يبدو أن إسرائيل كتبت بيدها الرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة في لاهاي ضدها
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن مكانة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب الأيام الستة - الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس- ليس مثالياً. الادعاءات الواردة فيه ليست مدعّمة جيداً، وتحتاج إلى فحص حقائق؛ وقضية أمن إسرائيل لا تحصل على وزن كافٍ في سياق القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين مثلاً؛ كما أن عدم موافقة إسرائيل على المسار القانوني لا يتم التطرق إليه. والمسار أيضاً لم يكن يُدار بطريقة ممتازة: الأسئلة التي طرحتها الهيئة العامة للأمم المتحدة كانت منحازة، ورئيس المحكمة اللبناني نواف سلام لديه خلفية واضحة من العداء لإسرائيل، وكان عليه أن يتنحى.
- وبعد أن قلنا هذا كله، فإن أغلبية قرارات المحكمة مسنودة جيداً، وتعكس القانون الدولي، بحسب تفسير أغلبية الخبراء في هذا المجال. لذلك، فإن الرأي الاستشاري يصمد أمام الانتقادات، وبكاء الحكومة وداعميها لن يساعد. ردّ بنيامين نتنياهو على الرأي الاستشاري، والذي يقول فيه أنه لا يمكن التشكيك في قانونية الاستيطان ما وراء الخط الأخضر هو، كعادته، تحوير للواقع. والحقيقة أنه لا يمكن عدم التشكيك في قانونية المستوطنات، لأنها تتعارض، بوضوح، مع القانون الدولي الذي يمنع دولة محتلة من توطين مواطنيها في المناطق المحتلة. أمّا ادّعاء بني غانتس أن إسرائيل تلتزم القانون الدولي خلال نشاطها في الضفة، فيشير إلى أحد أمرين: إمّا أنه تبنّى نظرة نتنياهو إلى الحقيقة، وإمّا أنه بات انتهازياً.
- يوجد ضمن الأغلبية الواضحة، التي وقفت خلف الرأي الاستشاري (في أغلب الأحيان 7 في مقابل 4)، قضاة لا يمكن التشكيك في خبرتهم وصدقيتهم وموضوعيتهم. والأهم: أن ثلاثة من أربعة قضاة الأقلية المعارضة دعموا أجزاء جوهرية من الرأي الاستشاري، ومن ضمنها عدم قانونية سياسة المستوطنات وحق الفلسطينيين في تقرير المصير - لذلك، فإن النتيجة لن تختلف حتى لو كان رئيس طاقم القضاة مندوباً من منتدى "كوهيليت". الرأي الانفرادي لنائبة رئيس المحكمة جوليا سبودينتا، يتطرق إلى "إطار المفاوضات المتفق عليها بين الطرفين" كأنه حقيقة، ويتجاهل رفض إسرائيل إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين. في جميع الأحوال، القضاة كلهم يدعمون حلّ الدولتين، وهو موقف لا تطيق الحكومة سماعه (وأيضاً مَن كان يُفترض بهم أن يكونوا من المعارضة).
- هذا الرأي الاستشاري هو عقاب لإسرائيل التي تستحقه بصدق. على مدار سنوات طويلة، اعتادت حكومات إسرائيل التصرف بطرق ملتوية، واعتماد التمويه والتضليل في الضفة الغربية. وعلى الرغم من أنها مدانة أخلاقياً، فإن هذه السياسة نجحت بشكل كبير. خلال الأعوام الماضية، وعلى الرغم من التحذيرات الكثيرة، فإنهم استبدلوا الحذر والتضليل بالتفاخر والعنجهية. أبرز المحطات هو ما جرى بشأن قانون "تسوية المستوطنات"، الذي حتى بني بيغن قال عنه إنه "قانون السرقة". إسرائيل اعترفت من خلاله، رسمياً، بأن المستوطنات ليست مبادرة خاصة، إنما مشروع الدولة، وعملت على توسيعها بشجاعة، وبصورة معلنة، وفرضت قوانين على الضفة كأنها ملك لها - وبذلك تبرأت من الأوامر الموقتة والتبديلات، وهذا نهجها الأكثر جدوى للدفاع عن نفسها. وفي الوقت نفسه، أنكرت حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وألغت إمكان المفاوضات معهم. فقانون القومية رفع مكانة الاستيطان اليهودي، وكان تطبيق السيادة في الضفة أحد الخطوط الأساسية للحكومة الحالية، وتم استبدال الإدارة العسكرية المقبولة من القانون الدولي بإدارة مدنية وتعيين سموتريتش مسؤولاً عنها. وبعدها، جاء التنازل حتى عن فرض القانون على اليهود المخلين بالنظام، صورياً، وتحول المستوطنون، بعد القوة التي حصلوا عليها، إلى مبعوثين للحكومة من أجل "تطهير" الأرض من العرب، ليكمل الصورة. ولهذا كله، فإن إسرائيل كتبت بنفسها الرأي الاستشاري ضدها في المحكمة.
- الضرر الكبير المتوقع بمكانة إسرائيل الدولية وعلاقاتها بدول العالم، يجب أن يُعزى إلى الحكومة، وليس المحكمة. لا مفر من الاعتراف بأن إسرائيل تتصرف بهذا الشأن كما تتصرف مع "حماس"، إذ يبدو أنها لا تريد مصلحة الدولة، إنما وبأفضل الأحوال، لم تعد قادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة. أكثر الأمور المقلقة هي أن بديل نتنياهو للحكم، المعسكر الرسمي الذي انضم إلى الائتلاف، عشية نشر الرأي الاستشاري، ودعم التصريح المخزي الذي يرفض إقامة دولة فلسطينية، ويعتبر عملياً أن "حماس" هي القائد الوحيد للشعب الفلسطيني في هذا السياق. وهذا يجعل الخيار بين نتنياهو وغانتس ليس كبيراً.
- خلال قراءة الرأي الاستشاري، لا يمكن عدم المقارنة بين المحكمة في لاهاي، وبين المحكمة العليا في إسرائيل التي فشلت في كل ما يخص المناطق المحتلة. فتهرُّب المحكمة العليا من النقاش في السؤال عن قانونية المستوطنات، برّر، عملياً، الخرق المنهجي للقانون الدولي، وهو ما يُلحق ضرراً لا يوصف، ولا يمكن التراجع عنه، بالنسبة إلى إسرائيل.
- المستوطنات هي العائق الأساسي أمام الحل السياسي مع الفلسطينيين، وأساس كل معارضة لأيّ حلّ كهذا. إنها تخلق مكانتين مختلفتين للأشخاص، أعلى وأسفل، وتتنازل مسبقاً عن المساواة حتى أمام القانون. كان يتوجب على المحكمة أن تضع حداً لهذا الخرق، لكنها لم تقُم بذلك.
- وعلى الرغم من أن كل طفل يعلم بأن الهدف من جدار الفصل هو ضم المستوطنات إلى إسرائيل، عملياً، أكثر مما هو للدفاع عن الإسرائيليين، تمسكت المحكمة العليا بالكذب والقول إن الحسابات أمنية "فقط"، حتى اضطرت أجهزة الأمن نفسها إلى الاعتراف بغير ذلك. المحكمة أيضاً ساعدت على الاستمرار في طريقة العمل التي تقضي بأنه يمكن استغلال الموارد لحاجات الدولة وحاجات المستوطنين، وكذلك الأراضي في المناطق المحتلة، ما دامت لم تكن بملكية خاصة.
- المحكمة العليا أيضاً لم تقف في وجه سياسة هدم المنازل - وهو عقاب للعرب فقط، يُفرض على مَن لا دخل لهم، حتى إن أجهزة الأمن اعترفت بعدم جدوى ذلك. عموماً، لم تحرك المحكمة ساكناً من أجل التأكد من سيادة القانون في المناطق المحتلة. وفي الوقت نفسه، تم استغلال الاسم الجيد للمحكمة كواقي رصاص للسيطرة الإسرائيلية عليها، ولمشروع الاستيطان والجرائم التي ترتكبها حكومات إسرائيل. لو كان هناك بعض الصراحة والصدق في أوساط اليمين الإسرائيلي، لكان عليه التعامل مع المحكمة العليا كتاج على الرأس، بدلاً من تحويلها إلى عدو للشعب.
- لا يستطيع هذا المقال تفصيل جميع الأضرار التي لحِقت بإسرائيل نتيجة سياسة الاستيطان. أولاً، ألحقت الضرر بأخلاقية الدولة التي وجدت نفسها في خضم حرب هي ليست الطرف العادل فيها (كلما ناضل الفلسطينيون من أجل حقهم في دولة، وليس إبادة إسرائيل). ويجب أن نضيف إلى ذلك التراجع الكبير في قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان بسبب الواقع الذي يتعارض معهما كلياً؛ والتجنيد الواسع للمؤسسات العامة والقضائية من أجل الدفع بسياسة غير قانونية، ولو كان الثمن التضحية بمهنية هذه المؤسسات (على سبيل المثال، يمكن الاطّلاع على تجنّد مجلس التعليم العالي لتشريع الكلية التي أصبحت جامعة في أريئيل). وأيضاً لا يمكن تجاهُل تأثير هذا الفساد في الجيش وأجهزة الأمن الأُخرى. ففي واقع الاحتلال، بحسب المفكر الفرنسي - التونسي ألبير ممّي، يصبح المحتل أقل قيمة في نظر مَن يحتله. ومن هنا، يأتي الاستخفاف الذي لا يمكن منعه بالعدو الذي جعلنا ندفع أثماناً كبيرة من الدماء، ويمكن أن يدفعنا إلى الانهيار كلياً. لقد قيل كلام كثير عن التغيير الثوري للنظام الذي تشهده إسرائيل، ولم يتم الحديث بالقدر الكافي عن العلاقة بين هذا التغيير وبين سيطرتنا على الضفة والفلسطينيين الذين يعيشون فيها، وهدفها دفعهم إلى خارجها.
- لا يمكن لأيّ دولة تجاهُل هذا الرأي الاستشاري، حتى الولايات المتحدة. فإسقاطات هذا الرأي على المستوى الدبلوماسي، وأيضاً كافة مجالات الحياة، يمكن أن تكون مدمرة. لكن لنأمل بأن يخرج شيء جديد، ويتصاعد الضغط على إسرائيل للتوصل إلى سلام، فمن دون هذا الضغط، يجب الاعتراف بأنها ستتمسك بموقفها. معنى هذا التمسك هو صراع عنيف دائم مع الفلسطينيين الذين لن يتنازلوا، كما لم يكن الإسرائيليين ليتنازلوا عن حريتهم واحترامهم وحقوقهم كأفراد وشعب. لا يوجد أيّ ديمقراطية تستطيع إدارة صراع كهذا إلى الأبد، وتبقى ديمقراطية.
- الرأي الاستشاري يعزز المعضلة أمام إسرائيل - استمرار السياسة الحالية التي تقود إلى الهاوية والعزلة الدولية والخطر الوجودي الحقيقي والتحول الحاد؛ أو العودة إلى المفاوضات، وهي الأداة الوحيدة التي يمكن أن تخرجنا من الفخ. القضاة الذين وقّعوا الورقة من أجل إنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بأسرع وقت ممكن، يرسمون رؤية حلّ دولتين تعيشان بسلام، الواحدة إلى جانب الأُخرى، وبحدود معرّفة وآمنة. كل مَن يعتبر إسرائيل غالية عليه، ومَن يعيش في الواقع، وليس في الأوهام المسيانية، يجب أن يقف إلى جانب هذه الدعوة.