تأسس في سنة 1993 على يد الدكتور توماس هيكت، وهو من زعماء اليهود في كندا، وكان تابعاً لجامعة بار إيلان، وأُطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري الذي وقّعه مناحيم بيغن وأنور السادات. يعالج مسائل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والصراعات في المنطقة والعالم. يميل نحو وجهة نظر اليمين في إسرائيل. كما أصدر المركز مئات الدراسات والكتب باللغتين العبرية والإنكليزية.
ظاهرة الحرب الطويلة
- حطّمت كارثة السابع من تشرين الأول/أكتوبر العديد من المعتقدات والمفاهيم السائدة في المجتمع الإسرائيلي، في حين أن الحرب التي تخوضها إسرائيل منذ ذلك الحين تختلف عن الحروب السابقة. لكن السؤال هنا هو: هل فشلت الرؤية الأمنية السائدة وباتت إسرائيل بحاجة إلى رؤية جديدة، أم إن الخطأ كان في تطبيق الرؤية الأمنية السائدة منذ بداية الحرب؟
- كان كلٌّ من بن غوريون وزئيف جابوتنسكي يؤمنان بأن جولات الحرب التي يتكسر فيها العدو على "الجدار الحديدي" [1] ستجعل دول المنطقة، في نهاية المطاف، تتقبل وجود إسرائيل، وتغيّر استراتيجيتها، وتختار طريق السلام، كما فعل السادات والملك حسين لاحقاً. إن هذا الفهم القائل أنه لا يمكن فرض إنهاء النزاع بالقوة، أو ضمان تطوّر إسرائيل في أثناء الحرب المستمرة، وهو ما قاد بن غوريون إلى بلورة رؤيته الأمنية التي ظلت مطبّقة حتى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
- كانت الرؤية الأمنية لإسرائيل بحاجة إلى حل مشكلة أساسية: فإسرائيل موجودة في منطقة معادية لا تقبل وجودها، لكنها لا تستطيع الاحتفاظ بجيش كبير في الحياة اليومية، وأن تتطور، اقتصادياً واجتماعياً، في الوقت نفسه. وقد تمثّل حل هذه المعضلة، حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في امتلاك جيش نظامي صغير يوفر حلولاً للمشاكل الأمنية اليومية؛ ومحاولة تأجيل الحروب عن طريق ردع الأعداء عن تنفيذ مقاومتهم المبدئية؛ والاعتماد على جيش احتياطي كبير يتم تجنيده سريعاً، بناءً على إنذار استخباراتي. وبما أن تجنيد الاحتياط يشلّ نشاط الاقتصاد الإسرائيلي، فإن الرؤية الأمنية كانت تفضل الحروب القصيرة.
- هذه الرؤية كانت تفترض أن إسرائيل لا تستطيع فرض إنهاء النزاع بالقوة على الجانب الآخر لأنها صغيرة جداً بالنسبة إلى العالمَين العربي والإسلامي. وهذه هي الركيزة الأولى للرؤية الأمنية. خلقت هذه المقاربة دينامية "الجولات القتالية". كانت إسرائيل مضطرة إلى الانخراط في حرب كبيرة واحدة، مرةً كل بضعة أعوام، لتضرب العدو عبر حرب قصيرة وشديدة ومباغتة، وبالتالي تكسب بضعة أعوام من الهدوء النسبي. لقد استغلت إسرائيل الهدوء والمكاسب التي حققتها في الحرب (الوقت، الأراضي، الردع، الاستقرار الاستراتيجي)، لتتحول من دولة صغيرة وفتية إلى قوة إقليمية عسكرية واقتصادية. لم تكن هذه الفترات الممتدة ما بين الجولات الحربية (أي حالة الروتين الأمني) هادئة أمنياً. ففي الواقع، منذ تأسيس دولة إسرائيل، لم يمر شهر من دون حدث أمني في إحدى جبهات النزاع. هذا الروتين - هو الاسم المعتاد للوضع الأمني الإسرائيلي، هو روتين المواجهة المحدودة.
- على مدار تاريخها القصير، لم تتمكن إسرائيل قط من القضاء على أيّ تهديد أمني. بعد عشرة أيام على الانتصار الكبير في حرب الأيام الستة وانهيار الجيش المصري، جددت مصر إطلاق النار. وحتى النجاحات الاستراتيجية، على غرار "طرد" منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، بعد حرب لبنان، لم تؤد إلى اختفاء العداء الفلسطيني من لبنان، ولم تقضِ على تطور وتعزيز قوة حزب الله. وحتى عملية "الدرع الواقي" [اجتياح مناطق السلطة الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية] ، واستبدال عرفات بأبو مازن الذي تحول عن سياسة دعم "الإرهاب"، لم تقضِ على "الإرهاب" الفلسطيني. وحتى اليوم، يجد الجيش الإسرائيلي نفسه مضطراً إلى تنفيذ عمليات، تقريباً كل ليلة، لمحاربة "الإرهاب" الفلسطيني في الضفة الغربية.
- لقد استغلت إسرائيل "فترات الروتين" هذه جيداً، وتحولت من دولة صغيرة وضعيفة وفقيرة، إلى قوة إقليمية من جميع النواحي. فإلى جانب تعاظُمها الاقتصادي، تعززت إسرائيل عسكرياً، وضربت أعداءها مراراً وتكراراً، وهو ما جعل بعضهم يضعف ويتغير. لكن، وكما كان متوقعاً، لم تتمكن إسرائيل من فرض إنهاء النزاع على أعدائها، وكما قال بن غوريون "إننا لن نعيش المعركة الأخيرة".
- قد يفكر البعض في أنه إذا كان مقدَّراً لإسرائيل الدخول في حرب كبيرة كل فترة، فإن كل النشاط الأمني والسياسي في فترة الروتين لا طائل منه ولا يأتي بنتائج - لأن النتيجة، في نهاية المطاف، ستكون دائماً الدخول في حرب. لكن الأمن اليومي، الدفاعي والهجومي، يمكن أن يؤجل الحرب، ويحافظ على مستوى مقبول من العنف في فترة الروتين.
- لماذا تسمح إسرائيل للطرف الآخر بالتسلح أكثر مما يمكن أن يُفترض أنه مريح لها؟ لماذا لا تعمل قبل أن يتسلح الطرف الآخر؟ الإجابة واضحة، إسرائيل تستغل فترات الروتين للتطور والنمو. صحيح أن الحروب المتكررة كثيراً قد تعيق أعداءها عن التطور، لكنها كانت ستدمر الاستراتيجيا الإسرائيلية المبنية على فترات الروتين.
- إن هذا "الإدمان على الهدوء"، حسبما يسميه أحياناً معارضو الرؤية الأمنية البن-غوريونية، ليس علامة ضعف، بل هو تطبيق للرؤية الأمنية.
- إذا لم تتمكن إسرائيل من فرض إنهاء النزاع على أعدائها بالقوة، وظل هناك، من ضمن أعدائها، مَن يرغب في العمل ضدها بعنف، فما الذي يمنعه من العمل طوال الوقت والتعزيز من دون قيود؟
- إذا لم تستطع إسرائيل الاحتفاظ بجيشها كله مجنداً وناشطاً، وتعيّن عليها الاكتفاء بنواة صغيرة نظامية، فما الذي يمنع أعداءها من مهاجمتها كل يوم، في ظل عدم تجنيد الاحتياط؟ لماذا لم نشهد، عبر تاريخنا، هجمات كهجمة السابع من تشرين الأول / أكتوبر كل يوم؟
- هنا، علينا أن نتحدث عن الردع والإنذار
- عادةً ما يكون أعداء إسرائيل مردوعين عن شن حرب جديدة ضدها لأنها أثبتت لهم أنها أقوى منهم، وأن الحرب ستتسبب لهم بأذى هم غير مستعدين لتحمُّله. فالردع يبعد الحروب ويحافظ على مستوى عنف مقبول في فترة الروتين. لكن لا يُفترض أن يقي الردع من الحرب إلى الأبد، ولا أن يمنع العنف تماماً في أوقات الروتين. فالردع مصيره دائماً، وفقاً للرؤية الأمنية الفشل. تحاول إسرائيل المحافظة على الردع لتأجيل الحرب، مع إدراكها أن الحرب ستندلع في نهاية المطاف. وفي الوقت نفسه، تستثمر إسرائيل جهداً مستمراً في الدفاع، بهدف منع الطرف الآخر من ضربها في أثناء فترات الروتين. من الواضح أن الدفاع لا يقي من العنف تماماً.
- تبذل إسرائيل جهوداً كبيرة في العمل الاستخباراتي الذي يهدف، أساساً، إلى التحذير من نية العدو الخروج إلى الحرب. بما أنه من الواضح إمكان حدوث إخفاق في عمليات الإنذار، فإن إسرائيل تبني نظاماً دفاعياً يهدف إلى صد الهجوم خلال فترات الروتين، حتى في الحالات التي تخفق فيها الإنذارات.
- يجب أن يوفر الدفاع حلاً للتهديدات الآتية عبر الحدود و"الإرهاب" في فترات الروتين. هذه المهمة المزدوجة تتمثل في الدفاع في وجه العنف المنخفض الكثافة، وكونها تمثل "بوليصة تأمين" في حالة خلل في الإنذار، وهو ما قد يؤدي إلى فهم مغلوط فيه لمهمة الدفاع، أو خطأ في السيناريو الذي يستعد له هذا الدفاع.
- يبدو أن هذا ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. إذ فشل الجيش الإسرائيلي في تحديد إمكان قيام "حماس" بشن هجوم كبير على "مستوطنات الغلاف". لقد تم إعداد الجيش الإسرائيلي وتدريبه في الروتين لمنع التسلل [تسلل الأفراد والمجموعات المنفردة]، وليس الاجتياح. وسواء أكان مردّ الإخفاق نابعاً من الفهم الاستخباراتي، أو إدراك درجة الحماية التي يوفرها الجدار الجديد العازل الذي أُنجز بناؤه حول قطاع غزة، فإن استعداد الجيش الإسرائيلي لم يأخذ في الاعتبار احتمالات اختراق الجدار، ولا النطاق الواسع للهجوم. لم يكن الجيش الإسرائيلي مستعداً لهذا السيناريو، ولم يقم بتحضير أوامر لمواجهته. لم تبنِ استخبارات الجيش نموذجاً للإنذار في وجه مثل هذا التحرك، وبالتالي لم تقُم هذه الأجهزة بالتحذير منه. إن الاستعداد الضعيف، وعدم إعداد ردّ لمواجهة مثل هذه المفاجأة، سمحا لحركة "حماس" باختراق الحدود وتنفيذ هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بما انطوى عليه من نتائج مروعة.
- لكن هل كان في هجوم "حماس" عناصر لم يكن لدى إسرائيل القدرة على حماية نفسها منها؟ هل اكتشفت "حماس" أدوات عملياتية لا يمكن لإسرائيل أن تجد رداً دفاعياً عليها؟ هل تمت استعدادات "حماس" بطريقة لم يكن في إمكان استخبارات الجيش اكتشافها؟ المأساة هي أن الإجابة لا!
- هل قدّر أحد في إسرائيل أن وجهة "حماس" هي نحو السلم؟ هل فوجئ أحد بحقيقة أن "حماس" لا تزال تعارض إسرائيل وتؤمن بالمقاومة العنيفة؟ هل فكر أحد في إسرائيل في أن في الإمكان ردع "حماس" إلى حد أن يُفرض عليها إنهاء النزاع، بما يتعارض مع الركيزة الأولى للرؤية الأمنية؟
- إن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمدنيين، ومئات الرهائن، ومظاهر تدل على فقدان إسرائيل قوتها، هي جميعها عوامل دفعت إسرائيل إلى الخروج إلى الحرب التي سيكون من الواضح في نهايتها أن "حماس" ارتكبت خطأً فادحاً، وذلك لترميم المكانة الاستراتيجية الإسرائيلية في الإقليم. لكن هل حجم الضربة التي تلقتها إسرائيل، جعلها فجأة أكثر قوةً مما كانت تعتقد أنها عليه قبل الحرب؟ هل الإخفاق الذريع في الدفاع والردع جعل إسرائيل أقوى، بحيث صار في إمكانها أن تفرض على أعدائها إنهاء النزاع بالقوة؟ هل ضربة "حماس" لإسرائيل، بكل ما تنطوي عليه من "فظائع"، حولت الجيش الإسرائيلي إلى جيش أقوى، بحيث صار قادراً على القضاء على تهديد "حماس" الآتي من غزة، مع علمنا بأن إسرائيل لم تفلح قط في القضاء على التهديدات المحيطة بها؟ وهل الضرر الكبير الذي لحِق ببلدات "غلاف غزة" جعل اقتصاد إسرائيل قوياً، والمجتمع الإسرائيلي منيعاً، إلى الحد الذي صارت فيه إسرائيل، على حين غرة، قادرة على خوض حرب طويلة ذات كثافة نارية عالية؟
- الصدمة والشعور بالانكسار دفعا كثيرين إلى الاعتقاد أن هجوم "حماس" حطم الرؤية الأمنية الإسرائيلية. ووجهة النظر القائلة إن الردع قد فشل - والدليل هو أن "حماس" لم ترتدع. لقد فشل الإنذار. وبناءً عليه، فإن فرضية بن غوريون القائلة إنه لا يمكن ألّا تحظى إسرائيل بعيش المعركة الأخيرة، لم تعد صحيحة- إذ ساد الاعتقاد أنه يمكن شن حرب من أجل القضاء على "حماس". حرب واحدة، ثم تنتهي القصة، حرب نهائية، أو "انتصار مؤزر".
- لنحاول صوغ الرؤية الأمنية البديلة، تلك التي سادت بعد الثامن من تشرين الأول/أكتوبر. بحسب هذه الرؤية، لا يمكن لإسرائيل أن تتجاهل التهديدات التي تحيط بها. ويجب عليها العمل بحزم وباستمرار للقضاء التام على أعدائها واستبدالهم بجهات سياسية تتقبل سياساتها وأهدافها الوطنية. من هنا يجب أن يتمثل هدف الحرب في غزة في القضاء التام على القوة العسكرية لحركة "حماس" وتفكيك حكومتها المدنية في القطاع، لكي يصبح في الإمكان التأكد من عدم قدرتها على تهديد "مستوطنات الغلاف"، بعد الآن. دعونا نتجاهل، للحظة، التداعيات اللانهائية لهذه الرؤية عند التفكير في تطبيقها على لبنان والجبهات الأُخرى. إن قطاع غزة كناية عن مساحة جغرافية محدودة، وتضاريسه تسهّل المناورة، فكيف يبدو الانتصار الكامل على غزة الآن؟ أهو سيطرة كاملة وطويلة الأمد على الأرض، على الأقل، كما هي الحال في الضفة الغربية؟
- بعد عشرة أشهر من الحرب، احتل الجيش الإسرائيلي معظم أراضي القطاع، ودمّر العديد من المباني والشبكات "الإرهابية" والأنفاق. لكن "حماس" لا تزال موجودة، وتعمل، وإن كانت غير قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية كبيرة.
- قد يقول قائل: يمكن أن تكون الطريقة التي شغّل بها الجيش الإسرائيلي قوته العسكرية غير صحيحة. لكننا نعلم بأن الجيش الإسرائيلي، حتى لو كان عمل بصورة مختلفة، فليس من الواضح كيف يمكنه القضاء على مقاتلي "حماس"، إذا ما قرر هؤلاء الانسحاب والاندماج بين السكان المدنيين. كيف يمكن القضاء على جميع مقاتلي "حماس" عندما يكونون هم الذين يختارون وقت القتال، أو الاندماج. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المباني والبنية التحتية. لم يتردد الجيش الإسرائيلي في تدمير المباني والأنفاق في غزة، واستخدام ذخائر جوية ومواد متفجرة لم يسبق استخدامها على الأرض، وكانت أعداد المنازل التي دُمرت هائلة. وعلى الرغم من الادعاءات القائلة إن الأميركيين منعوا الجيش الإسرائيلي من الحصول على الذخائر، فإنهم زودوا إسرائيل بعشرات الآلاف من القنابل التي لم تكن إسرائيل تملكها أصلاً في بداية الحرب.
- بعد هذا كله، هل كان يمكن لإسرائيل تدمير مزيد من البنية التحتية؟
- وهل سيُفاجأ أحد إذا استمر التهديد "الإرهابي" من غزة، بما يشمل القصف الصاروخي من وقت إلى آخر، حتى بعد تحقيقنا "النصر المؤزر"، بعد تحقيق النصر الكامل في غزة وهزيمة "حماس"؟ هل يمكننا حقاً منع حدوث ذلك؟ فإن لم نتمكن، فما هي الفائدة من استمرار الحرب إلى الأبد؟
- يخوض الجيش الإسرائيلي الحرب بأشكال متفاوتة من الشدة منذ عشرة أشهر فعلياً. يقاتل الجنود النظاميون باستمرار تقريباً، في حين باتت قوات الاحتياط في دورة عملها الثالثة. والمعدات والأدوات تتحمل عبئاً أكبر كثيراً مما تم تصميمه لها، وفقاً للعقيدة الحربية الإسرائيلية، فهل يمكن لأحد أن يفترض أن هذا الجهد يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟ هل هناك حدود لساعات تشغيل ونشاط الآلة العسكرية الإسرائيلية؟ هل هناك علاقة بين طول الحرب في غزة، والوضع الاستراتيجي المعقد على الحدود الشمالية؟
- يدّعي مؤيدو الرؤية البديلة أن رؤية بن غوريون لم تعد توفّر الأمن. ويقول هؤلاء إن الامتناع من تحقيق النصر الكامل يعود في المقام الأول إلى الضعف. فهل تحقيق الرؤية الجديدة ممكن من ناحية الأدوات؟ أو من ناحية الشرعية الدولية؟ أم أن هذا الادعاء يتجاهل الواقع؟
- عندما يُطرح السؤال عمّا يجب فعله بشأن نقص الذخائر، غالباً ما تكون الإجابة أنه كان من المفترض أن تحقق إسرائيل الاكتفاء الذاتي في هذا المجال. لكن: كيف يمكننا الآن، في هذه اللحظة، شنّ حرب باستخدام ذخائر كان يجب علينا أن نهتم بإنتاجها، لكننا لا نملكها؟
- يُضاف إلى ذلك، أن الذين يقولون بضرورة تبنّي رؤية بديلة يتجاهلون حاجتنا إلى الدعم العسكري والسياسي الأميركيَّين. فهل يمكن لإسرائيل، الآن، مواجهة جميع التهديدات من حولها بمفردها، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً؟ وهل يمكن لإسرائيل البقاء من دون دعم أميركي في الأمم المتحدة؟ هل يمكن لإسرائيل أن تصمد في حال فُرض عليها حصار عالمي؟
- هناك مَن يُظهرون مشاعر رومانسية، مستحضرين المصاعب التي عاشها الطلائعيون، مؤسسو إسرائيل، في حرب الاستقلال، مستدلّين على أن المصاعب والصمود فيها هما اللذان يحققان النصر، في "حرب الاستقلال"، كنا وحيدين وقلة في مواجهة كثيرين، لكننا انتصرنا.
- يتناسى هؤلاء أن الجيش الإسرائيلي الفتي، بعد الهدنة الأولى في حرب 1948، تمكن من تعزيز قوته والوقوف الند للند، بل وقفة المتفوق، ضد جيوش مصر والقوات الزاحفة من الشمال. بالمناسبة، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من صدّ الجيش الأردني المجهز والمنظم آنذاك. صحيح أن إسرائيل انتصرت في حرب 1948، لكنها كانت بعيدة كل البعد عن هدف القضاء على أعدائها وتحقيق النصر المؤزر آنذاك. صحيح أن الإرادة والإيمان مهمّان في الحرب، لكنهما لا يضمنان تحقيق الإنجازات العسكرية. ويمكن لنا أن نتشبث ببسالتنا في التصدي للمصاعب في الماضي. لكن علينا ألّا ننسى أن هذه الصعوبات ليست شرطاً مادياً لتحقيق النصر، بل العكس هو الصحيح.
- هناك أيضاً دوافع أيديولوجية تقف خلف محاولة تغيير الرؤية الأمنية. فاليمين الإسرائيلي لا يؤمن بالتوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، ولا يرغب في دولة ثنائية القومية. إن معنى الامتناع من إجراء التسوية هو اختيار الحرب الأبدية. ووفقاً للوزير في وزارة الدفاع سموتريتش، تحتاج إسرائيل إلى رؤية أمنية تشمل حرباً مستمرة ضد الفلسطينيين إلى أن يتم القضاء عليهم. إن وجهة النظر هذه، ترى ميزة في الحرب التي لا تنتهي، وتتمثل هذه الميزة في القضاء على التهديد الفلسطيني لإسرائيل.
- لقد حددت الحكومة هدفاً غير ممكن، وفقاً لرؤية بن غوريون، أمّا الجيش الإسرائيلي فقد انطلق لتحقيقه من دون أن يكون لديه خطة، ومن دون أن يعين إطاراً زمنياً لتحقيق الأهداف. انطلق الجيش الإسرائيلي إلى حرب "السيوف الحديدية" من دون أن تكون لديه خطة واضحة لِما يحاول تحقيقه عسكرياً، وكيف يمكنه تحقيق ذلك، والأهم: كم يلزم من الوقت، وما هي الوسائل المتاحة له لتحقيق هذه الخطة غير المحددة. لكن المرء، عندما يرسم خطة عسكرية، يجب أن يستند إلى الموارد المتاحة له، فلا ينبغي له التخطيط، بناءً على قدرات لا يملكها، ومعدات تنقصه، ووقت لا نهائي وغير محدد لا يملكه لتحقيق أهدافه.
- يوضح دخول حزب الله إلى الحرب، بالطريقة التي اختارها نصر الله، العبثية في كيفية إدارة إسرائيل الحرب. إذ تم إخلاء منطقة كاملة من سكانها، وتم تهجيرها فترة غير محددة، لأن الجيش الإسرائيلي يبذل كل جهده في القطاع، ولا يمكنه تخصيص الموارد اللازمة للقتال على الجبهة الشمالية.
- ما هو الوضع الاستراتيجي لإسرائيل إذا ما انتهت الحرب في غزة، الآن، باتفاق تبادُل للمخطوفين، ومن دون أن يتم "ترحيل" حكومة "حماس" إلى تونس؟ وهل الثمن الهائل الذي دفعته غزة سيترك لدى "حماس" وبقية أعداء إسرائيل رغبة في الاستمرار، بعد أن تخبو هتافات الانتصار الإسرائيلية التي تحيي الأسرى العائدين إلى صفوفهم؟ أم إن الثمن الذي دفعته غزة، وربما الحيلولة دون إعادة إعمارها، ما دامت "حماس" في السلطة، سيكون كافياً لإعادة موضعة إسرائيل كقوة عسكرية إقليمية؟
- هل هناك فعلاً حاجة إلى رؤية أمنية جديدة؟ رؤية تشمل تدمير كل تهديد خارجي في حرب شاملة حتى القضاء عليه؟ إن القضاء على "حماس"يتطلب، حسبما نرى، تسعة أشهر على الأقل. فكم من الوقت، وكم من الذخائر والقوة العسكرية سيتطلب القضاء على حزب الله؟ وبعد القضاء على حزب الله، ما الذي سيمنع القوات المدعومة من إيران في سورية والعراق واليمن من الاستمرار في قتالنا؟ كيف يبدو القضاء عليهم عسكرياً؟ وكل هذا، وصولاً إلى الجائزة النهائية التي ستأتي في النهاية - ما الذي يحتاجه الجيش الإسرائيلي للقضاء على إيران وتحويلها إلى شريك في اتفاقيات أبراهام؟
- وفقاً للرؤية الجديدة، لا يمكن الاعتماد على الردع الذي يثبت دائماً فشله. ولا جدوى من حرب قصيرة لا تقضي تماماً على العدو. إذا ما كان هدف الحرب يتمثل في تحقيق النصر المؤزر، فعلينا بناء القوة لدعم هذا الجهد. وبناءً عليه: كم يوماً من الحرب علينا إعداد مخازننا؟ أسابيع، أم أشهر، أم سنوات؟
- وفقاً لـ "ظاهرة الحرب الطويلة"، يجب على الجيش الإسرائيلي الاستعداد والتزود بالذخائر، وإعداد الجنود لحرب تستمر أعواماً. فهل سيحتمل الاقتصاد الإسرائيلي ذلك؟ هل يمكن للاقتصاد الإسرائيلي تحمّل "أكبر جيش في الشرق الأوسط" (كما حدث بعد حرب "يوم الغفران")؟ هل يمكن للمجتمع الإسرائيلي الذي يدعم الاقتصاد ويخدم في الاحتياط تحمّل ذلك؟ هل ستبقى إسرائيل "جنة" للمستثمرين في ظل هيكل اقتصادي من هذا الطراز؟ هل سيتعين على أعداء إسرائيل تنفيذ هجوم 7/10/2023 آخر، أم عليهم مجرد الاكتفاء بانتظار مشهد انهيار مشروع بن غوريون من الداخل؟ هذه "المعجزة" الإسرائيلية سيتم تدميرها من الداخل. ربما يكون لدى إسرائيل جيش مجهز جيداً آنذاك، لكن ماذا سيحدث للدولة التي تعتمد عليه؟
- كيلا ننهي النقاش بقول ضبابي، مفاده أن هذه الرؤية التي تفضل الحرب الطويلة الأمد من أجل تحقيق النصر المؤزر، والقضاء التام على التهديدات، هي أمر غير ممكن أو غير واقعي. دعونا نفحص ما كان يمكن لإسرائيل أن تفعله خلال الفترة الماضية، بل دعونا نفحص ما الذي لا يزال في إمكان إسرائيل فعله، وفقاً للرؤية القديمة.
- لو تمت إدارة حرب "السيوف الحديدية"، وفقاً للرؤية الأمنية، يمكننا التفكير في الاستراتيجيا التالية (على سبيل المثال):
- كان الجيش الإسرائيلي سيكتفي بتوجيه ضربة قوية إلى "حماس"، من دون أن يوجه ضربة إلى جميع أراضي القطاع، مع إنشاء منطقة عازلة تماماً في شمال القطاع. منطقة كانت ستصبح، لاحقاً، نواة لإقامة حكم بديل. كانت إسرائيل ستتوصل مبكراً إلى اتفاق تبادل أسرى بثمن باهظ يتمثل في إطلاق سراح "الإرهابيين"، والإبقاء على حياة بعض قادة "حماس"، لكن هذا الاتفاق سيشمل أيضاً تشكيل منطقة حدودية جديدة وجدار يوفر الأمان الكافي لضمان عودة السكان إلى "مستوطنات الغلاف". كانت إسرائيل ستحتفظ بالدعم الدولي، وربما تشارك في إنشاء تحالف إقليمي مع السعودية. ولكان الجيش الإسرائيلي سيحتفظ بمقدّرات كافية لخوض حرب ضد حزب الله، وهي مقدرات سيمنع توفرها حدوث الحرب نفسها، وتساعد في التوصل إلى تسوية قد تعيد سكان الشمال إلى منازلهم.
- صحيح أن هذا الحل لا يمثل انتصاراً مؤزراً، وصحيح أن "حماس" كانت ستستمر في الوجود في ظله. لكن، كانت ستتوفر لدينا ظروف كافية لإقامة حكم بديل، على الأقل في شمال القطاع، في منطقة كانت ستبدأ بالتعافي بينما يبقى جنوب القطاع في الخراب. ربما كان الجيش الإسرائيلي سيحتاج إلى جولة حرب أُخرى في جنوب القطاع، لكن هذا هو قدر إسرائيل - هكذا كانت حالنا دائماً، وهذا ما ستكون عليه. كانت حكومة "حماس" ستنهار في النصف المدمّر من غزة. ولكانت الأوضاع المزرية في جنوب القطاع، توفر لإسرائيل صورة رادعة، حتى الجولة المقبلة على الأقل، كنا سنخوض حرباً قصيرة، مجرد جولة أُخرى، لكن عودتنا إلى الروتين كانت ستتيح لنا إعادة بناء أنفسنا والتعافي.
- نستقي من الأشهر التسعة الماضية أن الألم ليس ضماناً لتوفّر قدرة متخيلة لدينا. فإسرائيل ليست سوى جزيرة، تعتمد على جيش الاحتياط. والحرب الطويلة الأمد ليست حلاً لمشاكلها الأمنية. لن نتمكن من التوصل إلى نصر تام، لكن من شأننا، في المقابل، أن نصل إلى إخفاق تام، إذا بقينا نطارد النصر وقتاً أطول من اللازم، من دون أن نفكر في حدود قوتنا واقتصادنا ومجتمعنا.
[1] استراتيجيا سياسية وتكتيكية اقترحها زئيف جابوتنسكي في عشرينيات القرن العشرين لحل النزاع بين اليهود والعرب في فلسطين. آمن جابوتينسكي، وهو أحد قادة الحركة الصهيونية ومؤسس "التيار الصهيوني التصحيحي"، بأن اليهود يجب أن يبنوا "جداراً حديدياً" من القوة العسكرية والسياسية التي لا يمكن للعرب اختراقها، وذلك لإقناع العرب بأنهم لن يتمكنوا من تدمير الدولة اليهودية، وهذا ما سيدفعهم بالتالي إلى قبول وجود إسرائيل والتفاوض بشأن السلام.
تقوم النظرية على مبدأ مفاده أن المقاومة العربية للمشروع الصهيوني لا يمكن تجاوزها إلا بالقوة، وأنه يجب على اليهود خلق وضع لا يستطيع العرب تغييره بالقوة، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى قبولهم وجود الدولة اليهودية والتعايش معها. وقد رأى جابوتينسكي، بحسب فرضيته، أن السلام بين اليهود والعرب لن يتحقق إلا عندما يدرك العرب أنه لا يمكنهم تحقيق أهدافهم بالطرق العسكرية. [المترجم]