إبني يقاتل في غزة، أمّا أنتم فصادقتم على إعفاء قطاع كامل من الخدمة العسكرية. لقد خنتم أبناءنا. لقد خنتموني
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- إنها غيرة صافية في نهاية المطاف. الغيرة ممن لم تضطر إلى إرسال ابنها إلى وسط اللهيب. والحسد تجاه مَن لم تتوقف حياتهم في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. إنه الحسد تجاه الأمهات اللواتي أصيب أبناؤهن في المعارك، وهو ما أدى إلى إخراجهم من الميادين، والحسد تجاه الأمهات اللواتي ذهب أبناؤهن في دورات عسكرية، ويعشن في راحة نفسية منذ أشهر. بمرور الوقت، تبدأين، كأم جندي مقاتل، بالابتعاد عن صديقاتك وأبناء عائلتك لأنهم لا يفهمونك. هؤلاء يواصلون السفر إلى الخارج، والذهاب إلى المطاعم، وحضور العروض، ويستطيعون مواصلة الحياة، في الوقت الذي تجدين صعوبة في النهوض من سريرك في الصباح، ولا تنجحين في التركيز على عملك، وتتناولين جرعات من المهدئات، لكي تتمكني من الصمود، إلى أن ينتهي هذا الكابوس.
- في يوم السبت الملعون ذاك، نهضت من نومي في السادسة والنصف على صوت صافرات الإنذار المتواصلة في منطقة السهل الساحلي، حالي في ذلك كحال جميع الذين يقطنون ذلك القطاع الجغرافي، وشاهدت الصور، واطّلعت على الأخبار التي تدفقت من "غلاف غزة" من دون توقف. كان من الواضح أن ما يحدث مختلف تماماً عمّا عهدناه، وأننا دخلنا حرباً. تلقى ابننا الجندي رسالة تفيد بأنه جرى استدعاؤه على عجل، فأوصلته بسيارتي. كنت أعاني جرّاء مغص طوال الطريق، وأشعر بالاختناق. قدت السيارة والصمت يخيم على داخلها. عندما وصلت إلى هناك، رأيت المئات من الأسر والجنود، ونظرات الرعب والضيق تظهر في عيونهم، وهم يقفون على مدخل محطة الباصات المركزية. عانقت ابني بقوة. تمالكت نفسي كي لا أبكي أمامه، ولم أصدق أن هذا يحدث حقاً. لم أصدق أنني أرسل ابني إلى الحرب.
- منذ تلك اللحظة، وطوال ثمانية أشهر، يقاتل ابني في القطاع. إنه شاب عمره 21 عاماً، كان في إمكانه الانخراط في الخدمة العسكرية اللوجستية في الصفوف الخلفية، لكنه تطوع لكي يصبح مقاتلاً في لواء نظامي، بعد انتهاء مدة خدمته المدنية التي أمضاها في تقديم الخدمات الاجتماعية للفتية المعرّضين للخطر. إنه شاب تظاهر معي في كابلان [التظاهرات المعارضة لانقلاب حكومة نتنياهو على النظام القضائي] في أيام السبت، لكنه لم يتردد، ولو لثانية، وذهب ليقاتل لأنه يؤمن بالدولة التي أرسلته إلى الحرب.
- في بداية الأمر، كنا مؤمنين. لقد كانت تلك الحرب "الأكثر عدالة" على وجه الأرض. لقد تم "اختطاف أصدقائي وقتلهم"، وجرى إجلاء أفراد من أسرتي من "غلاف غزة"، بعد نجاتهم من الموت بأعجوبة. كان دافعية ابني إلى القتال في عزها آنذاك. لقد كان متأكداً من أنه ذاهب مع زملائه لإنقاذ الدولة واستعادة المختطفين. لم نرَه لفترة تزيد عن 70 يوماً، إلى أن منحوه إجازة لمدة 24 ساعة. كانت حالته المعنوية ممتازة، وأحاط به أصدقاؤه. لكنني كنت أرى، من جولة قتالية إلى أُخرى، كيف كانت حالته تتدهور، وكيف كانت روحه المعنوية تتراجع من أسبوع إلى آخر. إلى أن صرنا نسمع منه قصصاً عن النهب، وعن ظروف المعيشة الصعبة، وعن الاشتباكات العسكرية المهولة، وهي تجارب لا يمكن للأذن أن تسمعها، ولا للعقل أن يستوعبها.
- وبين الجولة القتالية والجولة التي تليها، أخبرنا كيف أن عديد القوات المقاتلة بدأ بالتقلص، وكيف أن السرايا صارت أقل عدداً، وكيف أن كل فصيلة لم تعد تضم سوى 7 جنود لا غير، فالجنود الجرحى الذين يتعافون، لا يعودون إلى القتال، والأصدقاء يخرجون من الميادين بسبب إعاقاتهم النفسية. صار العبء يزداد على الجنود النظاميين. لقد عاد الضباط من دراستهم الأكاديمية ليحلوا محل الضباط المصابين، والجنود الذين لا يزالون في طور الدورات العسكرية تم إلقاؤهم في ميادين القتال من دون تحضير مسبق.
- كأمّ، أنتِ تتآكلين أيضاً ما بين جولة قتال وأُخرى. تبدو القصة واضحة على جسدك، عندما تنظرين إلى نفسك في المرآة: حين تلاحظين الهالات الغامقة حول العيون، والوزن الذي ينخفض لأنك فقدت الشهية. لأنك منهكة في النهارات، ويقِظة في الليالي، على مدار أشهر طويلة. في واحدة من تلك الليالي انتشرت شائعة عن حدث أمني في القطاع الذي تسيطر عليه كتيبة ابني، نهض زوجي في منتصف الليل، وقام بفتح الباب في كل ساعة، للتأكد من عدم قدوم الضباط [ليحملوا خبر مقتله]، لكن الفجيعة تجاوزت عتبة بيتنا، هذه المرة على الأقل.
- على مرّ كل تلك الأشهر الطويلة، تمكنت، بطريقة ما، من التغلب على المصاعب التي تواجهني. لكن جولة القتال الأخيرة في رفح كسرت أمراً ما في روحي، ربما كان مردّه إلى الشعور بالإخفاق، وعدم قدرتي على الثقة بالقيادة المنفصلة عن الواقع. ربما كان مردّ ذلك إلى الإنهاك الهائل الذي ضرب ابني وضربني. في محادثتنا الهاتفية الأخيرة، التي جرت عندما كان في رفح، بكيت وطلبت منه الخروج من الميدان الآن. "يكفي"، قلت له، "لقد أسهمت بما يكفي". لكنه أجابني قائلاً "لكن يا أمي، لا يوجد مَن يحلّ محلي".
- ليلة الأمس، عندما انتشرت الشائعات بشأن حدث أمني خطِر في رفح، صوّت 63 عضو كنيست لمصلحة تهرُّب قطاع كامل من الخدمة العسكرية. ذهبت إلى فراشي على أمل أن أستفيق، وقد استفاق شخص ما، ويقوم بأمر ما، وغفوت على أمل أن تحدث معجزة، وينتصر الخير، لا أن تنتصر الانتهازية والشر.
- هذا الصباح، استيقظت وأنا أشعر بغثيان شديد. إنها عشية العيد، وقد تشظّت حياة 4 عائلات خلال الليلة الماضية [الجنود الأربعة الذين قُتلوا في كمين التفجير في حيّ الشابورة]، وأنا أريد أن أصرخ في وجه كل شخص من أولئك الذين يزعمون أنهم مسؤولون: لقد خنتم أولادنا، وقد خنتموني. ودماؤهم رخيصة في أعينكم.
- الليلة يحلّ علينا عيد "شفوعوت"، وما زال ابني هناك.