حكمت إسرائيل على مئات الآلاف من الفلسطينيين بالفقر، وهذه أيضاً جريمة أخلاقية
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- يزداد النقاش في صحيفة "هآرتس"، في الآونة الأخيرة، بشأن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر. وعلى الرغم من أن النقاش العام المتعلق بالجرائم يُعد خطوة أولى نحو وقفها، فإن هذا النقاش يتجاهل تماماً جريمة موازية تُتهم بها إسرائيل أمام محكمة دولية أُخرى، وهي: حرمان مئات الآلاف من العمال الفلسطينيين من الأجور والعمل، لا بل من العيش بكرامة.
- مؤخراً، قدمت منظمات عمالية دولية شكوى ضد إسرائيل أمام منظمة العمل الدولية (ILO) التابعة للأمم المتحدة. وتدّعي هذه المنظمات أن حكومة إسرائيل تعمل منذ السابع من أكتوبر على منع ملايين الفلسطينيين من العمل وكسب الرزق والعيش بكرامة.
- سيجري التدقيق في الانتهاكات الإسرائيلية للمعاهدات الدولية التي وقّعتها إسرائيل، في إطار جلسة ستُعقد في محكمة خاصة أُنشئت لهذا الغرض، وعلى رأسها الاتفاقية المتعلقة بضمان الحق في الأجر الأساسي (وكذلك الحق في العمل). وتدّعي المنظمات أن العمال الفلسطينيين، الذين يعيشون منذ السابع من أكتوبر 2023 تحت الحصار، ما زالوا [حتى وهم في منازلهم] يعملون فعلياً، وبالتالي يحق لهم الحصول على أجورهم، بالإضافة إلى حقّهم في إتاحة وصولهم إلى أماكن عملهم. وعلى الرغم من أن منظمة العمل الدولية لا تمتلك صلاحية فرض عقوبات مادية، فإن الجلسة المنتظرة تعكس حجم الكارثة، ومن المتوقع أن تؤثر في مكانة إسرائيل في العالم المتقدم. أمّا في إسرائيل، فالرد عبارة عن صمت مطبق.
- ما من مبرر أمني أو اقتصادي لهذه السياسة. لقد نصحت المنظومة الأمنية، في الأيام التي أعقبت السابع من أكتوبر، بضرورة السماح للعمال الفلسطينيين بالدخول إلى إسرائيل للعمل، بهدف تقليص الأزمات في المناطق المحتلة ومنع التوترات الاجتماعية الناتجة منها، وأيضاً لأن أصحاب العمل بحاجة ماسة إلى هؤلاء العمال في قطاعات البناء، والصناعة، والرعاية، والسياحة، في حين أن محاولات الحكومة استقدام عمال مهاجرين، كبديل من العمال الفلسطينيين، باءت بالفشل. ويتّضح، من مطالبات أصحاب العمل بعودة العمال الفلسطينيين، أن هذه جبهة أُخرى تفشل فيها الحكومة، ويبدو أن الانتصار الوحيد الذي يلوح في الأفق هو انتصارها على الاقتصاد الإسرائيلي ذاته.
- من الصعب اتهام الحكومة الإسرائيلية بالافتقار إلى العقلانية فترة طويلة، لكن ربما يوجد لدى القيّمين على هذه السياسة داخل الحكومة منطق مختلف لا يرتكز على الأمن، أو الاقتصاد. ربما كان المنطق الذي يوجههم هو الرغبة في توسيع الاستيطان اليهودي، مع قمع الفلسطينيين، اقتصادياً وسياسياً. لهذا السبب، تعمل الحكومة ضد التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، وفي الوقت الذي تمنع دخول الفلسطينيين إلى إسرائيل، فإنها تسمح بتوظيفهم في المستوطنات. هذه السياسة تكشف الوجه الحقيقي للحكومة: لا أمن، ولا اقتصاد، بل أيديولوجيا قائمة على الإقصاء والتدمير.
- الإجراءات القانونية الجارية في منظمة العمل الدولية لا تكشف عن الأضرار الاقتصادية الهائلة فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على الجريمة الأخلاقية التي تتناقض مع القيم التي بُنيت عليها الاقتصادات العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وتتنافى مع الاتفاقيات الدولية التي تلتزم بها إسرائيل. هذه الاتفاقيات تدعم قوانين العمل الأساسية والقضاء العمالي داخل إسرائيل.
- لقد آن أوان استيقاظ المجتمع الإسرائيلي وتحرُّكه لتغيير هذه السياسة المدمرة. إن استمرار هذه السياسة لا يضرّ بالاقتصاد الإسرائيلي ويعمّق الأزمة الإنسانية في الأراضي المحتلة فقط، بل أيضاً يلوث المكانة الأخلاقية لإسرائيل في العالم، ويتعارض مع القيم الأساسية التي يستند إليها المجتمع الإسرائيلي نفسه.
- إن مسؤولية إسرائيل عن تأمين مصدر رزق للفلسطينيين تستند إلى سيطرتها العسكرية على الضفة الغربية وقطاع غزة. فعلى مدار عقود، رسّخت سياسة الحكومة الإسرائيلية تبعية الفلسطينيين لسوق العمل الإسرائيلي، من خلال المنع المتعمد والمنهجي لتطوير الاقتصاد الفلسطيني. وتشمل هذه الوسائل فرض قيود صارمة على حركة البضائع والأفراد، ومنع تطوير المناطق الصناعية، وهو ما جعل العمل في إسرائيل الخيار الأكثر ربحاً، والمفضل لدى كثيرين.
- إن منع دخول الفلسطينيين إلى أماكن عملهم في إسرائيل – التي لم يتم فصلهم منها، والتي يعتمدون عليها لتأمين معيشتهم – يُعد انتهاكاً للمعاهدات الدولية، وعلى رأسها الاتفاقية الخاصة بضمان حماية الأجور لسنة 1949. ويكتسب هذا الانتهاك خطورته الخاصة، نظراً إلى طول الفترة التي استمر خلالها.
- وتُعدّ الحقائق التي تشكل الأساس للإجراء القانوني خطِرة للغاية: فمنذ السابع من أكتوبر، تمنع الحكومة الإسرائيلية دخول أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني كانوا يعملون في إسرائيل قبل اندلاع الحرب. وبهذا القرار، تُلقي بمئات الآلاف من العمال العاطلين من العمل وأُسرهم في دوامة الفقر والمعاناة. كان هؤلاء العمال من أكثر الفئات استقراراً في أراضي السلطة الفلسطينية، حيث لم يكن دخلهم يعيل أُسرهم فحسب، بل كان أيضاً محركاً رئيسياً للاقتصاد الفلسطيني. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحكومة تفخر بهذه السياسة علناً، وتلتزم مواصلتها. تبدو هذه الحقائق أقل قسوةً أمام الموت والجوع والفقر الصادم في غزة، لكن الجمع بين هذه "الصور" يكشف سياسة لا تكتفي بإنتاج الجوع في غزة فقط، بل تعمل فعلياً على تجويع الفلسطينيين في الضفة الغربية أيضاً.