إسرائيل وحزب الله أمام مفترق طرق: تسوية أم حرب استنزاف
المصدر
معاريف

تأسست في سنة 1948، وخلال العشرين عاماً الأولى من صدورها كانت الأكثر توزيعاً في إسرائيل. مرّت الصحيفة بأزمة مالية خانقة بدءاً من سنة 2011، واضطرت إلى إغلاق العديد من أقسامها، إلى أن تم شراؤها من جديد في سنة 2014.  تنتهج خطاً قريباً من الوسط الإسرائيلي، وتقف موقفاً نقدياً من اليمين.

المؤلف
  • بعد عملية البيجر، والاغتيالات في الضاحية، وأيام التصعيد الأخيرة في لبنان، تتضح بسرعة صورة الوضع، سواء أكان في ما يتعلق بخطوات حزب الله، أم إزاء خطط إسرائيل. لنبدأ بإسرائيل، لأنها الطرف الذي يرغب في تغيير اتجاه المعركة في الشمال في الأسبوعين الأخيرَين.
  • يمكن القول، بكثير من الثقة، إن وجهة إسرائيل الآن ليست نحو معركة برية واسعة النطاق في لبنان؛ فلو أرادت إسرائيل دخول هذه المعركة، لكان عليها استغلال العمليات الدقيقة التي قامت بها ضد العدو، والبلبلة، والإرباك وسط حزب الله من أجل شن هجوم كبير على نصر الله، لكنها لم تفعل ذلك، وتوجهها ليس إلى هناك.
  • إن المنطق العملاني لإسرائيل موجود في مكان آخر تماماً؛ ففي الستينيات، كانت لدى المنظمة "الإرهابية" التي يترأسها ياسر عرفات، حركة "فتح"، نظرية عملانية سُميت بـ "النظرية التفجيرية"، وهي وجهة النظر التي تدعو إلى تنفيذ هجمات ضد إسرائيل من أراضي الدول العربية المجاورة، وذلك لدفع إسرائيل إلى الرد، والتسبب بحرب واسعة النطاق، كتلك التي حدثت سنة 1948، لكنها هذه المرة ستؤدي إلى نتائج معاكسة، وستتسبب بنكبة إسرائيل، وليس الفلسطينيين.
  • سنة 2024، وعلى خلفية الحرب الحالية، تسعى إسرائيل في الحقيقة لعقيدة عملانية مشابهة، لكن مع نوع من التحديث يتلاءم مع الزمان والمكان والإطار الحالي. إن الفكرة الناظمة التي تستند إليها إسرائيل هي إنشاء سلسلة من ردات الفعل، ليس هدفها الحرب الكبرى (كالنظرية التفجيرية لياسر عرفات لكن بحجم أكبر)، إنما من أجل أدوات تأثير كبيرة في الأساس، سياسية وداخلية لبنانية.
  • وترجمة ذلك هي مبادرة إسرائيل إلى التصعيد في مواجهة حزب الله، والفكرة ليست المبادرة من أجل المبادرة، أو انطلاقاً من الاعتقاد (الذي لا أساس له) بأن المزيد من الضربات سيدفع نصر الله إلى الاقتناع بعدم جدوى الحرب وسيدفعه إلى الاستسلام، وهذا تفكير ساذج للغاية، إنما الفكرة هي إنشاء فوضى قتالية منظمة من أجل زيادة ألسنة النيران في لبنان وإيجاد أدوات للتأثير.
  • ما تريد إسرائيل فعله هو استخدام أداتَي تأثير في حزب الله: الأولى، أداة سياسية من جانب المجتمع الدولي الذي يريد بشدة تهدئة الوضع في لبنان والتوصل إلى تسوية من جديد، والمقصود هنا الأميركيون أولاً والفرنسيون وغيرهم. أمّا الأداة الثانية، فهي داخلية لبنانية؛ إذ يعمل نصر الله ضمن إطار دولة لبنانية، ويوجد عدد غير قليل من العناصر في الساحة الداخلية الذين لا يريدون حرباً شاملة مع إسرائيل.
  • هذه هي الخطة الإسرائيلية؛ زيادة الضغط العسكري من أجل تجنيد أدوات التأثير في نصر الله، غايتها تسوية سياسية متفق عليها، وعنوان هذه التسوية الأساسي هو انسحاب قوات الرضوان إلى ما وراء الليطاني، ونوع جديد من القرار 1701 الذي صدر بعد حرب لبنان الثانية [حرب تموز/ يوليو 2006]، وهذه الفكرة لا تعتمد على إخضاع حزب الله عسكرياً. ولا تريد إسرائيل حرباً كبيرة، وهي تتخوف منها ومن نتائجها، وتفضل فكرة التسوية، لكنها تدرك أنها تمر عبر المزيد من النار، ومن زيادة سخونة الجبهة، وهذا ينطوي على مفارقة، لكن أيضاً فيه منطق.
  • بناء على ذلك، كل من يبني على عقيدة إسرائيلية جديدة تسعى لحسم عسكري وعملية برية يخطئ في فهم خطوات إسرائيل. ويمكن أن نجد دليلاً على هذه النظرة الإسرائيلية في كلام القادة الإسرائيليين من المستوى السياسي والعسكري؛ فرئيس الحكومة تحدّث أمس عن نقل رسالة إلى حزب الله عبر الضربات العسكرية (وليس عبر مصطلح الحسم أو المعركة البرية). وقد أوضح وزير الخارجية يسرائيل كاتس أنه إذا لم ينجح المجتمع الدولي في التوصل إلى انسحاب حزب الله إلى ما وراء الليطاني، فستفعل إسرائيل ذلك... كما أظهر قادة الجيش في الأمس عنفاً كلامياً ولم يذكروا عملية برية، واستخدموا طبعاً مصطلح الحسم، لكنهم تطرقوا إلى مهمة إعادة سكان الشمال إلى منازلهم، الأمر الذي يترك هامشاً من التأويلات ومرونة عملانية إزاء طريقة تحقيق هذه المهمة.
  • ومن هذه الناحية، فقد أخذت إسرائيل في حسابها توسع إطلاق النار لحزب الله إلى خط حيفا شمالاً وإمكان تصعيد عسكري، لأنها على هذا التصعيد، وعلى ردود حزب الله الممكنة على التصعيد العسكري، تعتمد فكرة سلسلة التفجيرات التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى إنشاء أداة تأثير فاعلة في نصر الله. طبعاً، المقصود هو استراتيجيا، أو خطوة عملانية تنطوي على مخاطر، وهذا هو السبب الذي دفع رئيس الحكومة إلى الحديث عن أيام معقدة ومنعطف في القرار، لأنه من غير الواضح إذا ما كان نصر الله والمجتمع الدولي والساحة اللبنانية الداخلية سيبتعلون الطعم ويتعاونون مع الخطوة الإسرائيلية أم لا.
  • وفي هذا السياق، من المهم فحص الطرف الثاني، أي النظرية المضادة التي وضعها نصر الله في مواجهة إسرائيل. وإذا كانت الفكرة العملانية لإسرائيل تستند إلى عقيدة التأثير، فإن فكرة حزب الله تستند إلى عقيدة الاستنزاف، وهذه ليست عقيدة جديدة، ونصر الله يتمسك بها منذ اليوم الأول للحرب، كسائر أعضاء محور الممانعة، من "حماس" وصولاً إلى إيران...
  • نصر الله مصرّ على مواصلة حرب الاستنزاف. صحيح أنه تلقى ضربات موجعة، لكنه يرى فرصة، وهذه الفرصة ليست فقط مواصلة حرب الاستنزاف، بل أيضاً تطويرها ورفعها درجة إلى الأعلى، وجعلها أكثر كثافة وعمقاً على المستوى الجغرافي. والاستنزاف هو نوع من معركة بين الحروب الخاصة به ضد إسرائيل...
  • في الخلاصة؛ إذا صح ذلك، فإن إسرائيل تخوض مخاطرة محسوبة، إذ لا تخطط لحرب كبيرة، وهي فعلاً تريد تسوية عبر إذكاء النيران في الساحة اللبنانية. ونصر الله ينوي تحويل التصعيد الحالي إلى دائم ضمن إطار فكرة الاستنزاف لمعسكر "المقاومة" في الشرق الأوسط. فهل ستنجح إسرائيل في إنشاء أدوات التأثير التي تريدها للتوصل في نهاية المطاف إلى تسوية سياسية؟ هذا أمر غير مضمون مسبقاً، ولا شك في أن اللعبة هنا هي بين النفس الطويل والصمود أمام واقع مستمر من التصعيد الذي ستكون له تداعيات واضحة على وضع الجبهة الداخلية، وبين تجنيد أدوات التأثير (المجتمع الدولي والدولة اللبنانية) في التأثير في حزب الله ونصر الله، ومدى استعداد نصر الله لأن يلعب هذه اللعبة.
  • إن مزايا الخطوة الإسرائيلية واضحة؛ فهي لا تنطوي على حرب كبيرة الآن، الأمر الذي يمكن أن يمنع مخاطر ممكنة على جبهة أصعب بكثير من الجبهة الجنوبية، لكن مخاطر هذه الخطوة لا تقل وضوحاً: التورط في واقع حرب استنزاف دائمة أكثر حدة من حيث القوة والأبعاد والضرر الآتي من لبنان ومن الجبهات الأُخرى. وفي نهاية الأمر، ربما تضطر إسرائيل إلى دخول حرب كبيرة في لبنان، في وقت تكون فيه مرهقة ومستنزفة، وكل الإنجازات التكتيكية التي حققتها في الأسبوعين الأخيرين قد تبددت في ظل إعادة تنظيم أعدائها. وهذا هو مفترق الطرق الذي تقف أمامه إسرائيل، ونحن ما زلنا في بداية الطريق.