الطامّات العشر: مرحلة جديدة في الحرب بين إسرائيل وحزب الله
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

المؤلف
  • في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعد يوم واحد من الهجوم  الذي نفذته "حماس" على بلدات النقب الغربي، بادر حزب الله إلى شن حرب على إسرائيل، من دون أي استفزاز من جانبها، والتزم منذ ذلك الحين مراراً وتكراراً مواصلة تنفيذ الهجمات على إسرائيل طالما الحرب مستمرة في قطاع غزة، كنوع من التضامن مع "محور المقاومة"، ولمنع إسرائيل من صب جميع جهودها على هزيمة "حماس" في القطاع. ومنذ ذلك الوقت، تحول تبادل الضربات بين الطرفين إلى حرب استنزاف متصاعدة ومستمرة، ستكمل عما قريب فترة عام من القتال، والطريقة الوحيدة لإنهائها على ما يبدو هي التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع "حماس" في القطاع. ومع كل هذا، يظل إمكان اندلاع حرب واسعة النطاق قائماً، لكن التقدير العام هو أن كِلا الطرفين؛ إسرائيل وحزب الله، لا يرغبان فيها، وقد نجحا حتى الآن في تجنبها.
  • على مدار الأيام الأخيرة، نفذت إسرائيل سلسلة من الهجمات الاستثنائية ضد حزب الله، بدءاً بالهجوم على أجهزة الاستدعاء (Pagers)، وأجهزة اللاسلكي، التي استهدفت قادة التنظيم وضباطه وناشطيه في 17 و18 أيلول/سبتمبر، مروراً بالهجوم على قادة قوات النخبة "رضوان" في قبو مبنى سكني في الضاحية الجنوبية في بيروت في 20 أيلول/سبتمبر، بالإضافة إلى الهجمات الواسعة على منصات إطلاق الصواريخ في جنوب لبنان، وربما توجيه ضربات استباقية إلى الوحدات التابعة لحزب الله التي كانت تستعد لشن هجمات صاروخية كبيرة على إسرائيل في 21 أيلول/ سبتمبر. فما هو تفسير هذه التطورات؟
  • ومنذ بداية الحرب، التي يخطئ الكثيرون بتسميتها "حرب غزة"، تحارب إسرائيل على سبع جبهات ضد إيران وحلفائها في محور المقاومة، وعلى رأسهم "حماس" وحزب الله، إذ يُعتبر الأخير التهديد العسكري الأكثر خطورة على حدود إسرائيل. وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر، فكرت إسرائيل في تنفيذ هجوم استباقي على حزب الله في لبنان، لكنها اختارت التركيز على غزة والتعامل مع تهديدات حزب الله كجبهة ثانوية. كما ركزت الأهداف المعلنة للحرب في 16 تشرين الأول/أكتوبر على غزة، ووجهت الجهود في الشمال نحو الردع وتجنب التصعيد.
  • وفي الأشهر الأخيرة، اقترب الجيش الإسرائيلي من تحقيق معظم أهدافه في قطاع غزة؛ وهو تفكيك وحدات جيش "حماس"، وإنشاء حرية عمل طويلة الأمد لمواصلة ضرب "حماس" التي تعيد بناء نفسها. وقد صرح وزير الدفاع يوآف غالانت بأن الحرب تقترب من مفترق طرق استراتيجي، وأنه سيتم تحويل الثقل من الجنوب إلى الشمال. وفي 16 أيلول/سبتمبر، وافقت الحكومة على إضافة هدف جديد للحرب؛ "إعادة سكان الحدود الشمالية إلى منازلهم بأمان."
  • ويتطلب الهدف السياسي الذي تم تحديده أن تتم ترجمته إلى خطة عمل سياسية - أمنية وإنجازات عسكرية ودبلوماسية ضرورية. ولتمكين عودة 70,000 من سكان التجمعات السكانية الحدودية إلى منازلهم بأمان، فإن هناك حاجة، على الأقل، إلى وقف إطلاق النار، وإبعاد جيش حزب الله عن مدى التهديد المباشر على أراضي إسرائيل. ولقد حاول مبعوث الرئيس الأميركي، عاموس هوكشتاين، منذ عدة أشهر التوصل إلى وقف إطلاق النار، وإبعاد حزب الله، وإجراء تعديلات على الحدود المتفق عليها، لكن اقتراحه يعتمد على موافقة زعيم "حماس" على وقف إطلاق النار في غزة، وعلى موافقة نصر الله على سحب قواته، وكلاهما غير وارد حالياً. ويعتمد هذا الاقتراح أيضاً على قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي كان من المفترض أن يجعل المنطقة الواقعة جنوب الليطاني خالية من جيش حزب الله منذ سنة 2006، لكن الواقع قد مثّل فشلاً تاماً، وهناك شك كبير في القدرة على التوصل إلى نتيجة مختلفة.

ما الخيارات التي تملكها إسرائيل؟

  • التكيف مع استمرار حرب الاستنزاف، وربما تقليل تكلفتها عبر تخفيف حدة ضرباتها.
  • تنفيذ هجوم محدود بطريقة مباشرة لدفع حزب الله بعيداً عن الحدود، وربما أيضاً فرض السيطرة على منطقة أمنية داخل الأراضي اللبنانية.
  • خوض هجوم محدود بطريقة غير مباشرة لإجبار حزب الله على التوقف عن هجماته وإبعاده عن الحدود.
  • شن حرب شاملة تهدف إلى إلحاق ضرر جسيم وشامل بقدرات حزب الله، وتقليل التهديد الذي يشكله على إسرائيل بصورة كبيرة على المدى الطويل.
  • تحقيق أهداف إسرائيل الأمنية تجاه لبنان باستخدام الأدوات السياسية، كالتوصل إلى اتفاقيات لوقف الأعمال العدائية، ووقف إطلاق نار دائم، بل أيضاً لفتح آفاق للتوصل إلى اتفاق سلام مع ترتيبات أمنية عميقة.
  • يرتبط استمرار حرب الاستنزاف بثمن باهظ، من حيث الخسائر البشرية والاقتصادية، واستمرار تهجير السكان، وإضعاف الردع، وترك المبادرة في يد حزب الله. وتنفيذ هجوم بري محدود فقط يحقق نجاحاً عسكرياً موقتاً، لكن المحافظة عليه سيكبدنا تكاليف كبيرة تشمل التواجد العسكري لفترة طويلة، وتكاليف سياسية، بالإضافة إلى تعزيز رواية حزب الله بشأن مقاومة الاحتلال الأجنبي. أمّا الحرب الشاملة، فستترتب عليها أضرار كبيرة جداً للطرفين، وينبغي عدم الشروع فيها إلى أن تكون إسرائيل في مستوى عالٍ من الجاهزية، وتتمتع بدعم مؤكد من الولايات المتحدة. أمّا فرص تحقيق تسويات سياسية من دون ضغط عسكري داعم، فهي ضئيلة جداً.
  • يمكن تفسير الهجمات الإسرائيلية على حزب الله بأنها قرار إسرائيلي بالانتقال من حرب استنزاف "استجابية" إلى مرحلة جديدة، وهي خيار الهجوم المحدود النطاق لإجبار حزب الله على إنهاء عدوانه بشروط إسرائيل. ولو كان ما تقوم به إسرائيل يتعلق بافتتاح حرب واسعة النطاق، أو حتى هجوم بري محدود، لكانت إسرائيل قد استغلت الهجمات الطروادية [هجمات تفجير أجهزة الاتصال] حينما فقد العدو توازنه، لتوجيه ضربات نارية واجتياح مباشر. لكن عمليات إسرائيل في الأسبوع الماضي لا تسعى لتحقيق أقصى إنتاجية عملياتية، إنما تمنح حزب الله الوقت والمساحة لاتخاذ القرارات والتعافي.
  • يبدو أن عملية اتخاذ القرار في إسرائيل قد نتجت من مزيج مضطرب من الاعتبارات الاستراتيجية والعملياتية والسياسية؛ إذ قوبلت دعوات وزير الدفاع إلى عقد جلسة في مجلس الوزراء لنقل ثقل العمل إلى الشمال بالمماطلة. وقبل أيام قليلة من الهجمات، كانت الأنظار في إسرائيل مركزة على محاولات رئيس الوزراء نتنياهو لاستبدال وزير الدفاع لضمان بقاء ائتلافه الحكومي. كما تم تفعيل هجوم أجهزة الاستدعاء الذي تم تحضيره على مدى سنوات كأداة مفاجأة لبدء الحرب، بناءً على مبدأ "Use it or Lose it" بعد أن خشي كشفه من جانب حزب الله. وتم تشغيل الهجوم على أجهزة اللاسلكي بناءً على اعتبارات مشابهة، أمّا الهجوم على قادة قوات رضوان فقد كان فرصة استثنائية، استندت إلى قدرات استخباراتية وعملياتية راسخة.
  • وقد أثار تنفيذ الهجمات الطروادية انتقادات في الساحة الدولية، وواجهت إسرائيل اتهامات بشن هجمات عشوائية على المدنيين. والأمر يتعلق، في سياق الحرب التي أعلنها حزب الله على إسرائيل، بعمل واضح للدفاع عن النفس باستخدام قوة بطريقة جراحية، إذ تم استخدام 20 غراماً من المتفجرات بدلاً من قنابل تزن طناً، وبتمييز دقيق، وعندما اعترف حزب الله بإصابة عناصر تابعة له. من الواضح تماماً أن كل من حصل على جهاز اتصال آمن من تنظيم "إرهابي" كان يمثل جزءاً من قدرات هذا التنظيم "الإرهابي"، بما يشمل إصابة السفير الإيراني في بيروت نتيجة انفجار جهاز استدعاء تابع لحزب الله كان يملكه، وإلى جانبه أيضاً أفراد الحرس الثوري، والمليشيات الشيعية، والنشطاء الحوثيون، في كل من بيروت وسورية والعراق. أمّا المدنيون الذين أصيبوا في ذلك الهجوم، فيُعتبرون أضراراً جانبية معقولة ومحدودة من أجل الحؤول دون اندلاع حرب واسعة النطاق واستمرار الإضرار بإسرائيل.
  • وتحاكي سلسلة الضربات المتدرجة التي شنتها إسرائيل على حزب الله حوار الإكراه الاستراتيجي بين موسى وفرعون، عندما طلب موسى من فرعون "أطلق سراح شعبي" مدعوماً بتصعيد متزايد ومنظم لسلسلة من عشر طامّات موجهة ضد مراكز الثقل في مصر القديمة، واقتصادها، ومجتمعها. ولكي يحقق هذا "الإقناع المسلح" هدفه، يجب على إسرائيل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تحديد مطالبها من حزب الله، ولكي تشكّل شرعية لتحركاتها العسكرية المقبلة وتتيح استخدامها لتحقيق إنجازات سياسية - استراتيجية، يجب بذل جهود دبلوماسية موازية. لكن إسرائيل لم تقم، حتى الآن، بإعلان جهود كهذه، وتركزت نشاطاتها الدبلوماسية في الغرب على خفض التصعيد بدلاً من تعزيز شروط الاستقرار على المدى الطويل.
  • لقد شدد رئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي على أن إسرائيل تستعد، لدى تنفيذها لأي ضربة، لتنفيذ الضربتين المقبلتين. وبحسب التقارير، فإن الجيش الإسرائيلي جاهز للتصعيد، ويعمل فعلاً ضد الردات المتوقعة من حزب الله على الأرض؛ إذ تم نقل فرقة الكوماندوز 98 من الجنوب إلى الشمال، وأكملت العديد من الوحدات البرية تدريبات استعداداً للقتال في لبنان، بينما كانت القوات الجوية في حالة تأهب قصوى. ومن المهم تأكيد أن هذه الاستعدادات العسكرية تتيح أيضاً لإسرائيل تنفيذ خيار الهجوم البري، وحتى الانخراط في حرب واسعة النطاق إذا ما قررت ذلك.
  • إن نصر الله، حتى الآن، متمسك بموقفه، ويصر على أن الهجمات الموجهة ضد إسرائيل لن تتوقف، وأن سكان الشمال لن يعودوا إلى منازلهم إلاّ بعد وقف إطلاق النار مع "حماس". أمّا الضربة القاسية التي تلقّاها واعترف بها، فستدفعه إلى ردة فعل عنيفة، لكن التغيير في سلوك إسرائيل يزيد من حدة التوتر بين هدفين رئيسيَين أعلنهما نصر الله العام الماضي؛ التضامن مع غزة، وتجنب حرب واسعة النطاق مع إسرائيل، يقف نصر الله الآن على حافة الهاوية، والتكاليف التي تفرضها إسرائيل عليه تتزايد؛ ففي الأسبوع الماضي، خسر عشرات القتلى، بمن فيهم أعضاء قدامى في مجلس الجهاد، ومئات الجرحى بإصابات خطِرة، وآلاف الجرحى بصورة عامة. كما تلقّى ضربة معنوية كبيرة، إذ انكشفت شبكات الاتصالات والأمن لديه، وأصبح الانتماء إلى التنظيم أو التعاون معه يشكل خطراً على الحياة.
  • وحتى الآن، يتسم تصرف نصر الله، حتى وهو يقف على حافة الهاوية، بقدر كبير من الثقة في قدرته على تقدير ردود إسرائيل، وخوض المواجهة معها من دون الوصول إلى حرب. لكن زعيم حزب الله فشل الآن، كما حدث في سنة 2006، في إدراك التغيير الاستراتيجي الذي حدث في إسرائيل، ولم ينجح في تحديث فرضياته بشأن تردد إسرائيل في خوض الحرب، وانشغالها في غزة، ومدى قدرة الولايات المتحدة على كبح التحركات الهجومية الإسرائيلية. وعلى إسرائيل، من جهتها، أن تعيد النظر في فرضيتها بأن نصر الله سيفعل كل ما في وسعه لتجنب الحرب، وبالتالي، سيستجيب لمطالبها ويوقف الحرب بشروطها. وهناك إمكان كبير لأن تكون ردة فعله تصعيداً، ويجب أن تكون إسرائيل مستعدة لذلك، على المستويين العملياتي والاستراتيجي.
  • وتماماً، كما كانت "حرب غزة" اسماً خاطئاً لحرب إسرائيل على مدار السنة الماضية، فإن مسمى "حرب لبنان" هو أيضاً تأطير غير دقيق للواقع.
  • يجب أن تأخذ الأهداف العسكرية الإسرائيلية المعلَن عنها في اعتبارها العناصر الرئيسية للتحدي: حرب استنزاف متعددة الساحات على إسرائيل، تقودها إيران التي تقترب بسرعة من الحصول على سلاح نووي، بمساعدة وكلائها المسلحين في المنطقة؛ حزب الله في لبنان، و"حماس" في غزة والضفة الغربية ولبنان، والمليشيات الشيعية في سورية والعراق، والحوثيين في اليمن.
  • على إسرائيل أن تصوغ استراتيجيا شاملة لمواجهة هذا التحدي المعقد، أمنياً وسياسياً، وأن تعزز من قدراتها الأمنية وتوسع تعاونها مع شركائها في الإقليم وحول العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. والأهم من ذلك كله أنه يجب على إسرائيل أن تتغلب على مصدر ضعفها الرئيسي حتى الآن، وهو الساحة السياسية الداخلية التي تعاني جرّاء أزمة سياسية عميقة ومستمرة، وحكومة تتشبث بالسلطة بعد أن فقدت دعم أغلبية الجمهور.