدنية لإسرائيل في المنطقة الخاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية، وهذا ينطبق على شمال القطاع. تطبيق المخطط المقترح على شمال القطاع سيكون بمثابة تجربة عملية لحرمان "حماس" من سلطاتها، وفي المقابل، تركيز الجهد العسكري على تعميق نزع السلاح من هذه المنطقة. وذلك من خلال السيطرة المدنية للجيش الإسرائيلي على شمال قطاع غزة، كما ذكرنا، ولاحقاً، وبحسب التطورات، على مناطق إضافية من القطاع.
- يعيش في شمال القطاع نحو 200 ألف شخص من الغزّيين، بينهم المئات من ناشطي "حماس" ومنظمات أُخرى تشكل القوة المقاتلة، وتمثل تهديداً لقوات الجيش الإسرائيلي. الرصيف الأميركي يبدأ في هذه الأيام عمله في نطاق "الممر" (محور نتساريم)، ويشكل مرساة للمساعدات الإنسانية في القطاع عموماً، وفي الشمال خصوصاً. يحتفظ الجيش في شمال القطاع بقوات للسيطرة، عسكرياً، على المنطقة و"تطهيرها". وفي ضوء هذا، يمكن توصيف مسارات العمل التي تسمح بالقضاء على القدرات العسكرية في العمق، إلى جانب السيطرة المدنية على المنطقة التي ستحرم "حماس" قدراتها الحكومية، وفي الوقت عينه، تضرب قدراتها العملانية في المنطقة.
- سيأخذ الجيش الإسرائيلي على عاتقه مسؤولية إيصال المساعدات الإنسانية إلى السكان المدنيين ومنع سيطرة "حماس" عليها. وسيتم توزيع هذه المساعدات من خلال منظمات الإغاثة الدولية، وعندما تدعو الحاجة، يقوم الجيش بتوزيعها شخصياً. ويجب أن نتذكر أنه من واجب الجيش الإسرائيلي، ما دامت المنطقة منطقة قتال، توزيع المساعدات الإنسانية الأساسية، بحسب ما تقتضي الحاجة العسكرية. ومن شأن السيطرة المدنية الإسرائيلية على المنطقة أن توضح للسكان أن عهد "حماس" انتهى في قطاع غزة، ولم تعد تشكل بديلاً من الحكم في "اليوم التالي للحرب". تملك إسرائيل القدرة العملانية والتنظيمية على فرض مثل هذه السيطرة المدنية، ويمكنها تحمُّل مسؤولية إدارة المنطقة وشؤون السكان.
- سيساعد طرد "حماس" من مواقع العمل المدني على إيجاد أطراف من بين السكان، لديهم القدرة على المشاركة في توزيع المساعدات الإنسانية. ويتطلب تحقيق هذه الخطوة أولاً، إدراكاً من صنّاع القرار في إسرائيل، وخصوصاً وزير الدفاع والمؤسسة الأمنية، بشأن عدم وجود سبيل آخر من أجل العثور على بديل من الحكم، من دون المرور بمرحلة موقتة، تتولى فيها إسرائيل المسؤولية المدنية. وهذا يتطلب تنسيقاً وتعاوناً مع الولايات المتحدة والمنظمات الدولية، من أجل توجيه جهود المساعدة عبر السيطرة المدنية الموقتة للجيش الإسرائيلي.