الحرب ضد "حماس" لا تحتاج إلى تبريرات، لكن هذا لا يُعتبر تصريحاً للتهجير
تاريخ المقال
المصدر
- الأمر المذهل في تنبؤات البروفيسور يشعياهو ليفوفيتش [1903-1994] بعد حرب الأيام الستة، هو الدقة الفورية في تشخيصه، بعد أيام فقط على اتضاح حجم الانتصار العسكري الكبير. وإلى جانب قدراته في المنطق وأُفقه الواسع، كان الرجل متديناً ومحافظاً، إلى جانب كونه عالِماً في المنطق والاستنتاجات. يمكن أن ندرك لماذا كان مميزاً في أوساط الجمهور المحافظ، ويثير لدى آخرين تحفظات عنه، لقد كانت استنتاجاته المنطقية تبدو كأنها استعلائية، وتقترب من الوقاحة. وقال سابقاً إن الاستفزازات تهدف إلى لفت الانتباه، ولا يمكن القول إن كل مضطهد نازي. وبحسب كلامه، إن هذه الصفة محفوظة فقط لأوشفيتس والحل النهائي [المحرقة].
- النقاشات بشأن قناعات ليفوفيتش الدينية تذكّر، إلى حد ما - على الرغم من الفارق الزمني بينهما- بالحظر الذي عانى جرّاءه سبينوزا [فيلسوف هولندي 1632-1677]. كلاهما كان يحظى بالتقدير في أوساط الجمهور "المتنور"، ومرفوضاً بقوة في أوساط الجمهور المتدين، حتى إن الحاخام كوك [1865-1935] قال عنه إنه "كافر محافظ على التعاليم الدينية". لكن النقاش اليوم لا يتطرق إلى نقاشاته وتحليلاته الدينية، إنما يتطرق إلى تحليله للواقع، بحسب تطوُّر الأمور منذ سنة1967 حتى يومنا هذا. وهنا، يبدو أنه كان ذا بصيرة.
- هناك سرديتان بشأن حقّنا في أرض إسرائيل: هناك وثيقة الاستقلال التي تقول إن "هذا هو الحق الطبيعي للشعب اليهودي في أن يكون كبقية الشعوب، ويعيش في دولته المستقلة"؛ وإلى جانبها منذ البداية، كان هناك جمر "الخلاص" الذي تحدث عنه الحاخام كوك، وهو ما تعزز بعد "حرب الغفران"، وصعود نجم "غوش إيمونيم"، وتطور أخيراً، مرة أُخرى، ووصل إلى صيغة المشروع السياسي لحزب "قوة يهودية" الذي يقول "بحكم الوعد الإلهي لشعب إسرائيل، فإن أرض إسرائيل على كافة مناطقها المذكورة في التوراة هي ملك لشعب إسرائيل بجميع أجياله". عبّر جندي احتياط في غزة عن هذا بدقة عندما التقط صورة، وهو يقول: "لن نتوقف حتى نستكمل المهمة التي كُلفنا بها: نحتل ونطرد ونستوطن. هل تسمع يا بيبي؟ نحتل، ونطرد ونستوطن".
- هذا ما قصده ليفوفيتش، وما قاله الضابط. المشكلة ليست في محكمة الجنايات في لاهاي، على الرغم من أن القضية لم تنتهِ هناك. المشكلة أننا بتصرفاتنا، وبغضبنا، وبأيدينا، نعظّم المعاناة والبطولة الفلسطينية، ونرفعها إلى مستويات عالمية. ما نقوم به سيعزز تصميمهم على المضيّ في قتالنا، وعلى هذا، سيكبر الأولاد الذين تجنّدهم "حماس" الآن. أمّا في العالم، فتتطور هذه السردية، وبات ينمو حولها مجال كامل من الأدب والسينما، يتهم الصهيونية، ويعظّم النضال الفلسطيني، كذلك، هناك حركات سياسية كاملة تتبنى هذا النضال، وجماعات كبيرة تهتف "من البحر إلى النهر".
- من أجل دحض الرواية الفلسطينية، كان يجري التوجه إلى دعوة وثيقة الاستقلال "أبناء الشعب العربي، سكان دولة إسرائيل، إلى الحفاظ على السلام والمشاركة في بناء الدولة - حتى خلال الهجوم الدامي علينا منذ أشهر". لقد كانت هذه الحجة الأساسية في الرواية الصهيونية من أجل تبرير حرب "الاستقلال" ومشكلة اللاجئين التي نتجت منها. وهذا الادعاء بقي مركزياً حتى بعد سنة1973، بعد أن باتت الفصول الجديدة في الروايتين - قضية الاحتلال و"أوسلو" و"فك الارتباط" - هي جبهة الصراع.
- والآن، نحن في الفصل المقبل. الرسالة التي أرسلناها من خلال الدمار والقتل في لبنان وغزة هي رسالة واضحة - لقد انتهت الأحلام بتدمير دولة اليهود. وإن خرجنا الآن، بدلاً من وعدهم بنكبة جديدة - فنحن سنعزز الملحمة الفلسطينية، وبقوة.
- تبدو كلمة "طرد" ثقيلة على السمع، حتى بالنسبة إلى الذين يؤمنون بـ"الرد الصهيوني اللائق"، بينما يبدو مصطلح "الهجرة الطوعية" أفضل. دانييلا فايس [من الزعامات اليمينية في الضفة الغربية، ومن الشخصيات البارزة في حركة غوش إيمونيم] بدأت بتوزيعهم على دول، مثل مصر وتركيا وأمستردام وبرلين. إنها تؤمن بذلك، حسبما يبدو. ويمكنها أن تؤمن طبعاً بأنه من أجل إقامة وطن قومي، يجب أن نحكم، مثلما قال الحاخام ليفينغر [1935-2015، مؤسس الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية] في يوم من الأيام. لكن مصطلح "الحكم" له العديد من الأوجه، وفي جميع الأحوال، الحكم لا يعني الطرد. عندما نتحدث عن طرد، أو "هجرة طوعية" أو في الأساس "هجرة قسرية" - وهو ما يقصدونه هنا- نعيد الروايتين، الصهيونية والفلسطينية، مباشرةً إلى سنة1948 والروايات المتناقضة بشأن "إخلاء" القرى.
- قتالنا لـ"حماس" لا يحتاج إلى ذرائع، وطبعاً لا يحتاج إلى تبرير. لكن هذا لا يُعطينا تصريحاً، ولا تبريراً لارتكاب نكبة ثانية. هكذا سنمنح الرواية الفلسطينية دليلاً صلباً بشأن النكبة الأولى. ونتهم الصهيونية بكل القصة.