الولاء قبل كل شيء، والحركة الانقلابية آتية لتحكم
تاريخ المقال
المواضيع
المصدر
- تصعب المبالغة في وصف الدهشة العالمية أمام الفوز الساحق للرئيس المنتخب دونالد ترامب. لقد اجتاح ترامب جميع "الولايات المتأرجحة"، وحصل على أغلبية ساحقة من الأصوات الأميركية، وهو ما فاجأ الجميع وهزم كمالا هاريس بكل المقاييس، وفي كل القطاعات، بما في ذلك القطاعات "الديمقراطية التقليدية"، مثل النساء البيضاوات. حتى إن المجتمع الأميركي من أصل أفريقي والناخبين من أصول لاتينية انتقلوا، وبأعداد كبيرة، من الحزب الديمقراطي إلى معسكر ترامب، ومن المتوقع أن يكون لهذا التحول تأثيرات كبيرة في المستقبل. لقد حسم الأميركيون أمرهم، وأرادوا رئيساً منتصراً.
- يُعد فوز ترامب، إلى حد كبير، انتصاراً ثقافياً وأيديولوجياً على "تطرُّف" المعسكر الليبرالي. فهذا الملك الجديد - القديم لأميركا، الرجل الفظ، الذي جرت محاولة إقالته مرتين، والمتورط حتى قمة رأسه في قضايا وشبهات قانونية، خاطب الأميركيين بعبارات واضحة: أسود وأبيض، خير وشر، جميل وقبيح، صديق وعدو. لقد باع الوضوح وازدرى الغموض. وتساءل مستهزئاً: "من هي كمالا؟ هل هي هندية، أم سوداء؟" أسلوب ترامب معروف؛ فهو يقول ما يُحظر قوله في ثقافة "الاستقامة السياسية" التي يعتقد كثيرون من الأميركيين أنها صارت مبالَغاً فيها. أمّا بالنسبة إلى قضايا "المتحولين جنسياً"، فإن ترامب لا يتناولها، وفي رأيه، هناك فقط رجال ونساء.
حركة ثورية وعلى رأسها مخلّص
- بعد خسارته أمام بايدن في سنة 2020، اعتُبر ترامب حصاناً ميتاً. كان رجلاً مهزوماً، مذلولاً، شخصاً أحلّ الفوضى، وتعرّضت أملاكه في فلوريدا لمداهمة من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي لجمع أدلة ضده. احتفل كثيرون بـ"التخلص من الفاشي"، حتى إن مقربين منه، مثل نائب الرئيس مايك بينس، ابتعدوا عنه.
- لكن المعجزة حدثت. نهض ترامب مجدداً، قاتل كل المؤسسات، ونجح في تأجيل وإرهاق العمليات القضائية. وفي النهاية، قاد حركة "MAGA" الأميركية الكبيرة نحو معركة النصر. لو كانت النتائج متقاربة، لربما انتهى الأمر بإراقة دماء في الشوارع، لكن الانتخابات حُسمت بهزيمة كبيرة للديمقراطيين، وسيستغرق الأمر وقتاً طويلاً للتعافي.
- بدأ المسار نحو المجد بالتدريج؛ في البداية، هزم ترامب جميع منافسيه في الحزب الجمهوري. ثم راقب بسعادة تدهوُر جو بايدن. وأخيراً، سحق هاريس والديمقراطيين، الذين صاروا يلعقون جراحهم جرّاء اليأس والارتباك. وربما كان عزاء هؤلاء الوحيد أن رئاسة ترامب لن تدوم إلا أربعة أعوام، ثم سيضطر الرجل إلى التقاعد.
- ما قاده ترامب كان حركة ثورية، لا مجرد حزب. لقد وقف ضد المؤسسات، وضد التقاليد. وبالنسبة إلى كثيرين من مؤيديه، كانت الانتخابات حرباً ضد "تشويه إرادة الشعب"، وضد "الديمقراطية". عندما قال المنقذ، "لن أمانع لو أطلقوا النار على خصومنا"، لم يُصدم جمهوره بالمقولة، بل اعتبرها مزحة.
- لطالما زعم ترامب أنه فاز أيضاً في سنة 2020. هذه المرة، لم يحصل على المجد المهلّل فحسب، بل وصل إلى مكانة قداسة حقيقية. فمؤيدوه، وهو نفسه، يرون في نجاته من محاولات الاغتيال التي تعرّض لها خلال الحملة الانتخابية دليلاً على أنه خيار الله. وصرّح ترامب بذلك بنفسه في خطاب النصر.
بناء الخلية، بناء أميركا جديدة
- لقد انقضت الانتخابات، والنصر حلو المذاق. لكن الآن، يجب إدارة الحكم. فالقيادة لا تقوم فقط على الكاريزما، أو النزوات، أو التجمعات الجماهيرية. هناك العديد من القضايا المطروحة على الساحة بشأن الاقتصاد، والصحة، والسياسة الخارجية. لدى أميركا الديمقراطية تراث، ومؤسسات، وممثلون منتخَبون، ومحاكم، وقوانين. بل إن ترامب نفسه يرغب في ترك إرث عظيم وراءه. لقد أُتيحت له فرصة استثنائية لدخول التاريخ كرئيس عظيم فعلياً، وليس فقط كبطل للحملة الانتخابية. والآن، تبدأ مرحلة الانضباط، ويبدأ العمل الجاد. يعتمد نجاح الرجل على خلق التوازن بين طبيعته الترامبية وتحقيق إنجازات حقيقية. في الوقت الحالي، يرتفع مؤشر البورصة، والقطار انطلق.
- تستمر فترة الانتقال في أميركا بين الإدارة المنتهية والإدارة الجديدة مدة 11 أسبوعاً، حين يدخل ترامب إلى البيت الأبيض، بعد مراسم التنصيب في 20 كانون الثاني/يناير. أمّا في بريطانيا، فإن الانتقال من الفوز في الانتخابات إلى دخول مقر الحكومة في داونينغ ستريت 10 يستغرق بضع ساعات. خلال فترة الانتقال إلى الإدارة الجديدة، لن يكون لدى ترامب بعد سلطة رئاسية فعلية، لكن لديه الشرعية، وروحه تحوم في الأجواء.
- الآن، يجب على ترامب التركيز على شَغل المناصب وتحديد المهمات، لأن المجهول ينتظر دائماً في الزاوية. يُنسب الإخفاق في أزمة خليج الخنازير التي واجهتها إدارة كينيدي في بداية سنة 1961 إلى عملية انتقالية فاشلة من إدارة أيزنهاور. حتى الرئيس كلينتون تعثّر في بداية ولايته عندما تبيّن أن وزيرة العدل التي اختارها، زوي بيرد، كانت قد وظّفت مهاجراً غير شرعي، ولم تدفع تأميناته الاجتماعية. سيتم شغل آلاف الوظائف في الأشهر المقبلة، وعندما كنت أقيم بواشنطن، كان الجميع يبحث عن شقق للإيجارخلال تلك الفترة.
- يعمل ترامب بجد لتجنُّب الأخطاء. إن الانتقال إلى البيت الأبيض مهم للغاية، وللرئيس السابع والأربعين خبرة سابقة، بصفته الرئيس الخامس والأربعين. لقد عيّن ترامب سوزي ويليس، وهي إحدى مديرات حملته، رئيسة للطاقم في البيت الأبيض. بينما يتميز ترامب بشخصيته الظاهرة، فإن ويليس دقيقة ومؤسساتية، وتوصف بأنها "امرأة حديدية". أيضاً عيّن ترامب هوارد لتنيك كشخصية بارزة في تأليف الحكومة الجديدة واختيار الأفراد. لتنيك من نيويورك، وهو يهودي، يبلغ من العمر 63 عاماً، يجب أن يتولى تعيين نحو 4000 وظيفة، منها ألف وظيفة بحاجة إلى موافقة مجلس الشيوخ. لتنيك محترف ورجل أعمال مرّ بمصاعب كبيرة. لقد تعرضت شركته لخسارة فادحة في هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، حيث قُتل 658 من موظفيه في برجَي التجارة العالميّين. كان هؤلاء الموظفون يعملون في الطبقات العليا، ولم تتَح لهم فرصة للنجاة، كما قُتل شقيقه أيضاً. وفي ذلك الوقت، كان لتنيك يصطحب ابنه إلى المدرسة. منذ ذلك الحين، استعاد عافيته، وبنى إمبراطورية، ويُعتبر أحد المقربين من ترامب.
- منذ فترة طويلة، يعمل لتنيك مع فرق تقوم بمراجعة آلاف السيَر الذاتية. ووفقاً للتقارير، يتم تقديم أربعة مرشحين للرئيس ليختار من بينهم. ويشارك أيضاً ضمن الفريق الاقتصادي والتنظيمي الملياردير والمبتكر إيلون ماسك، العبقري الذي حوّل "تويتر" إلى "X". ماسك يدعم ترامب، وترامب يبادله الدعم، ويُعتبر ماسك جزءاً من هذا الانتصار الكبير. لقد وردَ أنه سيترأس، إلى جانب رجل الأعمال الجمهوري فيفيك راماسوامي، لجنة تهدف إلى قيادة تغييرات في الحكومة الفيدرالية وتعزيز "الكفاءة". ويدّعي ماسك أن "ثورة ترامب" ستوفر على الأقل تريليونَي دولار فوراً. ويضم فريق ترامب الاقتصادي أيضاً مستثمرين آخرين وأصحاب رؤوس أموال معروفين في الولايات المتحدة.
رؤيا كوشنر في مقابل رؤيا هاكبي
- يحب ترامب الأشخاص المخلصين. صحيح أنه شخص انتقامي، لكنه أظهر أيضاً القدرة على الصفح والمضي قُدماً. لقد وصفه نائب الرئيس جي دي فانس، علناً، في إحدى المرات بأنه "أحمق"، بل أيضاً قال في مناسبة أُخرى إنه "يشبه هتلر". لم ينسَ ترامب ذلك، لكنه تجاوز الأمر. وكذلك، وزير الخارجية المقبل، السيناتور الموهوب ماركو روبيو، كان قد شتمه في وقت سابق، بعد أن وصفه ترامب في مناظرة تلفزيونية بأنه "ماركو الصغير". وبعد خسارته أمام ترامب في السباق الجمهوري، قرر روبيو أن يراهن على هذا الرجل الأشقر. يُعتبر روبيو مؤيداً لإسرائيل، ووصل إلى مجلس الشيوخ في سن الـ 39، بعد أن كان رئيساً لمجلس النواب في ولاية فلوريدا.
- سيعمل روبيو أيضاً مع مستشار الأمن القومي الجديد مايك وولتز، عضو الكونغرس من ولاية فلوريدا، الذي يتبنى خطاً صارما تجاه الصين. لقد قاتل وولتز في أفغانستان، وعمل في إدارات سابقة، بما في ذلك مع وزيرَي الدفاع رامسفيلد وغيتس. وبالروحية التي يعمل ترامب وفقها، من المتوقع أن يطالب شركاء الناتو بمشاركة أكبر في الدفاع عن أوروبا.
- أمّا في فريق السياسة الخارجية المتميز لترامب، فستشغل أيضاً أليس ستيبانيك منصب السفيرة المرتقبة لدى الأمم المتحدة. اشتهرت ستيبانيك في جلسة الاستماع الدراماتيكية التي خضعت لها الجامعات الكبرى، مثل هارفارد وبنسلفانيا وMIT، في إثر الأحداث "المعادية للسامية" في الحُرُم الجامعية. لقد أحرجت تلك المؤسسات، وتسببت بهزة كبيرة أدت إلى استقالة اثنتين من رؤساء الجامعات. من المتوقع أن تواصل ستيبانيك النهج الداعم لإسرائيل، مثلما فعلت نيكي هيلي في إدارة ترامب السابقة. أمّا هيلي، فستبقى في بيتها خلال هذه الولاية، لأنها فشلت في اختبار الولاء لترامب، بعد أن خاضت المنافسة ضده في الانتخابات التمهيدية. أيضاً وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي كان حتى أيام قليلة مرشحاً رئيسياً لمنصب وزير الدفاع، جرى استبعاده من الإدارة.
- سيواصل ترامب مهمة التعيينات، وسيُعلن أسماء جديدة كل يوم. ومن بين التعيينات المتوقعة: تعيين مايك هاكبي سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل، وستيفن ويتكوف، اليهودي والمقرّب من ترامب، مبعوثاً للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، وجون راتكليف رئيساً لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، ومقدم قناة "فوكس نيوز" بيت هيغسث وزيراً للدفاع. جميع هذه التعيينات قد تدفع الحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً جناح اليمين المتطرف فيها، إلى الابتسام، إذ من المتوقع أن تتفق الحكومتان بشأن كثير من القضايا المشتركة.
- لكن في النهاية، يجب أن نتذكر أن ترامب يبقى ترامب، فهو يهتم بمصالح الولايات المتحدة، أولاً وقبل كل شيء. سيكون ترامب إلى جانبنا ما دمنا نشكل "أرصدة" لأهدافه. وإذا ما أزعجه بن غفير، وسموتريتش، وأفكار الضم، فاستعدوا لتلقّي الضربة. من المهم التذكير بأنه في ولايته السابقة، طرح ترامب "خطة القرن" التي أعدّها صهره جاريد كوشنر، وتحدثت عن حل دولتين لشعبين. وفي الشرق الأوسط الجديد، الذي يسعى ترامب لتعزيزه، هناك أصدقاء آخرون للولايات المتحدة– وهؤلاء أيضاً لديهم مصالحهم.
- هل سيقوم السفير الجديد مايك هاكبي بإلغاء رؤية كوشنر بشأن الاندماج في الشرق الأوسط؟ وهل ستصدر من الإدارة الجديدة رؤية لدولة واحدة من النهر إلى البحر، بدلاً من حل الدولتين؟ لا يزال من الصعب معرفة ذلك. في أيّ حال، من المتوقع أن تستمر الثورة الشعبية التي يقودها ترامب، والتي ظهرت بوضوح في صناديق الاقتراع، في واشنطن أيضاً – مع إدارة لا تقل ثوريةً.