انتصار تكتيكي لإسرائيل، وإنجاز استراتيجي لإيران
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
- في الأيام القليلة القادمة، ستركز تحليلاتنا كثيراً على النتائج المادية للمعركة التي شُنت ضد حزب الله: مدى تأثير ضربات سلاح الجو الإسرائيلي في قدرات العدو، وما الذي كان يسعى حسن نصر الله لتحقيقه، ولم ينجح فيه. ففي خطابه المحسوب، الذي يُفترض أنه أمضى معظم يوم أمس في صوغه، بدا الأمين العام لحزب الله كأنه يضبط الأمور فيما يتعلق بما كان ينوي القيام به (إطلاق مكثّف للصواريخ على شمال إسرائيل وبعض الصواريخ/الطائرات المسيّرة على منشآت أمنية رمزية في الوسط)، لكنه "حرّف" النتائج بصورة كبيرة. الأهم من ذلك، أنه بدا راغباً في "إنهاء هذا الحدث" والعودة إلى مواصلة الحرب في الشمال ضمن المعايير الحالية.
- تبدو إسرائيل أيضاً في المزاج نفسه، بحسب تصريحات وزير الدفاع غالانت خلال زيارته للشمال. بهذا المعنى، كانت العملية التي نفّذتها إسرائيل صباح أمس (الأحد) دقيقة. فهذه العملية لم تقتصر على إنقاذ الأرواح فحسب، بل حالت دون قيام حزب الله بخطوات كانت ستؤدي، على الأرجح، إلى تصعيد حقيقي. سكان الشمال محقّون في قولهم إن إطلاق بعض الرؤوس الحربية على وسط إسرائيل كان سيجرّ إسرائيل إلى ردّ عسكري تحاول تجنُّبه، على الرغم من أنهم يتعرضون لنيران كثيفة، يومياً، منذ عشرة أشهر. هذه هي الحقيقة، ومع احترامنا لهذا الفخر الذي يُظهره بعض وزراء الحكومة، تبيّن مجدداً، أمس، أن إسرائيل لا ترغب في تغيير هذا الواقع. لقد وفرت عملية الجيش الإسرائيلي للقيادة السياسية الحرية اللازمة لمواصلة هذه السياسة، على الرغم من الغضب المشروع الذي يشعر به الذين تم إجلاؤهم من منازلهم قبل عشرة أشهر، ولا يعلمون متى سيعودون.
- بناءً على ما تقدّم، هذه هي الصورة التي ترسّخها الأحداث الأخيرة: إن إسرائيل، حالها في ذلك كحال حزب الله، لا ترى فائدة حقيقية من اندلاع حرب واسعة النطاق في الشمال. وقيادتها لا تؤمن حقاً بإمكان تغيير الوضع على الجبهة اللبنانية بالقوة العسكرية. وفي الوقت نفسه، فإن كلا الجانبين مستعدّ، من حين إلى آخر، لتحمُّل تبعات انفلات السيطرة على الحدث: قامت إسرائيل بذلك باغتيالها فؤاد شُكر في بيروت، وإسماعيل هنية في طهران (بحسب تقارير أجنبية)، ولو نجح القصف الذي عزم حزب الله على تنفيذه، لربما كنا الآن في خضم مواجهة أكبر كثيراً. هذا الوضع خطِر، حين يلقي كل طرف، أحياناً، بمسؤولية القرار على الطرف الآخر، ودائماً، هناك احتمال أن يخطئ أحد الطرفين في حساباته.
- أضاف غالانت قائلاً: "علينا النظر إلى الحرب من منظور شامل. نحن نقف على مفترق طرق استراتيجي، ويجب علينا استغلال المفاوضات لتحرير الأسرى، ومن خلال تحرير الأسرى: فتح الطريق أيضاً نحو تهدئة في الشمال". ما يقصده الرجل ببساطة هو أن المؤسسة "الدفاعية" التي لطالما روّجت فكرة أن الضغط العسكري هو السبيل الوحيد إلى تحقيق أهداف الحرب (المتمثلة في هزيمة "حماس"، وتحرير الأسرى، وإعادة سكان الشمال إلى منازلهم) ربما توصلت أخيراً إلى الاستنتاج الذي كان واضحاً منذ أشهر: إن استمرار القتال بصيغته الحالية لن يكسر "حماس"، وهو بالتأكيد لن يضمن عودة الأسرى. لن يتمكن سكان الشمال من العودة إلى منازلهم إلّا بعد توقّف إطلاق النار والتوصل إلى تهدئة، حتى لو كانت موقتة، وهذا لن يحدث إلى أن يتوقف القتال في غزة.
- لكن وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان لا يستطيعان قول ما يعتقدانه حقاً: يجب وقف القتال في غزة لتحسين الموقع الاستراتيجي الإسرائيلي في الحرب الحقيقية، أي الحرب ضد "محور المقاومة" الذي تقوده إيران. ولا يمكن تحقيق هزيمة "حماس"، إلا في حال إيجاد بديل منها داخل القطاع، في إطار تغيير إقليمي شامل يضع ثقلاً حقيقياً في مواجهة "محور المقاومة". صحيح أن شنّ عملية عسكرية في الوضع الراهن قد يؤدي إلى توجيه ضربة قوية إلى لبنان وحزب الله (بتكلفة غير بسيطة لإسرائيل)، لكن هذه العملية لن تخلق استقراراً في الشمال يضمن الأمن لسكانه.
- هنا يكمن الفخ. فقائد حركة "حماس" يحيى السنوار، الذي كانت آماله بإشعال المنطقة السبب الرئيسي لإطلاقه هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، يدرك الأهمية الاستراتيجية للتوصل إلى اتفاقية تبادُل أسرى ووقف القتال. وهو يعرف أن هذا سيكون بمثابة انتصار موقت له، لكن محور المقاومة لن يخوض حرباً شاملة ضد إسرائيل في المستقبل القريب، حسبما يحلم. لذلك، حتى لو توقّف رئيس الوزراء نتنياهو عن وضع العقبات أمام الصفقة، فليس من المؤكد أن السنوار سيوقّعها. هذا الفخ، على غرار الفخ الذي وقعنا فيه في الشمال، لم يتغير على الإطلاق نتيجة العملية الناجحة التي نفّذها سلاح الجو وشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيليَّين أمس.
- إيران تقف جانباً، تفرك كفّيها بسعادة غامرة، فهي الرابحة الكبرى من هذا الحدث برمّته. فعلى مدار الأسابيع الأخيرة، تستعد لدخول مرحلة جديدة على طريق تحوُّلها إلى قوة إقليمية تدير حواراً، على قدم المساواة، مع قوة عظمى هي الولايات المتحدة. لم تنتقم إيران لاغتيال هنية في طهران، ما المشكلة؟ إن اغتيال هنية يهمّ إسرائيل وحدها، هذه الإسرائيل التي أدمنت على أساطير "الذراع الطويلة" و"الردع"، تفترض أن اغتيال هنية أكثر أهميةً من تحسين موقعها الاستراتيجي.
- لقد أوضح الأميركيون، خلال الأسابيع الماضية، أن تركيزهم منصبّ على طهران وحدها، فاستعراض القوة الأميركي كان يهدف إلى ردع إيران عن الرد، لأن الرد الإيراني (بعكس اندلاع الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله) يجبر الإدارة الأميركية على حسم موقفها من الردّ، وهو أمر غير مريح لها لأسباب عديدة. تقوم إيران بتحصيل مقابل امتناعها من مهاجمة إسرائيل، في الوقت الذي يفترض المسؤولون الإيرانيون، في أغلبيتهم، أن مهاجمة إسرائيل في هذا الوقت، لا تصبّ في مصلحة إيران.
- هذا هو الضرر الحقيقي والمستمر، الذي يعود إلى أن رئيس الوزراء له مصلحة واضحة في استمرار الحرب، وحكومته تتعامل بفظاظة، ويهدد بعض أعضائها بتفكيكها، إذا ما تم التوصل إلى أيّ حلّ دبلوماسي، في الوقت الذي تُظهر المؤسسة الأمنية ضيق أفقها، وعندما أدركت هذه المؤسسة ذلك، لم تملك ما يكفي من الشجاعة لإبداء رأيها بصراحة: إن إسرائيل تواصل التحرك، من عملية تكتيكية إلى أُخرى، وتخاطر بوقوع عواقب غير مرغوب فيها، وتفقد الموارد (على غرار شرعيتها، وكفاءتها العسكرية)، والأهم: أنها لا تتقدم نحو أيّ هدف. صحيح أن "محور المقاومة" يتكبد خسائر، لكنه يعزز موقفه استراتيجياً. والأهم أن: جنودنا يسقطون صرعى، وسكان الشمال يفقدون الأمل، وما تبقى من أسرى في قيد الحياة، يواصلون التعفن في الأسر.