الاستراتيجيا التي تتّبعها إسرائيل في غزة لم تؤدّ إلى تغيير حقيقي، وآن الأوان لانتهاج طريق جديدة
المصدر
معاريف

تأسست في سنة 1948، وخلال العشرين عاماً الأولى من صدورها كانت الأكثر توزيعاً في إسرائيل. مرّت الصحيفة بأزمة مالية خانقة بدءاً من سنة 2011، واضطرت إلى إغلاق العديد من أقسامها، إلى أن تم شراؤها من جديد في سنة 2014.  تنتهج خطاً قريباً من الوسط الإسرائيلي، وتقف موقفاً نقدياً من اليمين.

المؤلف
  • ها قد مرّت عشرة أشهر!
  • مرت عشرة أشهر منذ كتبت واحداً من أول مقالاتي في هذه الحرب (بتاريخ 21/1/2024)، وتحدثت فيه عن سِمتَين أساسيتَين: الإدارة الفاشلة (إذ يُدار النشاط العسكري كأنه حملة عسكرية قصيرة الأمد، وليس كحرب. بما يشمله الأمر من تركيز العمل، في أغلبيته، على الجهد العسكري (القوة النارية والمناورة)، من دون دمجه في جهود إضافية تتوازى معه مثلما ينبغي أن يكون في الحرب (جوانب قضائية، واقتصادية، ودعائية، ودبلوماسية، وغيرها). ما أقصده هنا هو الجهود المخطط لها، المركزية، والممنهجة، وليس الجهود اللحظية، مهما كانت.
  • النقطة الثانية تمثلت في خطأ الاستراتيجيا، بمعنى: الخطأ في تشخيص نقاط القوة الحقيقية لدى "حماس"، وما يهمّ هذه الحركة: فما يهمّ "حماس" ليس قدراتها العسكرية (إذ من الممكن إعادة تأهيل هذه القدرات)، بل قدراتها الحكومية والمدنية التي عندما تُسلب منها، لن تتمكن من استعادتها. وتضمّن مقالي، آنذاك، أيضاً توصيات عملانية باستخدام أدوات تتيح إحداث تغيير، وهي تشمل بصورة أساسية التحكم بالمساعدات الإنسانية الداخلة إلى القطاع، وتوزيعها داخل القطاع.
  • للأسف الشديد، مرّت عشرة أشهر، وباستثناء بضع محاولات ضئيلة وفاشلة، لم يُبذل أيّ جهد حقيقي لتحييد قدرات "حماس" الحكومية. ولم يُبذل أيّ جهد يُذكر في محاولة سلب إمكان توزيع "حماس" المساعدات الإنسانية في القطاع.
  • لقد واصلت دولة إسرائيل صبّ اهتمامها، بصورة شبه حصرية، على الجهد العسكري وحده، ولم تستثمر حقاً في الجهود الموازية الأُخرى المطلوبة في الحرب، إلا بعد وصولها إلى مراحل معينة، ومن دون تخطيط مسبق.

إذاً، ما الذي حصلنا عليه؟

  • تعرضت "حماس" لضربة قاسية على المستوى العسكري، لكن السيادة ظلت لها في غزة، في نظر السكان المدنيين والعالم (حتى لو لم تكن هذه السيادة شرعية، إلّا إن الاعتراف بها جاء من باب التسليم بالأمر الواقع). هذا بالذات، في المرحلة الراهنة، ما يتيح للحركة أن تكون طرفاً في المفاوضات. ليس هذا فحسب، بل أن تكون طرفاً قادراً على الإصرار على موقفه (بمعنى أنها أصبحت ندّاً لإسرائيل)، في حين ينتظر الجميع بفارغ الصبر، بمن فيهم الولايات المتحدة، بكل عظمتها، ما سيقوله ممثلوها. أمّا الناشطون المدنيون التابعون للحركة، فإنهم يعملون ميدانياً بصورة شبه حرة، وهم منغمسون في أوساط السكان المدنيين، ويقومون بسد الطريق في وجه أيّ نوع من النقد، أو أيّ تعاون مع قوات الجيش الإسرائيلي في الميدان، ويتمتعون حتماً (سواء نتيجة الثقة المناطة بهم، أو نتيجة الخوف منهم) بشرعية شعبية واسعة النطاق.
  • معنى كل هذا، كما أسلفت في كانون الثاني/يناير الماضي، أن دوائر صُنع القرار في إسرائيل، وفي منظومتها الأمنية، إمّا أنها لا تعرف اللغة العربية، وإمّا أنها غير قادرة على قراءة "حماس" جيداً، وإمّا أنها غير معنية بقراءة هذا التنظيم جيداً. وهكذا، وبعد انتهاء الأشهر العشرة، يتضح أنه بخلاف الضربة العسكرية القاسية التي تعرضت لها الحركة، لم يتغير أيّ تفصيل في الواقع الاستراتيجي، مهما كان ضئيلاً، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وكما أسلفنا: لقد فقدت الحركة، آنياً، القدرة على تنفيذ عملية جديدة تشبه عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لكن دوافع الحركة وظروفها لم تتغير حقاً.
  • وها هو رئيس الحكومة يعترف بالأمر هذا الأسبوع، بصورة غير مباشرة، ويعلن أنه أصدر توجيهاته إلى الجيش بالسيطرة على توزيع المساعدات الإنسانية في القطاع، وهو توجيه كان يمكن إصداره قبل أشهر طويلة.
  • لقد أثبت لنا قتل المخطوفين، هذا الأسبوع، وبصورة ملموسة، أن عهد الاستراتيجيا الإسرائيلية المعمول بها في قطاع غزة، راهناً، قد ولّى. هذا ما حدث، جزئياً، كمحصلة لانتهاء النشاط العسكري في رفح، وانتهاء النشاط العسكري المكرر في خان يونس، إلى جانب سبب إضافي أساسي يتمثل في أن استراتيجية "صيد الرؤوس" وتدمير الأنفاق تلقت هذا الأسبوع بطاقة حمراء واضحة، معناها أن حركة "حماس" تسعى لفرض معادلة جديدة على الطاولة: إن استمرار الضغط العسكري ومحاولة البحث عن قيادات الحركة والمخطوفين في الأنفاق سيؤدي إلى مقتل المخطوفين.
  • يتعين علينا كسر هذه المعادلة فوراً، والطريق إلى تحقيق الأمر تمر عبر تبنّي توصياتي التي نشرتها في كانون الثاني/يناير 2024، وتبنّي استراتيجيا جديدة تجاه "حماس" خصوصاً، وتجاه الحرب عموماً.
  • إن إجراء تحليل مقتضب لحركة "حماس" (وباللغة العربية)، سيكشف أن للحركة اليوم مصالح عليا، أهمها اثنتان:
  • تتمثل المصلحة الأولى في: القدرة على الإبقاء على حياة القادة عموماً، والحفاظ على حياة السنوار خصوصاً. تحاول "حماس" ضمان ذلك، بواسطة "بوليصة التأمين"، المتمثلة في حزام من المخطوفين الأحياء الذين يحيطونه.
  • أمّا الثانية، فهي الحفاظ على سيادة "حماس" في القطاع، بأيّ ثمن تقريباً، وإذا ما تم هذا، فسيضمن خروج "حماس" من المعركة منتصرةً، بما يمكّنها لاحقاً من استعادة قوتها العسكرية (حتى لو تم ذلك من الصفوف الخلفية في سلطة مقبلة تشبه حكومة دمى، على غرار ما يقوم به حزب الله في لبنان).
  • ونظراً إلى أن محاولة القبض على السنوار قُطعت عليها الطريق هذا الأسبوع، فسيكون من الواجب التحول من "استراتيجيا الصيد" إلى "استراتيجيا المفاضلة": بحيث نتأكد من أن "حماس" لم تعد تتمتع بالسيادة على الأرض في القطاع، وإزالة أيّ احتمالات تؤدي إلى اعتبار السيادة لها في هذه المعركة.
  • تمر الطريق إلى هذا الهدف بمصادرة المسؤولية عن توزيع المساعدات الإنسانية من "حماس" (وأنا هنا لا أتحدث، في المطلق، عن فرض حكم عسكري، حسبما يطالب بعض المحللين العسكريين)، بل أطالب، عملياً، بمصادرة ربط مصير السكان الغزيين بالحركة، وذلك من خلال إدخال جهات تابعة لدول خليجية، أو بدلاً من ذلك، شركات حراسة أميركية خاصة، تستلم المسؤولية عن مجمل الخدمات البلدية في القطاع. يمكن أيضاً إحياء المقترح القاضي بإبعاد مقاتلي "حماس" عن القطاع لدى انتهاء الحرب، وهو ما قد يتسق مع مصالحهم المتمثلة في بقائهم في قيد الحياة.
  • في اللحظة التي يتم ترويج مثل هذه الآليات، تصبح "حماس" "فائضة عن الحاجة". وسيكون هناك عنوان سلطوي آخر في غزة، سواء بالنسبة إلى السكان المدنيين، أو بالنسبة إلى المجتمع الدولي. بهذه الصورة، لن تكون "حماس" فقط "فائضة عن الحاجة"، بل ستصبح غير ذات دلالة في "اليوم التالي للحرب".
  • قد يثير هذا الأمر عاصفة هائلة داخل التنظيم، بما يؤدي إلى ضغط كبير عليها من أجل التوصل إلى صفقة في أقرب وقت ممكن لوقف سيرورة تحويل "حماس" إلى "فائضة عن الحاجة". إن اللحظة التي تصبح فيها "حماس" معنية بالتوصل إلى صفقة، هي اللحظة التي يمكننا فيها الافتراض أنها ستحافظ على حياة المخطوفين من كل مكروه، وأنها لن تجرؤ على قتل مخطوفين آخرين.
  • هذا كله ممكن التنفيذ، وزهيد التكلفة، ويشكل مرحلة انتقالية ضرورية، تحضيراً لليوم التالي الذي لا يعود فيه الجيش الإسرائيلي حاكماً مدنياً للقطاع (بل تقتصر حوكمته على الجانب الأمني وحده)، مثلما يجري في نموذج الضفة الغربية، وهنا، أتحدى وجهة النظر "المهذبة" التي يطرحها بعض المحللين الذين أصبحت المرحلة الانتقالية هي المرحلة الدائمة، في نظرهم، وأضافوا إليها، لسبب ما، ركيزة اقتصادية ثقيلة.
  • في موازاة ذلك، يجب أن يُعاد إحياء سلسلة من الجهود الموازية الضرورية:
  1. الجهد القانوني الهادف إلى القضاء على شرعية "حماس" في أرجاء العالم، وتحويلها إلى حركة غير قانونية. وفي هذا السياق، يتعين علينا الإشارة إلى أنه من غير المعقول أن تكون الولايات المتحدة هي التي قدمت هذا الأسبوع لوائح اتهام ضد السنوار وناشطين آخرين في التنظيم، في حين أن إسرائيل لم تفعل ذلك. هذا جزء شديد المركزية والأهمية من الحديث عن اليوم التالي، ومن الرسائل التحضيرية له، ومفادها أن "حماس" لن تعود إلى تولّي مركزها السابق. ويمكننا أن نطور أيضاً خيار ترحيل مقاتلي وقيادات "حماس" عن القطاع.
  2. الجهد الاقتصادي الذي يجب بذله ضد مسارات تمويل التنظيم: إذ لمّحت شهادات كثيرة رصدناها في الحرب إلى أن الحركة تكسب أموالاً طائلة، مصدرها استثمارات في الخارج، والعمل في وسائل التواصل الاجتماعي. هذا يمكّننا من وقف تدفّق التمويل الذي يشكل، بحد ذاته، قصبة هوائية لحركة "حماس".
  3. بذل جهد إعلامي ودعائي متجدد يذكّر بـ"الفظائع" التي ارتكبتها "حماس"، مع ترسيمه الواقع الجديد في "اليوم التالي"، بحسب التصور الإسرائيلي، بحيث يصبح واضحاً للعالم أن هذا أفضل.
  4. هناك ركيزة رابعة شمالية للاستراتيجيا الجديدة، تتمثل في تحويل الموارد القتالية نحو الحدود الشمالية، واستغلال الحرج الاستراتيجي لدى الطرف الآخر من أجل إعادة ترسيم واقع مختلف في ذلك الميدان. هذا أمر ممكن حقاً، ولدى إسرائيل فرصة استراتيجية جيدة لتحقيق ذلك خلال الوقت الراهن.
  • ولو افترضنا أن إسرائيل ستعمل بالسرعة المطلوبة هذه المرة. وتحقق ما هو مطلوب، يمكن التوصل إلى صفقة تبادُل أسرى (في مرحلتها الإنسانية على الأقل) خلال أسابيع معدودة، تتلو تطبيق الاستراتيجيا الجديدة.
  • الأمر في متناولنا.
  • يكفي تبديداً للوقت.

 

 

المزيد ضمن العدد