لقد أدركت "حماس" وحزب الله منذ زمن طويل طريقة هزيمة إسرائيل
المصدر
معاريف

تأسست في سنة 1948، وخلال العشرين عاماً الأولى من صدورها كانت الأكثر توزيعاً في إسرائيل. مرّت الصحيفة بأزمة مالية خانقة بدءاً من سنة 2011، واضطرت إلى إغلاق العديد من أقسامها، إلى أن تم شراؤها من جديد في سنة 2014.  تنتهج خطاً قريباً من الوسط الإسرائيلي، وتقف موقفاً نقدياً من اليمين.

المؤلف

__

  • هناك سلسلة من الأمور الجارية على جبهتَي غزة ولبنان في الحرب الراهنة تبدو واضحة ومعروفة للجميع. ومع ذلك، ولسبب ما، لا يبدو أن الحكمة القائلة "العاقل هو من يرى العاقبة" تؤدي دوراً في الجانب الإسرائيلي في هذا السياق. وتكمن المشكلة في عدم استيعاب تلك الأمور وترجمتها إلى سياسات متسقة، وهذا يكلفنا الكثير؛ سواء من جهة إطالة أمد الحرب، أو حياة المخطوفين، أو حياة الجنود، وترك الشمال وحيداً لأشهر طويلة (ويمكن أن يتسبب هذا بأضرار طويلة الأمد، إذ يمكن ألاّ يعود الكثير من سكان الشمال إلى منازلهم حتى بعد انتهاء الحرب)، ويكلفنا هذا في مجال التسليح والذخائر، والبنى التحتية، والاقتصاد على مستوى الفرد ومستوى الدولة.
  • لا بد للقارئ أن يسأل نفسه: هل القصد أننا لم نستخلص العبر؟ والإجابة هي: لا. نحن لم نستخلص ما استخلصته "حماس" وحزب الله منذ زمن طويل؛ أن جزءاً مهماً من النصر في الحرب المعاصرة يمر عبر قضايا السيطرة والشرعية والسيادة، إذ إن اللاعب الرئيسي في هذه الأمور جميعاً هو السكان المدنيين على طرفي النزاع.
  • إن كنا في الماضي قادرين على الفصل بين الجبهة الداخلية وجبهة القتال (وهذا ما بُنيت عليه في الأغلب عقيدتنا الأمنية التي باتت الآن تحتاج إلى تحديث فوري)، فإن الجميع يدرك أن الوضع قد تغير الآن، وأدرك أعداؤنا تفوق إسرائيل العسكري والتكنولوجي الملحوظ (وكذلك الغرب)، ووجدوا كعب الخيل الإسرائيلي. ويرى هؤلاء أنه على الرغم من قوة الجيش الإسرائيلي، فإن المجتمع المدني الإسرائيلي ضعيف، ولا يستطيع الصمود لفترات طويلة في أوقات الحرب، وخصوصاً مع حساسية المجتمع العالية تجاه حياة البشر (سواء أكانوا جنوداً أم مدنيين).
  • وكان المظهر الرئيسي لهذا الفهم، ولا يزال، كامناً في تكتيك إطلاق الصواريخ عشوائياً في اتجاه المناطق المدنية في الجبهة الداخلية (وهو ما أضاف بُعداً دفاعياً إلى العقيدة الأمنية الإسرائيلية)، ومعناه الأساسي أن الجبهة الداخلية غدت أكثر أهمية من ساحة القتال ذاتها، لكن على الرغم من إضافتنا للبعد الدفاعي إلى عقيدتنا الأمنية، وسعيِنا لضمان أمن جبهتنا الداخلية، فما هو الذي لم نستوعبه بعد؟
  • الإجابة واضحة: نحن لم نستكمل فهمنا هذا ولم نترجمه إلى أفعال في الجانب الآخر من العقيدة الأمنية، وهو جانب الهجوم. نحن لم نفهم أن كل كيان "إرهابي" يعمل في المجالين السياسي والمدني في العالم اليوم، يحتاج إلى شرعية من المجتمع الذي يعمل فيه، ولا يمكنه تجاهل هذه الشرعية.
  • لقد وصلنا إلى وضع فحواه أن اعتراف أعدائنا بتفوق الجيش الإسرائيلي جعلهم يصبون اهتمامهم على جبهتنا المدنية، بحيث ارتفعت المكانة الاستراتيجية لهذه الجبهة في إدراكهم، وهذا ما مكّن هذه الكيانات "الإرهابية" من الاستمرار في العمل في الأوضاع نفسها. والنتيجة واضحة هنا بالنسبة إليّ: يجب أن تركَز عناصر رئيسية من الهجوم الإسرائيلي نحو التأثير على المجتمع المدني لدى الطرف الآخر، وعلى علاقة الكيانات "الإرهابية" بهذا المجتمع، بحيث تتضرر شرعية استمرارها في العمل بعد الحرب.
  • وربما يقول قائل: ما تقوله واضح تماماً، فكيف تقول إننا لم نستوعب؟ وإجابتي هي: لنأخذ الحرب الحالية على سبيل المثال؛ نحن الآن في فترة انتظار. انتظار ماذا؟ نحن ننتظر، بصورة أساسية، الانتخابات الأميركية. فما الذي ننتظره بعد هذه الانتخابات؟ شن حملة كبيرة في الشمال تتيح لسكانه العودة إلى منازلهم.
  • في الشمال، ترتفع وتيرة قصفنا بالصواريخ والطائرات المسيّرة التي تستهدف المناطق المدنية بصورة كبيرة، وهو ما يُظهر هذا الوضع الذي لم يعد محتملاً على هذه الجبهة، وما يركز عليه حزب الله في الضغط (إليكم تلميحاً: التأثير في المجتمع المدني في إسرائيل). يجب أن نتذكر أيضاً أن حزب الله يعيش مأزقاً استراتيجياً كبيراً يحاول إخفاءه، ونحن نعلم هذا من رده المتواضع نسبياً على اغتيال الشخصية المركزية في جهازه العسكري، فؤاد شكر، وفقدانه الكبير لقدراته العسكرية نتيجة لذلك. نعلم هذا أيضاً من إصراره خلال الأشهر الأخيرة على المحافظة على المعادلة في النطاق الجغرافي الذي حدده لإطلاق النار.
  • ومع ذلك، فإن القصف الذي ينفَذ حالياً ليس مجرد قصف، فإلى جانب الاستهداف الدقيق للبنية التحتية العسكرية، هناك قصف يهدف إلى تدمير البنية التحتية المدنية الإسرائيلية لإلحاق الضرر بمعنويات سكان الشمال، وصولاً إلى التأثير في صناع القرار، وإلحاق خسائر اقتصادية كبيرة بإسرائيل، وهي خسائر سنشعر بها في اليوم التالي، وربما هو قصف، بحسب تقديري، سيؤدي إلى منع سكان الشمال من العودة إلى منازلهم بعد انتهاء الحرب. هذه هي الاستراتيجيا التي يتم استخدامها ضد المدنيين الإسرائيليين.
  • في المقابل، تتمثل الاستراتيجيا الإسرائيلية المضادة في استخدام النيران بصورة رئيسية ضد الأهداف العسكرية التابعة لحزب الله من مقاتلين، وبنى تحتية، ومخازن، وشقق سرية، وما إلى ذلك. ومن وقت إلى آخر، ترافق هذه النيران رسائل قوية موجهة إلى السكان المدنيين، وهو ما يؤدي إلى هجرة داخلية من قرى جنوب لبنان نحو الشمال (وخصوصاً في صفوف السكان الشيعة الذين يدعمون حزب الله في الأغلب).
  • وحتى كتابة هذه الأسطر، تُنشر تقارير (لا يمكن التحقق منها بعد) تفيد بأن حزب الله تحول من حالة حرب الإسناد المكثف إلى حرب وجود ضد إسرائيل، وأن السكان اللبنانيين بدأوا إخلاء القرى الواقعة على الخط الثاني في جنوب لبنان نتيجة تكثيف الضربات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة (بينما نفى حزب الله نفسه أنه طلب من السكان الإخلاء).
  • هذا يعني أن لدى إسرائيل تشكيلة من الأدوات: النار، والرسائل، والعقوبات الاقتصادية، وفرض الحصار (البحري والجوي)، والوسائل الدبلوماسية (إلغاء اتفاقية الغاز واتفاقيات الخط الأزرق على سبيل المثال، وتقديم شكاوى إلى الأمم المتحدة)، إلى جانب الوسائل القانونية (رفع قضايا أمام المحكمة الدولية في لاهاي ضد لبنان، وقيام مواطنين إسرائيليين بمقاضاة لبنان، وغيرها) إلى جانب الخطوات التي من شأنها أن تؤثر بصورة هائلة في الحياة اليومية للمواطنين هناك (بما يشمل من يسكنون في شمال لبنان).
  • لبنان يعيش أزمة اقتصادية ومدنية هي الأصعب في تاريخه، وهذا أصلاً مدّعى لبناء استراتيجيا جديدة ملخصها الملعب الذي اختار حزب الله أن يقتصر على جنوب لبنان وحده، ولا ينبغي أن يظل كذلك، فإسرائيل قادرة هي الأُخرى على اختيار ملعب لها في لبنان، يتجاوز الملعب الجنوبي.
  • هناك العديد من الجهود التي يمكن ممارستها، عبر التأثير في الطوائف القوية الأُخرى (المسيحيين، والدروز) في سائر لبنان، وإثارة اضطرابات داخلية كبيرة (وهي قائمة أساساً)، ودفعها إلى الظهور على السطح. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الاضطرابات في لبنان الحساس الوضع للغاية إلى كبح جماح حزب الله خلال فترة الانتظار، وتقليل العبء على سكان الشمال الإسرائيلي، وربما تقوية حالة الإرباك الاستراتيجي التي يواجهها التنظيم عندما يقوم باتخاذ قراراته بشأن حرب شاملة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أين هي هذه الجهود التي ينبغي أن نبذلها بالتزامن مع الأنشطة العسكرية المكثفة في جنوب لبنان؟
  • في القطاع، يمكن افتراض أن "حماس" كانت تدرك وتقدّر أن قدراتها العسكرية لن تصمد أمام الجيش الإسرائيلي، بَيد أنه حتى الضغط العسكري الإسرائيلي المستمر منذ نحو عام، والذي أدى إلى تدمير معظم قدراتها، لم يدفعها إلى رفع الراية البيضاء والاستسلام أو حتى السعي (بصورة جدية) لصفقة توفر لها على الأقل أكثر من شهر من الهدوء لإعادة تنظيم صفوفها.
  • من الواضح أن ما يدفع المنظمة ويجعلها تقف على ساقيها يستند إلى مسألتين: 1. رغبة التنظيم في البقاء والخروج حياً من المعركة بعد أن استخدم الجيش الإسرائيلي كل قوته (نسبياً وفي نظر "حماس") ضد القطاع. 2. قدرة التنظيم على الخروج من المعركة، وهو مسيطر وحاكم للقطاع - وهي قدرة تراها "حماس" انتصاراً يدوم لسنوات قادمة، وتساعدها في إعادة بناء قدراتها العسكرية بعد انتهاء الحرب. فما هي الاستراتيجيا الإسرائيلية في مقابل ذلك؟ إن 90% منها تركز على جهد عسكري من نيران ومناورة لاصطياد القادة وتدمير الأنفاق.
  • المعنى: تحاول إسرائيل اصطياد قادة "حماس" واغتيالهم، وتعتبر الأمر هدفاً محورياً، لكن فيما يتعلق بالسكان المدنيين، تكتفي إسرائيل بتهجيرهم وحشرهم في مساحة جغرافية صغيرة في جنوب القطاع، بينما تزيد من توثيق عرى العلاقة بين "حماس" والسكان المدنيين (إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، التي تقوم "حماس" بتوزيعها فعلياً).
  • أي أن إسرائيل تقوم بِيد (اليد العسكرية) بإضعاف "حماس" عبر اغتيال قادتها (على الرغم من أن إسرائيل اكتشفت أن هناك حدوداً لسياستها هذه، تتمثل في تعريض حياة المختطفين للخطر)، بينما تقوم باليد الأُخرى بتعزيز العلاقة بين "حماس" والسكان، وتحفظ مكانتها كسيادة في القطاع، بل أيضاً تزيد من مصادر دخلها وأرباحها. إن إسرائيل لم تتمكن حتى من استغلال لقاحات شلل الأطفال التي سمحت بإدخالها الأسبوع الماضي من أجل حاجات تلميع صورتها أمام العالم وأمام سكان القطاع.

ما الذي يمكننا فعله إذاً على الجبهتين؟

  • علينا أن نستوعب، في أقرب وقت ممكن، ومن دون مماطلة ما علينا فعله، وقد أشار إلى هذه المشكلة العديد من الخبراء (بمن فيهم كاتب هذه الأسطر) منذ شهر كانون الثاني/يناير، وها نحن الآن في شهر أيلول/سبتمبر، لكن الاستراتيجيا لم تتغير، وعموماً، تفضل المؤسسة الأمنية تجاهل المدنيين في كلا الجانبين (وعدم تخصيص جهد مدني مخصص يُعد في رأيي نوعاً من التجاهل).
  • في رأيي، هذا خطأ استراتيجي جسيم، يتجسد في التعريف الخاطئ للمعضلة الاستراتيجية، ولا ينطوي على إدراك للتغيرات الكبيرة التي طرأت على الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، ويغفل عن أحد أهم العوامل التي يمكن أن تساهم في كبح حزب الله و"حماس" وردعهما، وهو عامل يمكن أن يحقق، على الأقل، رادعاً كبيراً خلال فترة الانتظار "للعملية الكبيرة"، إنهاء الحرب.
  • هذا النقاش واسع، ومن الضروري خوضه بتفكير أوسع وأكثر تعمقاً ولا يقتصر فقط على فترة الانتظار أو الحرب الحالية، بل أيضاً يهدف إلى التأكد مما إذا كان من المناسب إدراجه كعنصر في العقيدة الأمنية الجديدة لإسرائيل أم لا.
  • لم يفت الأوان بعد، فمن الممكن (بل أيضاً من المطلوب) التغيير. إن العنصر المدني في الجانب الآخر هو جزء لا يتجزأ من تصور اليوم التالي لدى الجانب الآخر، واستخدام هذا  العنصر كورقة ضغط من شأنه أن يخدم كثيراً مصالح دولة إسرائيل، حتى في الفترة الحالية، سواء في الشمال (كبح الحزب)، أم في الجنوب (تسريع العمليات).
  • وكلمة أخيرة لكل من يدعي أن هذا مستحيل؛ أقترح أن يتم استيعاب حقيقة أن قوانين الحرب في العصر الحديث تغيرت، وأن علينا العمل في كل الساحات باستخدام جميع الأدوات المتاحة، فإذا ما تعمقنا في هذا الأمر، سنكتشف أن هذا الجهد عملي ولا يقل أهمية عن الجهد العسكري.
 

المزيد ضمن العدد