انهيار السلطة الفلسطينية سيناريو يجب تلافيه
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • منذ تأليف الحكومة الإسرائيلية الحالية في سنة 2022، تفاقم الضعف وفقدان الشرعية لدى السلطة الفلسطينية، وذلك على خلفية تنفيذ وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع بتسلئيل سموتريتش خطته المسماة "خطة الحسم"، والتي تهدف إلى حسم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من دون تسوية سياسية، وكذلك نتيجة مطالبات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بتشديد استخدام القوة ضد الفلسطينيين. إن الثقل السياسي الذي يتمتع به هذان الوزيران يمنحهما، في نظر الفلسطينيين والأطراف الدولية، صدقية تشير إلى أنهما يمثلان، فعلاً، السياسة الرسمية الإسرائيلية. ويُعتبر الأمر أحد التهديدات الحقيقية التي واجهها الفلسطينيون حتى الآن. من غير الواضح كيف سيخدم انهيار السلطة فكرة الحكم الذاتي الفلسطيني، التي يدعمها بعض الأحزاب اليمينية في إسرائيل كحلّ للنزاع يمكن فرضه على الفلسطينيين. إذ من المشكوك فيه ما إذا كان في الإمكان العثور على قيادة بديلة من "فتح"، وهذا ما سيضطر إسرائيل، عندئذٍ، إلى تحمُّل المسؤولية بشأن إدارة حياة الفلسطينيين في أرجاء الضفة الغربية.
  • أثار هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر والحرب على قطاع غزة غضباً هائلاً داخل إسرائيل على "حماس"، وعلى الفلسطينيين بصورة عامة. كما ساهم تصريح نتنياهو "فتحستان = حماسستان" في إذكاء الغضب العام الإسرائيلي، الذي يدعم شطب مصطلحات "دولة فلسطينية" و"حل دولتين لشعبين" من القاموس العبري، هذا التصريح يعزز كل خطوة تُضعف السلطة الفلسطينية. 
  • وفي الآونة الأخيرة، اتخذت الحكومة الإسرائيلية سلسلة من القرارات التي تهدف إلى معاقبة السلطة الفلسطينية وإضعافها. وشملت هذه القرارات رفع نسبة الحسومات من أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل شهرياً لتحويلها إلى الفلسطينيين، كما تم تمرير مشروع قانون يسمح لضحايا "الإرهاب" بمقاضاة السلطة للحصول على تعويضات مالية منها، في حين تُبذل محاولات لقطع العلاقات بين البنوك الإسرائيلية والبنوك الفلسطينية، وتم منع دخول العمال الفلسطينيين، الذين يعملون في قطاع البناء، في أغلبيتهم، إلى إسرائيل، وزاد بشكل ملحوظ عدد الوحدات السكنية التي يتم إنشاؤها في المستوطنات في جميع أنحاء الضفة الغربية، وتمت الموافقة على قوننة البؤر الاستيطانية والمستوطنات، كما قررت الحكومة الإسرائيلية سحب صلاحيات من السلطة الفلسطينية في مناطق B، التي تُعتبر "محمية بالاتفاقات"، ونسبتها إلى نفسها. كما أضاف الكنيست الإسرائيلي إلى هذه الخطوات قراراً يعارض إقامة دولة فلسطينية، بأغلبية 68 عضواً، في مقابل 9 معارضين.
  • بناءً عليه، تزداد المخاوف في محيط أبو مازن، وفي صفوف أجهزة الأمن التابعة للسلطة، وفي الساحة الفلسطينية عموماً، من العقوبات التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية. ويأمل هؤلاء بألّا تسمح الولايات المتحدة، أو المجتمع الدولي، لإسرائيل بتفكيك السلطة، أو تقويضها، استناداً إلى التزام تلك الأطراف باتفاقية أوسلو.
  • قبل "مذبحة" السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أشار رئيس السلطة وغيره من المتحدثين الرسميين الفلسطينيين إلى العواقب الخطِرة للسياسة الإسرائيلية، من حيث انخفاض مستوى الأمان الذي يشعر به الفلسطينيون في الضفة الغربية وازدياد الاحتكاكات بينهم وبين المستوطنين اليهود. أمّا في الساحة الفلسطينية نفسها، فمنذ عدة أشهر، يدور نقاش تزكّيه السلطة، ويتهم "حماس" بجرّ الفلسطينيين نحو كارثة. من المتوقع أن تزداد مفاعيل هذا النقاش بعد الحرب، وهو ما سيُراكم المصاعب أمام جهود المصالحة بين الفصيلين، وفي الوقت نفسه، يزيد في مخاوف "فتح" والدائرة المحيطة بأبو مازن من الخطوات التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية، والتي من شأنها التسبب بإسقاط السلطة الفلسطينية. 
  • اليوم، لم يعد الأمر متعلقاً بالتفكيك المتعمد للسلطة، احتجاجاً على عدم التقدم في العملية السياسية (كما كانت عليه الحال في سنة 2012 وسنة 2013، عندما حظيت قدرات السلطة بالاعتراف الدولي، واعتُبرت كياناً فعالاً وبنّاءً)، بل أصبح يتمثل في خشية كبيرة من العقوبات الإسرائيلية التي تهدف إلى شلّ السلطة، أو التسبب بانهيارها.
  • في هذا السياق، من الواضح أن أهمية السلطة كرمز وطني فلسطيني، أكبر كثيراً من قدرتها على الأداء. فالمتحدثون باسم "فتح" من الحلقة المحيطة بأبو مازن، وفي معرض نقاشاتهم مع "حماس"، حتى بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أصبحوا يُبرزون إنجازاتهم ضد إسرائيل في الأيام التي سبقت اتفاقيات أوسلو، على غرار: العودة إلى الوطن، والإفراج عن أكثر من 6000 أسير فلسطيني من السجون الإسرائيلية في خطوة واحدة، وإنشاء مؤسسات وطنية في قلب فلسطين، وازدياد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. من وجهة نظر هؤلاء، تُعتبر السلطة المؤسسة المركزية في فلسطين.
  • في المقابل، تبنّت "حماس" نفسها نهج السلطة نفسه، وإن استخدمته كخشبة للقفز من أجل الاستيلاء "الشرعي" على الساحة الفلسطينية، حين قررت خوض الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني سنة 2006، (وكانت تنوي خوضها مرة أُخرى في سنة 2021 ثم توقفت عن ذلك، بعد إلغاء الانتخابات).  في حين أن أبو مازن، الذي يقدم اتفاقات أوسلو كأحد إنجازات منظمة التحرير الفلسطينية، يرى أن المقاومة المسلحة التي تمارسها "حماس" لم تتعلم من تجارب أسلافها، ويعتبر أهمية السلطة كامنة في أنها التعبير الأبرز عن الحضور الوطني في فلسطين.

مخاطر الإضعاف المستمر للسلطة

  • إن عمليات إضعاف السلطة ستزيد في الظواهر الخطِرة التي نشهدها منذ عدة أشهر، والتي تشمل:
  • اتساع حلقة "الإرهاب" وامتدادها نحو وسط الضفة وجنوبها...
  • تصاعُد الاحتكاكات بين المستوطنين والفلسطينيين، الأمر الذي يُفاقم التوتر في الضفة الغربية، ويزيد في دفع الفلسطينيين إلى تنفيذ عمليات، ويُذْكي خطاب الانقسام الإسرائيلي الداخلي.
  • إضعاف السلطة، التي تُعتبر الحاجز الذي يقي من خروج الآلاف إلى الشوارع...
  • بروز شرقي القدس كمركز للاحتكاكات ومحاولات تنفيذ الهجمات من جانب السكان الفلسطينيين، الذين يسعون للتعبير عن تضامنهم مع قطاع غزة، ومواقع الاحتكاك في الضفة الغربية.
  • التوتر في صفوف مواطني إسرائيل من العرب، الذين يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، والذين امتنعوا، حتى اللحظة، من الاحتجاج والتعبير عن تضامنهم مع إخوتهم خلف الخط الأخضر، والذين من شأنهم الانطلاق في احتجاجات شعبية، لخدمة "حماس" ومحور المقاومة، إذ إن هذه الأطراف معنية بتوسيع ساحة الاشتباك لتمتد إلى قلب إسرائيل.

انهيار السلطة وفقدانها القدرة على العمل:

  • السلطة الفلسطينية لن تنعي نفسها وتعلن انتهاء دورها التاريخي، إذ إن التوتر السائد بين إسرائيل والولايات المتحدة والمجتمع الدولي حيال هذا الأمر سيساعدها على البقاء. لكنها، بصفتها كياناً حكومياً، سيتعين عليها مواجهة تحديات صعبة للغاية، يفرضها عليها الواقع. أمّا على مستوى العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، أو المستوى الإقليمي، أو الدولي، فإن انهيار السلطة سيكون له آثار بعيدة المدى:
  • ستضطر منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية إلى الاعتراف أمام منافسيها الداخليين والدول العربية الداعمة للاتفاقيات بفشل خيارها السياسي. سيمثل الأمر نهاية "رسمية" لعصر أوسلو.
  • ارتفاع مكانة "حماس" وغيرها من المنظمات الإسلامية في الإقليم كبديل من السلطات الحالية.
  • سيكون السعي لتسوية بين إسرائيل والدول الراغبة في التطبيع، والتي يُعتبر حل المشكلة الفلسطينية دعامة رئيسية تستند إليها هذه الدول، معرض تشكيك كبير.
  • في ظل غياب قيادة بديلة من منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، قد يتنصل المجتمع الدولي من مسؤوليته عن الواقع الذي سينشأ في أعقاب انهيار السلطة
  • في ظل هذا الوضع، ستضطر إسرائيل إلى تحمُّل مسؤولية الإدارة المدنية في المدن والبلدات الفلسطينية، التي كانت تحت السيطرة الفلسطينية خلال الثلاثين عاماً الماضية، بما ينطوي عليه ذلك من أعباء مالية.
  • سيكون العبء الاقتصادي الذي ستتحمله إسرائيل ثقيلاً.إذ سيتعين عليها، من ضمن أمور أُخرى، التعامل مع ديون السلطة، أو عدم استعداد الجهات المالية الدولية لتزويدها بالائتمان.
  • ستتسع حرب الاستنزاف المتعددة الجبهات، والتي تديرها إيران ضد إسرائيل، عبر وكلائها، وستشتعل جبهات أُخرى لا تزال نائمة حتى الآن.

الجانب الأمني:

  • إلغاء التنسيق الأمني مع السلطة، الذي سيلقي العبء الأمني بالكامل على كاهل الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن الأُخرى في جميع أنحاء الضفة الغربية.
  • ارتفاع الحاجة إلى نشر قوات كبيرة في الضفة الغربية لحماية الطرقات والمستوطنات والأماكن المقدسة.
  • ارتفاع مستوى "الإرهاب"، ونشوء جماعات "مستقلة"، أو من طرف المنظمات الإسلامية، وتمدّد العمليات "الإرهابية" إلى مواقع في جميع أنحاء إسرائيل.
  • ازدياد الاحتجاجات في أنحاء الضفة الغربية، وانتقالها إلى المواطنين العرب داخل إسرائيل، الذين يسعون للتعبير عن تضامنهم مع إخوانهم الفلسطينيين.
  • اضطرار الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى بذل مزيد من الموارد، وهو ما سيفاقم الضغط الاقتصادي على إسرائيل.
  • وقوع انهيار أمني يؤدي إلى فوضى داخلية، سيجعل إسرائيل مضطرة إلى التدخل لضمان استقرار الأوضاع.
  • ازدياد التوتر في العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو ما يزيد في العداء ويعقّد فرص التوصل إلى حلّ سلمي مستقبلي.

التوصيات:

  • إن انهيار السلطة الفلسطينية ليس مجرد مسألة محصورة في العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، بل هو قضية إقليمية ودولية. فالدول العربية الرئيسية ومعظم الدول الغربية تشارك في العمليات السياسية التي تهدف إلى تعزيز اتفاق إسرائيلي-فلسطيني. وعلى الرغم من فشل اتفاقيات أوسلو في تمهيد الطريق لمناقشة قضايا الحل النهائي، فإنها لا تزال تُعتبر آلية تحافظ على الاستقرار النسبي والحيلولة دون تدهور الأوضاع. هذه السلطة هي بمثابة الخيار الافتراضي هنا، نظراً إلى الجمود الذي آلت إليه العملية السياسية منذ سنة 2009.
  • لا يزال الوقت متاحاً لتجديد الجهود الرامية إلى تعزيز السلطة الفلسطينية وجعلها جهة مسؤولة ومستقرة وفعّالة، ملتزمة بمسار الحل السلمي، ومن المهم أن نتذكر التالي:
  • سيكون لانهيار السلطة الفلسطينية تداعيات سلبية على إسرائيل في المجالات الداخلية والإقليمية والدولية. يجب تجنّب حدوث ذلك، وبصورة خاصة في ظل الوضع الحالي. على إسرائيل تركيز جهودها على تفكيك وإزالة التهديد الذي تشكله حركتا "حماس" والجهاد الإسلامي في قطاع غزة والضفة الغربية، وتجنّب التحركات التي من شأنها إضعاف السلطة إلى حد يوصلها إلى الانهيار، أو الفشل الوظيفي، وأن تكسب بطاقة الدخول إلى تحالف أمني - اقتصادي إقليمي بقيادة الولايات المتحدة، وتمهيد الطريق من جديد لتسوية الصراع مع الفلسطينيين المعتدلين.